الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

34/03/07

بسم الله الرحمن الرحیم

 {خبر الواحد/وسائل الإثبات التَّعَبُّدِيّ/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول}
 قلنا إن هناك روايةً واحدةً تامةَ السندِ يمكن أن نطبق عليها السيرةَ العقلائية القائمة على حجية خبر الثقة ونقول إن هذه رواية ثقة، فتشملها السِّيرَة فتكون حُجَّة فإنها لم تردع عنها في خصوص هذه الرواية، فتكون هذه الرواية رادعة عن حُجِّيَّة كل خبر يخالف الْقُرآن الْكَرِيم ولا تشمل هي نفسَها؛ لأَنَّهَا هي ليست مخالفة لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ؛ لأَنَّهَا تقول بأن الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ ليس حُجَّة، وفي الْقُرآن الْكَرِيم لا توجد آية واحدة تدل عَلَىٰ أن الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ حُجَّة حَتَّىٰ تكون هذه الرواية مخالفة لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ، فهي لا تشمل نفسها. ومفادها ومضمونها هو أن الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ ليس بحجةٍ، سواء كان مُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ بنحو الأخصية، أي: كان الخبر خَاصّاً والقرآن عاما، أم كان مُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ بنحو العموم والخصوص من وجه، أم كان مُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ بنحو التباين. كل هذه الأنحاء الثلاثة من المخالفة يشملها إطلاقُ هذه الرواية.
 وهذه الرواية هي صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله ×: >الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهَلَكة، إن عَلَىٰ كل حق حقيقةً وعلى كل صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه<( [1] ).
 فكل ما خالف كتاب الله بأي نحو من أنحاء المخالفة فدعوه.
 وهذه الرواية مستجمعة لجميع النكات المطلوبة في مقام إثبات عدم حُجِّيَّة كل خبر مخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ حَتَّىٰ لو كان مُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ بنحو الْخَاصّ والعام.
 وقلنا إن هذه الرواية أَوَّلاً تامة السند.
 وَثَانِياً: مدلولها نفي الْحُجِّيَّة لا نفي الصدور؛ لأَنَّهُ لو كان نفي الصدور فكان يقول القائل بِأَنَّهَا لا تشمل الْعَامّ والخاص؛ لأَن المخالف عَلَىٰ نَحْوِ الْعَامّ والخاص صادر من الأئمة ^، بقرينة الأمر بالترك (فدعوه) فإن الأمر بالترك كالنهي عن الفعل، والنهي عن العمل يعني نفي الْحُجِّيَّة. فتكون نسبتها إِلَىٰ السنة القطعية نسبة الْخَاصّ إِلَىٰ الْعَامّ؛ لأَن السنة القطعية (الَّتِي يأتي الاستدلال بها عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الثقة) تقول بأن خبر الثقة حُجَّة سواء كان مُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ أو كان مُوَافِقاً. ورواية جميل هذه أخص من السنة، حيث أنها تقول بأن خبر الثقة إذا كان مُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ فهو ليس حُجَّة.
 فلا يرد عَلَىٰ هذه الرواية ما أوردناه عَلَىٰ رواية ابن أبي يعفور: >إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ لَهُ شَاهِداً مِّنْ كِتَابِ اللَهِ أَوْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَهِ صلى الله عليه وآله، وَإِلاَّ فَالَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ أَوْلَى بِهِ<( [2] )، فهي كانت تدل عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الخبر الَّذِي لم يرد مضمونه في الْقُرآن الْكَرِيم، فهناك أشكلنا عليها بأن هذه الرواية نسبتها إِلَىٰ السنة القطعية الَّتِي سوف يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى الدَّالَّة عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الثقة نسبة العموم والخصوص من وجه عَلَىٰ شرح تقدم، فإذا كانت النسبة هكذا فَحِينَئِذٍ يشملها ما دل عَلَىٰ الردع عن الخبر المخالف للكتاب والسنة القطعية؛ لأَن رواية ابن أبي يعفور مخالفة للسنة القطعية بنحو العموم والخصوص من وجه، فيشملها الخبر الَّذِي يردع عن العمل بالخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ.
 والنكتة في عدم ورود هذا الإشكال بالنسبة لرواية جميل هي أن رواية جميل ليست نسبتها إِلَىٰ السنة القطعية نسبة العموم والخصوص من وجه، بل نسبة العموم والخصوص المطلق، فَحِينَئِذٍ لا يشملها ما يردع عن الخبر المخالف للكتاب والسنة القطعية.
 هنا قد يقال: إن النسبة بين رواية جميل وبين السنة القطعية الدَّالَّة عَلَىٰ حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ ليست الأخصية (العموم والخصوص المطلق) وَإِنَّمَا النسبة أَيْضاً هي العموم والخصوص من وجه؛ لأَن رواية جميل ورد فيها عنوان >ما خالف كتاب الله فدعوه< وهذا عنوان عام لا يختص بالخبر ولم يقل: كل خبر خالف كتاب الله فدعوه؛ فَإِنَّهُ يشمل الخبر وغير الخبر سواء كان في نفسه حُجَّة مثل الخبر أو لم يكن في نفسه حُجَّة مثل القياس والاستحسان وأي شيء آخر كالإجماع المنقول، فهذه الأمور كلها مشمولة لرواية جميل. مَثَلاً: الشهرة إذا قامت عَلَىٰ رأي يخالف كتاب الله فتدخل في مفاد رواية جميل، أو إذا قام الإجماع المنقول عَلَىٰ حكم يخالف كتاب الله. فبناء عليه فتكون النسبة بين رواية جميل وبين السنة القطعية الدَّالَّة عَلَىٰ حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ عبارة عن العموم والخصوص من وجه، فتكون هذه الرواية أعم من السنة القطعية بينما السنة القطعية دَالَّة عَلَىٰ حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ، وبالعكس السنة القطعية الدَّالَّة عَلَىٰ حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ أعم من هذه الرواية لجهة كونها تشمل كل خبر ثقة سواء كانت موافقة للكتاب أو مخالفة، بينما هذه الرواية مختصة بما يخالف كتاب الله.
 ومادة الاجتماع هي الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ، فالسنة تقول بِأَنَّهُ حُجَّة ورواية جميل تقول بعدم حجيته. فبأي وجه نقدم رواية جميل عَلَىٰ السنة القطعية الدَّالَّة عَلَىٰ حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ.
 هذا ما قد يقال.
 
 علاج الإشكال:
 وعلاج هذا الإشكال أن نقول بأن النسبة حَتَّىٰ لو كانت العموم والخصوص من وجه ولكن مع ذلك هذا لا يمنع من تقديم رواية جميل عَلَىٰ السنة؛ لأَن لهذه الرواية نوعا من النظر والحكومة عَلَىٰ السنة القطعية فيكون حاكما عَلَىٰ ذاك الدليل ومقدما عليه، لأَن هذه الرواية تريد أن تبيّن مانعية مخالفة الْقُرآن الْكَرِيم عن الْحُجِّيَّة، إذا كان الخبر مُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ فتسبب هذه المخالفة أن لا يكون هذا الخبر حُجَّةً (أَيْ: تمنع مخالفة الخبر لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ عن حجيته). أي: تريد أن تقول: إن كل خبر لو خلي وطبعه.. 19 كسائر الموارد مثلما إذا افترضنا ورود رواية دالة عَلَىٰ كون الحدث مانعا عن كل عبادة ويبطل العبادةَ، فهذا الدليل الدال عَلَىٰ مانعية الحدث عن كل عبادة، ما هي النسبة بينها وبين دليل وجوب الصلاة {أقم الصلاة}؟ فإن الأخير يَدُلُّ عَلَىٰ أصل وجوب الصلاة مُطْلَقاً وهذه الرواية تقول بأن الحدث مانع عن العبادة، فدليل عبادية الصلاة يشمل الصلاة مع الحدث وبدون الحدث، ودليل مانعية الحدث يشمل الصلاة وغير الصلاة، فبينهما العموم والخصوص من وجه، ومادة الاجتماع عبارة عن الصلاة مع الحدث، لكننا لا نتعامل مع هذين الدليلين معاملة العامين من وجه، وَإِنَّمَا نقدِّم الدليل الدال عَلَىٰ المانعية عَلَىٰ دليل أصل العبادة وذلك بالحكومة؛ لأَن هذا الدليل يبين مانعية الحدث عن كل ما لو لم يكن حدث كان عبادةً. فيكون ناظرا إِلَىٰ ذاك الدليل الدال عَلَىٰ أصل عبادية الصلاة.
 أريد أن نقول: كل دليلين إذا كان أحدهما يبيّن مانعاً من الموانع بالنسبة لفعلٍ أو شَرْطاً من الشروط بالنسبة لفعل، بينما كان الدليل الآخر يبين أصل الفعل، فيكون الأول ناظرا إِلَيه، حَتَّىٰ لو كانت النسبة العموم والخصوص من وجه.
 ويكون الأمر من هذا القبيل فيما نحن فيه، فإن أردنا أن ندقق وننقنق تكون النسبة العموم والخصوص من وجه كما قلتم ويتعارضان في مادة الاجتماع؛ لكن لا نتعامل هنا معاملة العامين من وجه حيث يتساقطان، وَإِنَّمَا نقدم رواية جميل عَلَىٰ السنة بهذه النكتة؛ لأَن رواية جميل تريد أن تبين مانعاً من الموانع عن الْحُجِّيَّة وهو مخالفة الخبر لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ.
 هذا هو العلاج الصحيح لهذا الإشكال.
 لكن قد يضاف إِلَىٰ هذا العلاج علاج آخر لهذا الإشكال وهو أن يقال بأن النسبة وإن كانت هي العموم من وجه بين رواية جميل وبين السنة القطعية الدَّالَّة عَلَىٰ الْحُجِّيَّة، لكن القدر المتيقن من رواية جميل هو خبر الثقة >الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهَلَكة، إن عَلَىٰ كل حق حقيقةً وعلى كل صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه<( [3] )؛ وذلك باعتبار أن الخبر الثقة هو الفرد البارز والمتعارف في محل الابتلاء عندهم آنذاك، أي: هو الَّذِي كان يترقب فيه أن يكون مُوَافِقاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ تارة وَمُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ تارة أخرى، أَمَّا غيره كالإجماع والشهرة فلم يكن بارزاً ومتعارفاً وداخلاً في محل ابتلائهم. فلو قدمنا السنة القطعية عَلَىٰ رواية جميل وقلنا بأن الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ حُجَّة بموجب السنة القطعية فمعنى ذلك أن الخبر المخالف أخرجناه من رواية جميل وأبقينا تحت رواية جميل الإجماع والشهرة، وهذا معناه أننا أخرجنا القدر المتيقن من رواية جميل، وإخراج القدر المتيقن من دليل ما معناه إسقاط ذاك الدليل. وهذا بخلاف العكس فإننا لو قدمنا رواية جميل عَلَىٰ السنة لا يلزم منه إسقاط السنة القطعية الدَّالَّة عَلَىٰ الْحُجِّيَّة، فإن السنة تحتها نوعان من الخبر، الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ والخبر الَّذِي لا يخالف الْقُرآن الْكَرِيم؛ فإن الخبر الَّذِي لا يخالف الْقُرآن الْكَرِيم ليس فردا نادراً.
 إذن، فالمورد مورد تعارض عامين بنحو العموم والخصوص من وجه ومادة الاجتماع هي القدر المتقين لأحد الدليلين بحيث لو أخرجنا من هذا الدليل معناه رفع اليد عن هذا الدليل نهائيا، وهذا بخلاف الدليل الآخر. ومتى ما كان الأمر من هذا القبيل فقد يقال بأن حكم هذا العموم والخصوص من وجه حكمه حكم العموم والخصوص المطلق (أَيْ: كما نرفع اليد عن الْعَامّ في العموم والخصوص المطلق كذلك هنا نرفع اليد ..).
 هذا علاج آخر لهذا الإشكال.
 هذا العلاج وإن كان لا يخلو من وجه لكن الواقع أننا لو التزمنا بأن السنة القطعية الدَّالَّة عَلَى حُجِّيَّة خبر الثقة لا تشمل نفسها (أَيْ: لا تشمل الخبر المخالف للكتاب بنحو التباين أو بنحو العموم من وجه) وإن شملت المخالفة بنحو الأخصية، فسوف تعود النسبة بين السنة وبين رواية جميل نسبة العموم والخصوص من وجه؛ لأَن السنة تدل عَلَىٰ الْحُجِّيَّة سواء كان الخبر مُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ أو لم يكن مُخَالِفاً وخبر جميل يَدُلُّ عَلَىٰ .. فتتعارضان في مادة الاجتماع الَّتِي هي الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ بمثل الأخصية. وهنا لا تأتي تلك النكتة بِأَنَّهُ لو قدمنا في مادة الاجتماع .. لأَن مادة الاجتماع ليست هي القدر المتيقن لا للسنة ولا لرواية جميل، ..
 فلا تكون رواية جميل بحكم الأخص حَتَّىٰ تقدم عليها، وَحِينَئِذٍ يعود الإشكال ولا ينفع العلاج الثَّانِي، وينحصر العلاج بالعلاج الأول وهو حكومة خبر جميل عَلَىٰ السنة القطعية الدَّالَّة عَلَىٰ الْحُجِّيَّة..


[1] - العاملي، وسائل الشيعة: ج27، ص119، ح35 من الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
[2] - العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: ج27، ص111، ط آل البيت ^.
[3] - العاملي، وسائل الشيعة: ج27، ص119، ح35 من الباب 9 من أبواب صفات القاضي.