الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

34/01/17

بسم الله الرحمن الرحیم

 {خبر الواحد/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول}
 
 تقدم أن الاستدلال بالآيات الناهية عن العمل بالظن واتباع غير العلم عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خبر الواحد استدلال غير تام؛ وذلك لوجوه ثلاثة:
 الوجه الأول: أن هذه الآيات أَسَاساً لا دلالة لها في نفسها عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الظَّنّ، وشرحنا هذا المطلب قسطاً من الشرح قبل العطلة وقسطاً آخر بالأمس وقلنا إن لسان قوله تعالى إن الظَّنّ لا يغني من الحق شيئاً لا دلالة فيه عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الظَّنّ أَوَّلاً وَثَانِياً وثالثاً، ذكرنا الأول والثاني بالأمس.
 وثالثاً: هناك قرينة في الآية المباركة تدل عَلَىٰ أن هذه الآية إرشاد إِلَىٰ ذاك الحكم العقلي الَّذِي يستقل به العقل وهو أن الظَّنّ بما هو ظن لا يصلح لأَن يكون سندا مباشرا للإنسان في أعماله. فليعمل الإنسان بالظن ولا توجد فيه مشكلة من وجهة نظر الآية الشريفة حيث لا تقول الآية إنه لا يَصِحُّ العمل بالظن، فقد يكون الظَّنّ حجة ويصح العمل به لكن ليس سند الإنسان ودليله في عمله بالظن هو الظَّنّ بحيث لو سئل لماذا تعمل بالظن لا يقول: >لأَنَّ هذا ظن< بل سنده هو العلم واليقين بحجية هذا الظَّنّ. وَحِينَئِذٍ لا يكون هذا الإنسان مشمولاً لهذه الآية؛ فَإِنَّ هذه الآية لا تنهى عن العمل بالظن.
 والقرينة الموجودة في هذه الآية هي أن هذه الآية بصدد الاحتجاج مع المشركين الَّذِين هم ينكرون أصل الشريعة، ومن الواضح أن الاحتجاج معهم لاَ بُدَّ أن يكون من خلال طرح أمر عقلي واضح حَتَّىٰ عندهم لكي يَصِحُّ الاحتجاج.
 إذن فالآية واردة في مثل هذا السياق (سياق التنديد بالكفار الذين يعتمدون في معتقداتهم عَلَىٰ الظنون والتخمينات)، وهذا السياق قرينة عَلَىٰ أن المقصود من قوله تعالى {إن الظَّنّ لا يغني من الحق شيئاً} التمسك بقاعدة عقلية وعقلائية واضحة ومفروغ عن صحتها حَتَّىٰ عند الكفار، وهذه القاعدة هي هذا الحكم العقلي الَّذِي ذكرناه وهو ما يحكم به عقل كل إنسان كافراً كان أم مسلماً وهو أن الظَّنّ بما هو ظن ليس سنداً أولياً للإنسان، وليس المقصود منه قاعدة شرعية، وإلا لكان استنكار الشَّارِع للمشركين بالشرع، فلا يَصِحُّ مثل هذا البيان لمقام الاحتجاج مع منكري الشريعة.
 فكأنَّ الآية تريد أن تقول بأنكم في معتقداتكم تعولون عَلَىٰ الظَّنّ وليس لديكم دليل قطعي عَلَىٰ حُجِّيَّة هذا الظَّنّ، والظن بما هو ظن لا يمكن التعويل عليه. فالآية بهذه القرينة لا دلالة فيها عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الظَّنّ فَضْلاً عن أن تكون دالة عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خبر الواحد.
 إذن، بهذه القرينة ترجع الآية أَيْضاً إِلَىٰ الكلام نفسه الَّذِي قلناه في آية {لا تقف ما ليس لك به علم} الَّتِي قلنا بِأَنَّهَا إرشاد إِلَىٰ الحكم العقلي. وَبِالتَّالِي يكون دليل حُجِّيَّة خبر الواحد وارداً عَلَىٰ هذه الآيات؛ لأَن هذه الآيات تدل عَلَىٰ أن الظَّنّ ليس سنداً أوّليّاً، بينما دليل حُجِّيَّة خبر الواحد ليس دَلِيلاً ظنياً بل هو دليل قطعي، فينتفي موضوع الآية حقيقة وتكويناً وهذا هو الورود (وهو أن يكون دليل رافعاً لموضوع دليل آخر حقيقةً وتكويناً).
 هذا تمام الكلام في الوجه الأول من وجوه الجواب عن الاستدلال بالآيات بكلا لسانيها عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الظَّنّ فَضْلاً عن عدم حُجِّيَّة خبر الواحد. وهذا مطلب مهم؛ لأَن الأصحاب (كما قلناه) كلهم تقريبا قبلوا بأصل دلالة الآيات عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الظَّنّ لكن حاولوا أن يجيبوا عن هذا الاستدلال بأجوبة أخرى، فقد حاول الميرزا أن يجيب عنها بالحكومة (كما تقدم) وحاول الخراساني أن يجيب بالتخصيص ولكننا لا نقبل أصل دلالة هذه الآيات عَلَىٰ أن الظَّنّ ليس بحجة شَرْعاً.
 
 الوجه الثَّانِي للجواب عن الاستدلال بهذه الآيات
 هو أننا حَتَّىٰ لو سلمنا بدلالة هذه الآيات في نفسها عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الظَّنّ وعدم حُجِّيَّة خبر الواحد، مع ذلك نقول بتقدّم الأدلة اللفظية (لا اللبية منها كالسيرة) الدَّالَّة عَلَىٰ حُجِّيَّة الخبر الواحد وَالَّتِي يأتي إن شاء الله استعراضها وذكرها عَلَىٰ هذه الآيات الناهية عن العمل بالظن، وهذا التقدّم يَتُِمّ إما بنكتة التخصيص أو بنكتة النسخ.
 وتوضيح ذلك: أن الأدلة اللفظية الدالة عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الواحد (وَالَّتِي يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى) عبارة عن السنة القطعية كما يأتي، وعبارة عن آيات قرآنية (عَلَىٰ فرض تمامية دلالة الآيات عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الواحد).
 أَمَّا السنة (كما سوف يتضح عندما نذكر السنة الدَّالَّة عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الواحد) فتدل عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الثقة، لا حُجِّيَّة مطلق الخبر ولا حُجِّيَّة مطلق الظَّنّ وَإِنَّمَا خصوص الظَّنّ الحاص من خبر الثقة، فتكون السنة الدَّالَّة عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الواحد أخص من هذه الآيات الناهية عن العمل بالظن. فتتقدم السنة الدَّالَّةُ عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الثقة عَلَىٰ هذه الآيات بالتخصيص. هذا بالنسبة للسنة.
 وَأَمَّا الآيات الَّتِي تُدعى دلالتها عَلَىٰ حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ فعمدتها آيتان (كما يأتي إن شاء الله تعالى) آية النبأ بمفهومها {إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا} وآية النفر بمنطوقها { وما كان المؤمنون لينفروا كافةً، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }.
 وإذا لاحظنا النسبة بين تينك الآيتين وبين الآيات الناهية عن العمل بغير العلم تكون النسبة هي العموم والخصوص من وجه وليست عبارة عن العموم والخصوص المطلق حَتَّىٰ نقول بأن آية النفر أو آية النبأ تخصص هذه الآيات؛ فالنسبة بين آية النبأ وبين {لا تقف ما ليس لك به علم} أو {إن الظَّنّ لا يغني من الحق شيئاً} نسبة العموم والخصوص من وجه. آية النبأ بمفهومها تدل عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر العادل، سواء أفاد خبر العادل العلمَ أم لا، فبينهما عموم وخصوص من وجه.
 إذا كان خبر العادل مفيداً للعلم فيكون هذا مادة الافتراق لآية النبأ ولا تشمله الآيات الناهية عن العمل بالظن؛ لأَنَّهُ أفاد العلم. وإذا كان الظَّنّ ظناً حاصلاً من شيء آخر غير الخبر فيكون هذا مادة افتراق هذه الآيات الناهية عن العمل بالظن، فلا يشمل مفهومُ آية النبأ غيرَ الخبر.
 وَأَمَّا مادة الاجتماع فهي الظَّنّ الحاصل من خبر العادل حيث تدل آية النبأ عَلَىٰ حُجِّيَّة هذا الظَّنّ، بينما هذه الآيات الناهية تدل عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة هذا الظَّنّ. وَبِالتَّالِي تكون النسبة هي العموم والخصوص من وجه، فلا تأتي نكتة التخصيص ولا يمكن أن نقول بأن آية النبأ تُخَصِّص تلك الآيات.
 وكذلك آية النفر نسبتها مع الآيات الناهية عن العمل بالظن نسبة العموم والخصوص من وجه؛ لأَنَّهَا تدل عَلَىٰ أن إنذار المنذِر حجةٌ سواء أفادَ العلمَ للمنذَرين أم لم يفيد. فتنهى هذه الآيات عن العمل بالظن سواء الظَّنّ الحاصل من إنذار المنذر أم الظَّنّ الحاصل من شيء آخر، فتكون النسبة أَيْضاً نسبة العموم والخصوص من وجه. وتدل آية النفر في مادة الاجتماع وهي النهي الحاصل من إنذار المنذر عَلَىٰ حُجِّيَّة هذا الظَّنّ، بينما هذه الآيات تدل عَلَىٰ عدم الحجية فيتعارضان.
 فلا تأتي نكتة التخصيص هنا، وَحِينَئِذٍ يصل الدور إِلَىٰ القول بِأَنَّهُ بما أننا افترضنا تمامية دلالة آية النفر وآية النبأ عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الواحد (عَلَىٰ القول بتمامية دلالتهما عَلَىٰ أصل الحجية) فبالإمكان أن ندعي هنا أن هاتين الآيتين ناسختان للآيات الناهية عن العمل بالظن؛ وذلك عَلَىٰ أساس الإيمان والالتزام بصغرى وكبرى نذكرهما تِبَاعاً:
 أَمَّا الصغرى فهي عبارة عن أن ندعي تأخّر زمان نزول هاتين الآيتين عن زمان نزول تلك الآيات الناهية. أي: ندعي أن آية النبأ وآية النفر مدنيتان بينما تلك الآيات مكية.
 ونثبت هذه الصغرى بالقول بأن آية النبأ مدنية بدليل أَنَّها أَوَّلاً مذكورة في سورة مدنية وهي سورة الحجرات، ومورد نزول الآية وشأن نزولها كما نقل المفسرون من الفريقين نقلاً مستفيضاً هو قصة إخبار الوليد بن عقبة عندما جاء وأخبر عن ارتداد بني المصطلق، فنزلت الآية في هذا الشخص، ومن المعلوم أن هذه القصة حدثت في المدينة بعد الهجرة، فنستكشف من مجموع هذه الأمور أن آية النبأ مدنية.
 وبالنسبة لآية النفر ندعي أنها مدنية وذلك لأنها أَوَّلاً وردت في سورة التوبة وهي سورة مدينة، مُضَافاً إِلَىٰ أن مضمون الآية {وما كان المؤمنون لينفروا كافةً، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}( [1] ) لا يناسب وجود النبي في مكة؛ لأَن المسلمين آنذاك كانوا قليلين جِدّاً ومضطهدين ومبتلين بأنواع الأذى والمحن مِنْ قِبَلِ الأعداء وكانوا ملتفين حول النبي ولا معنى حِينَئِذٍ أن يخاطَب مثل هذه القلة بمثل هذه الآية، بل يناسب هذا الخطاب فترةَ انتشار الإسلام ووجود المسلمين في الأقطار النائية عن النبي ، وَالَّتِي تحتاج إِلَىٰ أن يأتي من كل قطر ومصر فرقة ليتفقهوا في الدين في المدينة المنورة ثم يرجعوا إِلَىٰ أقطارهم وأمصارهم للإبلاغ، وهذا الانتشار إِنَّمَا كان بعد الهجرة، فنطمئن من خلال مجموع هذه الأمور أن هاتين الآيتين مدنيتان.
 أَمَّا الآيات الناهية عن العمل بالظن الدالة عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الظَّنّ فتلك الآيات بحسب السياق مكية؛ لأنها مدرجة في سور مكية وذلك أَمَّا آية {ولا تقف ما ليس لك به علم} نجدها اليوم في المصاحف الشريفة في سورة الإسراء وهي سورة مكية، وكذلك آية {وما يتبع أكثرهم إِلاَّ ظناً إن الظَّنّ لا يغني من الحق شيئاً} موجودة في سورة يونس وهي سورة مكية وكذلك آية {وما لهم به من علم إن يتبعون إِلاَّ الظَّنّ وإن الظَّنّ لا يغني من الحق شيئاً} مدرجة في سورة النجم المكية. فكل واحدة في هذه الآيات مدرجة فعلاً في سورة مكية.
 مُضَافاً إِلَىٰ أن الآية الأولى {ولا تقف ما ليس لك به علم} مدرجة وسط آيات عديدة تتناول الأمور الَّتِي هي قريبة من الفطرة والوجدان والعقل العملي، ونحن إذا تتبعنا الآيات المدنية والآيات المكية بالدقة وقايسنا بينهما نرى أن الآيات المكية عادة وغالباً تتسم بهذه السمة وهي أنها تطرح أموراً تكون أقرب إِلَىٰ الوجدان والفطرة والعقل العملي، بينما الآيات المدنية نزلت لتتناول أموراً أخرى بعد تثبيت حقائق الفطرة والعقل العملي والوجدان.
 وعليه نقول: إن النهي عن اتباع ما ليس لك به علم أو {الظَّنّ لا يغني من الحق شيئاً} إرشاد إِلَىٰ حكم العقل العملي وهو أن الظَّنّ لا يصلح لأَن يكون رأس الخيط لدى الإنسان. فهذه قرينة أخرى عَلَىٰ أن هذه الآيات بما أنها إرشاد إِلَىٰ الحكم العقلي المذكور فتناسبها أن تكون مكيةً؛ لأَن الآيات المكية غالباً ما تتسم بهذه السمة.
 كما أن الآيتين الأخيرتين اللتان وردتا بلسان {إن الظَّنّ لا يغني من الحق شيئاً} جاءتا بصدد التعريض لعقائد المشركين ونحن نعلم أن الآيات الَّتِي تتعرض لعقائد المشركين هي عادة آيات مكية؛ فَإِنَّ الابتلاء الأول والأهم للشريعة في مكة هو الكفار، بينما كان أغلب مناقشات القرآن الكريم في المدينة تدور حول المنافقين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. فتكون هذه قرينة أخرى عَلَىٰ أن هاتين الآيتين مكيّتان.
 وعلى كل حال إن حصل لنا الاطمئنان من مجموع ما قلناه بأن هذه الآيات مكية، أو حَتَّىٰ لو لم نطمئن بِأَنَّهَا مكية لكن قلنا بأن إدراج آية في سورة مكية أمارةٌ وعلامة تعبدية عَلَىٰ أن هذه الآية مكية، إن لم يكن هناك دليل أقوى عَلَىٰ خلاف ذلك. والحاصل تمامية الصغرى، سواء حصل لنا الاطمئنان أم لا. وللبحث صلة يأتي تقريره وإعداده من الحقير محسن الطهراني عفي عنه.


[1] - سورة التوبة (9): الآية 122.