الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

34/02/08

بسم الله الرحمن الرحیم

 {خبر الواحد/وسائل الإثبات التَّعَبُّدِيّ/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول}
 كان الكلام في الاستدلال بالروايات الَّتِي جعلت المعيارَ والميزان في قبول الخبر ورفضه موافقتَه لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وعدم موافقته لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وذلك بعد أن غضننا النظر عن الاحتمال الَّذِي طرحناه وهو أن يكون المقصود بالموافقة وعدم الموافقة الملائمةُ مع المزاج الْعَامّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وعدم الملائمة مع المزاج الْعَامّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، بعد ذلك أصبحنا بصدد دراسة صِحَّة هذا الاستدلال بهذه الروايات عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خبر الواحد وعدم صحته.
 وذكرنا في البحث السابق أن الأمر دائر بين معيارين:
 1- إما أن يكون المعيار عبارة عن المخالفة لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (أي: نحمل عدم الموافقة عَلَىٰ المخالفة.
 2- وإما أن يكون المعيار عبارة عن عدم الموافقة لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ (أي: نحمل قوله: >ما وافق الْقُرْآن الْكَرِيم< عَلَىٰ أَنَّهُ وافق القرآن الكريم في المضمون، و>ما لم يوافق الْقُرْآن الْكَرِيم< إما أن نحمله عَلَىٰ المخالفة وإما أن يكون المعيار عبارة عن عدم الموافقة لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ. فإذا كان المعيار عبارة عن عدم الموافقة فهذا أعم من المخالفة؛ فقد يكون الخبر غير موافق لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ولٰكِنَّهُ أَيْضاً غير مخالف لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، بينما ذاك المعيار الأول وهو المخالفة أخص.
 فذكرنا أن الضابط والمعيار الأخص هو المقدَّم عَلَىٰ المعيار الأعم، وذكرنا نكتته.
 ثم قلنا: إن بالإمكان أن نذكر شواهد أخرى عَلَىٰ أن المعيار الأخص هو المحكَّم وَبِالتَّالِي يكون المعيار في رفض الخبر عبارة عن مخالفته لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ والمعيار في قبول الخبر عبارة عن عدم مخالفته لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَحِينَئِذٍ نصل إِلَىٰ النتيجة نفسها الَّتِي ذكرناها وهي عبارة عن أن هذه الروايات لا تدل حِينَئِذٍ عَلَىٰ أكثر من عدم حُجِّيَّة الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ، وأَمَّا الخبر الَّذِي لا هو مخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ ولا هو موافق (أي: مضمونه غير موجود في الْقُرآن الْكَرِيم لكنه أَيْضاً لا يخالف الْقُرآن الْكَرِيم وهذا هو القسم الغالب من أخبار الآحاد (أَيْ: لا هي أخبار مخالفة لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ بحيث تخالف مضامينُها مضامينَ القرآن الكريم، ولا هي موافقة بحيث تكون مضامينها موجودة في القرآن الكريم)، فهذا القسم الغالب غير مشمول لهذه الروايات؛ لأَن الروايات تدل عَلَىٰ أن الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ ليس حجة وغالب رواياتنا ليست مخالفةً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ، فلا تشملها هذه الروايات.
 وقلنا إن هناك شواهد عَلَىٰ هذا المدعى فذكرنا الشاهد الثَّانِي والشاهد الرابع من الشواهد السابقة ويمكن ذكر الشاهد السادس من تلك الشواهد أَيْضاً قرينةً يمكن الاستشهاد بها عَلَىٰ حمل غير الموافق عَلَىٰ المخالف وذلك بأن يقال:
 إن التفصيل المذكور في رواية جابر المتقدمة >فإن وجدتموه لِلْقُرْآنِ موافقاً فخذوه به وإن لم تجدوه مُوَافِقاً فردوه وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده حَتَّىٰ نشرح لكم ما شُرح لنا< فهذا التفصيل بين هاتين الصورتين لا يناسب أن يكون المقصود من عدم الموافقة هو مجرد أَنَّهُ لا يوافق نصاً معيناً من الْقُرآن الْكَرِيم، ولو لم يكن مُخَالِفاً أَيْضاً لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ لأَن من الواضح أن مجرد عدم وجود مضمون هذا الحديث في الْقُرآن الْكَرِيم ليس دَلِيلاً عَلَىٰ أن هذا الحديث كذب (أي: نحن لا نقطع من خلال هذا بكذب الحديث حَتَّىٰ يأمرنا الإمام × بردّ هذا الحديث). ولو كان المراد هذا لم تكن هناك نكتة للتفصيل بين الصورة الثَّانِيَة والصورة الثَّالِثَة، فكان المفروض أن يأمر الإمام × بالتوقف في تلك الصورتين، والحال أَنَّهُ × أمر بالرد في الصورة الثَّانِيَة وأمر بالتوقف في الصورة الثَّالِثَة. فهذا التفصيل يناسب أن يكون المقصود من عدم الموافقةِ المخالفةُ (أي: إن وجدتموه مُخَالِفاً للكتاب فردّوه). فيكون هذا التفصيل قرينة وشاهدا عَلَىٰ حمل غير الموافق عَلَىٰ المخالف، بحيث يكون المراد من قوله: >فإن لم تجدوه مُوَافِقاً للكتاب فردوه< أن يكون مُخَالِفاً للكتاب. فيكون هذا التفصيل بين الصورة الثَّانِيَة والصورة الثَّالِثَة وجيهة.
 إذن، جملة من الروايات الَّتِي ورد فيها عنوان >موافقة الكتاب< (وهي تلك الروايات الَّتِي ورد فيها عنوانان: عنوان موافقة الكتاب وعنوان مخالفة الكتاب) لا تدلنا عَلَىٰ أكثر من عدم حُجِّيَّة الخبر المخالف.
 وكذلك الحال في جملة أخرى من تلك الروايات وهي الَّتِي اقتصرت عَلَىٰ ذكر عنوان >موافقة القرآن الكريم< مثل: >ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف<. وهذا يعني: عدم الموافقة مع حفظ الموضوع (أي: مضمون هذا الحديث موجود في الكتاب وقد تعرّض الْقُرآن الْكَرِيم لهذه المسألة) وَحِينَئِذٍ لا يوافق هذا الحديث القرآن الكريم. والظاهر من هذا التعبير (ما لم يوافق...) هو عدم الموافقة مع حفظ الموضوع. أي: أن يكون مضمون هذا الحديث مَوْجُوداً في الْقُرآن الْكَرِيم (ويكون الْقُرآن الْكَرِيم متعرضاً لهذه المسألة نفسها الَّتِي تعرض لها الحديثُ) لا أن يكون >عدم الموافقة< من باب السالبة بانتفاء الموضوع، بأن لا يكون موضوع هذا الحديث مَوْجُوداً في الْقُرآن الْكَرِيم أَسَاساً. فهذا العدم (العدم بانتفاء الموضوع) خلاف الظاهر.
 والحاصل أَنَّهُ سلبٌ بانتفاء المحمول، لا السالبة بانتفاء الموضوع، أي: توجد في الْقُرآن الْكَرِيم آيةٌ معينة في بيان حكم مورد الحديث، ولكن الحديث لا يوافق الآية في هذا المورد، وليس السَّلْب بانتفاء الموضوع بأن لا يكون الْقُرآن الْكَرِيم متعرضاً للمسألة إطلاقاً.
 وهذا ظهورٌ كَثِيراً ما يتفق في الأعدام المضافة إِلَىٰ جملة من العناوين.
 وإن شئت قلت: إن هذا ظهور في العدم في مقابل الملكة، لا العدم بانتفاء الموضوع. مثل عدم البصر عندما تنفى البصيرةُ عن كائن (أي: مع حفظ الموضوع ليس بصيراً. أي: أَنَّهُ فاقد للبصر مع إمكان أن يكون بصيراً) ولا تُطلق هذه الجملة عَلَىٰ الجدار؛ فَإِنَّ الجدار ليس بصيراً من باب السالبة بانتفاء الموضوع.
 إذن، الظاهر من عدم الموافقة هو المخالفة.
 وَحِينَئِذٍ إذا وصلنا إِلَىٰ هذه النتيجة فيمكن القول بأننا إذا حملنا عدم الموافقة عَلَىٰ المخالفة واستظهرنا ذلك (أَيْ: أصبح إِلَىٰ حد الظهور ولا توجد أية مؤونة فيه) فهذا الحمل أولى من الحمل عَلَىٰ ذاك المعنى الَّذِي احتملناه سَابِقاً وتعبنا في تثبيته وذكر الشواهد عليه وهو حمل عدم الموافقة عَلَىٰ عدم الموافقة للمزاج الْعَامّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (أي: الخبر الَّذِي مطلبه موجود في القرآن الكريم ولٰكِنَّهُ معارض لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ)، فهذه الروايات تنفي حُجِّيَّةَ هذا الخبر (أي: نحمل عدم الموافقة عَلَىٰ المخالفة المضمونية، لا عَلَىٰ عدم الموافقة للمزاج الْعَامّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ).
 لكننا نقول: إن هذا الكلام صحيح ولٰكِنَّهُ مختص بالروايات الَّتِي اقتصرت عَلَىٰ عنوان >موافقة الكتاب< من قبيل قوله: >ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف< (أي: نحمله عَلَىٰ المخالف)، أَمَّا الروايات الَّتِي ذكرتِ العنوانينِ معاً فنحملها عَلَىٰ ذاك الاحتمال الَّذِي طرحناه وهو أن يكون المقصود بعدم الموافقة عدمُ الموافقة للمزاج الْعَامّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
 وعلى أي حال تكون النتيجةُ أن الروايات الَّتِي ورد فيها العنوانان معاً تدل عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الحديث الَّذِي لا يوافق المزاج الْعَامّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، والروايات المقتصرة عَلَىٰ عنوان الموافقة تدل عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الحديث الَّذِي يخالف الْقُرآن الْكَرِيم في مضمونه ومفاده.
 وعلى كل تقدير لا تدل تلك الروايات بكلتا مجموعتيها عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الحديث الَّذِي لا يوجد بمضمونه نص في الْقُرآن الْكَرِيم وليس أَيْضاً مُخَالِفاً لمضمون الْقُرآن الْكَرِيم ولا للمزاج الْعَامّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وهو الأكثر؛ فَإِنَّ الغالب في رواياتنا هو الروايات الَّتِي مضامينها غير موجودة في الْقُرآن الْكَرِيم ولا هي مخالفة في مضمونها لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ ولا هي مخالفة للمزاج الْعَامّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
 إذن، لم يبق من هذه الروايات بعدَ كلِّ هذه الغربة والخضخضة للروايات غيرُ روايةٍ واحدةٍ ولسان واحد وهو اللسان الوارد في رواية ابن أبي يعفور المتقدمة: >إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله، وإلا فالذي جاءكم به أولى به< وهي رواية تامة السند. فقد يستدل بها عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة هذا القسم الغالب من الروايات الموجودة بأيدينا؛ لأَنَّ مضامينها غير موجودة في كتاب الله، ولا نجد عليها شَاهِداً لا من كتاب الله ولا من قول رسول الله ، كما أنها ليست مخالفة لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (أي: وليس مخالفها مَوْجُوداً في الْقُرآن الْكَرِيم)، فهذه الرواية تكسر حُجِّيَّة هذا القسم الغالب من الروايات.
 وكيفية الاستدلال بها ما مضى في بيان منهج الاستدلال بالسنة عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ في بداية البحث حيث ذكرنا منهج الاستدلال بالسنة عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ حيث قلنا بصحة الاستدلال عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ من خلال خَبَر الْوَاحِدِ (فيما إذا تعذر الاستدلال بالسنة المتواترة)؛ وذلك بأن نأتي إِلَىٰ هذا الخَبَر الْوَاحِدِ الَّذِي يراد الاستدلال به عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ ونطبق عَلَىٰ هذا الخبر ابتداءً السيرةَ العقلائية القائمة عَلَىٰ العمل به؛ لأَن السِّيرَة العقلائية قائمة عَلَىٰ العمل بكل خبر ثقة، وهذا خبر ثقة، والسيرة إذا لم يردع عنها تكون حجة، والسيرة لم يردع عنها في مورد هذا الخبر، إذن فنثبت حُجِّيَّة هذا الخبر بهذا الطريق. وَحِينَئِذٍ هذا الخبر يدلنا عَلَىٰ أن أخبار الآحاد ليس حجةً.
 هذا هو المنهج الَّذِي ذكرناه سَابِقاً لصحة الاستدلال بخبر الواحد عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ، والآن نطبّق هذا المنهج عَلَىٰ رواية ابن أبي يعفور قائلاً:
 إن رواية ابن أبي يعفور خبر واحد ثقة، فتشمله السِّيرَةُ العقلائية القائمة عَلَىٰ العمل بخبر الثقة. فإذا ثبتت حُجِّيَّة رواية ابن أبي يعفور بالسيرة ومضمون هذه الرواية في حد ذاته صالح للردع عن خبر الواحد؛ لأَنَّهُ يقول: >فإن وجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله وإلا فالذي جَاءَكُم به أولى به< هذا المضمون صالح للردع عن خبر الواحد الَّذِي لا نجد له شَاهِداً من كتاب الله أو من قول رسول الله . فيكون هذا الخبر رادعاً عن السِّيرَة بالنسبة إِلَىٰ سائر أخبار الآحاد.
 فالسيرة العقلائية لا تنطبق عَلَىٰ سائر أخبار الآحاد؛ لأَنَّهَا مردوع عنها في سائر أخبار الآحاد بواسطة الردع الموجود في رواية ابن أبي يعفور. وَبِالتَّالِي يَتُِمّ هذا الاستدلال حِينَئِذٍ بهذه الرواية عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة كل خبرٍ لا يوافق الْقُرآن الْكَرِيم (أي: لم يرد مضمونه في القرآن الكريم وليس عليه شاهد من القرآن الكريم ولا من السنة القطعية حَتَّىٰ وإن لم يكن مُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ)، فهذا الخبر ليس حجة، وَبِالتَّالِي يسقط أغلب رواياتنا عن الْحُجِّيَّة.
 هذا غاية ما يمكن أن يدافع وينصر من يريد الاستدلال بهذه الروايات عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة أكثر الأخبار الموجودة في أيدينا.
 إذن، لاَ بُدَّ من الكلام حول صِحَّة هذا الاستدلال برواية ابن أبي يعفور عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الأخبار الَّتِي لا هي موافقة لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ (أَيْ: لم ترد مضامينها في الْقُرآن الْكَرِيم) ولا هي مخالفة لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ولا هي مخالفة للمزاج الْعَامّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، كما هو شأن غالب رواياتنا.
 هناك ستة أجوبة عن هذا الاستدلال ذكرها سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ &:
 
 الجواب الأول:
 هو أن هذا الاستدلال بهذه الرواية إِنَّمَا يَتُِمّ فيما لو كان لهذه الرواية نفسها شاهد من كتاب الله أو من قول رسول الله ، ويأتي مزيد شرح وتوضيح لهذا الجواب غداً إن شاء الله تعالى.