الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/11/13

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: خبر الواحد/ وسائل الإثبات التعبدي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 الوجه الثاني: ما أفاده المحقق الخرساني صاحب الكفاية من أنَّ الظاهر من الآيات والقدر المتيّقن منها (على الأقّل) هو النهي عن العمل بالظَّنّ في أصول الدين، وليس لها إِطْلاَق يشمل محل الكلام، وهو العمل بالظَّنّ في فروع الدين( [1] ).
 وهذا الوجه أيضاً غير تامٍ؛ وذلك لأنَّه:
 أمّا الآية الأولى (وهي عبارة عن قوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم}) فهي خطاب ابتدائي من دون أن تكون واردة في موردٍ مّا أصلاً، فهي جاءت في سياق مستقلّ، وليس في هذا السياق سابقاً أو لاحقاً ما يَدُلّ على كونها واردة في أصول الدين، فلا موجب لدعوى اختصاصها بأصول الدين.
 وأمّا الآيتان الأخيرتان الواردتان بلسان {إن الظَّنّ لا يغني من الحق شيئاً} فموردهما وإن كان عبارة عن أصول الدين، حيث تصفانِ بعضَ المعتقدين بالعقائد الباطلة بـ>أنهم لا يتبعون {إلا الظَّنّ}، ثمَّ تقولان: {إن الظَّنّ لا يغني من الحق شيئاً}، لكن من الواضح أنَّ هذا الكلام بهذا الترتيب ظاهر في العموم والشمول لغير أصول الدين أيضاً، لظهوره في النهي عن تلك العقائد الباطلة، وتعليل ذلك بقاعدة عامّة مركوزة في الأذهان، بترتيب نحو ترتيب الصغرى والكبرى. أي: أنَّ عقائدهم ظَنِّية والظَّنّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً، فعقائدهم لا تُغني من الحقِّ شيئاً.
 فظهور الكلام في كون التَّعْلِيل تعليلاً بقاعدةٍ كبروية مركوزةٍ في الأذهان يؤكّد عمومه لغير المورد (أيْ: لغير أصول الدين)، فلا مبرّر للقول باختصاصه بأصول الدين أو إجماله.
 وإمّا دعوى أنَّ القدر المتيقن من الآيات عبارة عن الظَّنّ وعدم العلم في أصول الدين، فهي وإن كانت صحيحة إِلاَّ أنّنا ذكرنا سابقاً في بحث >الإِطْلاَق< أنَّ وجود القدر المتقيّن لا يمنع عن التمسّك بالإِطْلاَق، سواء كان قدراً متيّقناً في الخطاب (كما في الآيتين الأخيرتين) أم كان قدراً متيقّناً من خارج الخطاب (كما في الآية الأولى). وعليه، فالتمسّك بالإِطْلاَق في الآيات الشريفة لأصول الدين ولفروعه هو المحكَّم.
 الوجه الثالث: ما أفاده أيضاً المحقق الخرساني وذكرته أيضاً مدرسةُ المحقق النائيني:
 قال المحقق الخرساني: أنّنا لو سلّمنا الإِطْلاَقَ في الآيات، وغضضنا النظرَ عمّا قلناه من اختصاصها بأصول الدين، وقلنا بشمولها لِلظَّنِّ وعدم العلم بفروع الدين أيضاً، فإنَّه مع ذلك يكون دليل حجيّة خبر الواحد مُقدمَّاً عليها؛ لأنَّه مقيِّد لها حيث أنَّ الآيات تدل على عدم حجّيّة الظَّنّ مطلقاً في خبر الواحد وفي غيره، ودليل حجيّة خبر الواحد مختّص بالظَّنّ الحاصل من خبر الواحد، فنلتزم بالتقييد( [2] ).
 وقالت مدرسة المحقق النائيني: إِنّنا لو غضضنا النظر عمّا قلناه من حكومة أدلّة حجيّة خبر الواحد على الآيات، وفرضنا أنَّ دليل حجيّة خبر الوحد لا يتكفّل جعلَ العلم والطريق، بل يتكفّل جعلَ الحكمِ المماثل مثلاً، فإنَّه مع ذلك تكون أدلّة حجيّة خبر الواحد مقَّدمّةً على الآيات بالأخصيّة؛ فالمعارضة بين الآيات وبين أدلّة حجيّة خبر إنما هي بنحو العموم والخصوص؛ فإنَّ الآيات واردة في مطلق الظَّنّ وعدم العلم، فهي شاملة للخبر وغيره وشاملة لخبر العادل وغير العادل وشاملة للخبر في أصول الدين والخبر في فروع الدين، بخلاف دليل حجيّة الخبر؛ فإنَّه مختّص بخبر العادل في الفروع( [3] ).
 وهذا الوجه وإن صّح ولم يخل من الصواب في الجملة إِلاَّ أنَّه بهذا النحو من الإهمال غير صحيح، كما أنَّ تعميمه أيضاً غير صحيح، بل لا بدَّ من ملاحظة أدلّة حجيّة خبر الواحد وغربلتها واحداً واحداً والنظر فيها واستحضار الصور التفصيلية لها كي نرى أنَّ هذا الوجه هل يتّم في كل واحدٍ منها؟ وما هو موقف كل واحدٍ منها من الآيات؟ ولذا قد يختلف الحال حينما نستعرض أدلّة الْحُجِّيَّة؛ فإنَّها ليست جميعاً أخصّ مطلقاً من الآيات، وإن كان بعضها أخصّ من الآيات. فباستحضار تلك الأدلّة بالتفصيل نعرف أنَّ هذا الوجه القائل بالأخصيّة تام بلحاظ بعضها، ولكن بعضها الآخر على تقدير تماميّة دلالته على الْحُجِّيَّة لا معنى لتقديمه على الآيات بالأخصيّة.
 فمثلاً إن تمَّت سيرة المتشرّعة دليلاً على حجيّة خبر الواحد تقدَّمت على الآيات، لكن لا من باب التخصيص؛ بل لأنَّ السيرة حينئذٍ توجب القطعَ بالْحُجِّيَّة وبطلان الإِطْلاَق في الآيات وعدم حجيّته.
 وإن تَمَّت سيرة العقلاء دليلاً على الْحُجِّيَّة، فلا بدَّ من أن نرى أنَّها هل هي في الاستحكام بمرتبةٍ لا تُعَدّ مثل هذه الآيات ردعاً لها أم لا؟
 فعلى الأول تقدَّمت على الآيات حتّى وإن لم تكن أخصّ منها؛ لأنَّها توجب القطع بالْحُجِّيَّة.
 وعلى الثاني لم تُقَدَّم عليها وإن فرضت أَخَصَّ منها؛ لأنَّ الآيات رادعة عنها.
 وإن تمّت آية النبأ (وهي قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى‏ ما فَعَلْتُمْ نادِمينَ}( [4] )) دليلاً على الْحُجِّيَّة بمفهومها، فنسبتها إلى الآيات هي العموم والخصوص من وجه؛ لأنَّ أحسن تقريب لثبوت المفهوم لها هو أنَّها تدل بمفهوم الشرط على عدم وجوب التبيّن عند عدم مجيء الفاسق بنبأ (كما يأتي إن شاء الله تعالى)، وهذا يشمل بإِطْلاَقه صورة مجيء العادل بنبأ وصورةَ عدم مجيء العادل بنبأ، ففي الصورة الثانية ينتفي وجوبُ التبيّن باِنْتِفَاءِ موضوعه وهو >النبأ<، وفي الصورة الأولى ينتفي وجوب التبيّن بحجيّة خبر العادل.
 وعليه، فكما أنَّ الآيات الناهية عن العمل بالظَّنّ أعمّ من مفهوم آية النبأ (لشمولها لِلظَّنِّ الحاصل من خبر العادل ولغيره من الظَّنّون)، كذلك مفهوم آية النبأ أعمّ من تلك الآيات (لشموله لفرض كون الخبر موجباً للعلم، ولفرض السالبة باِنْتِفَاء الموضوع، أي: الصورة الَّتِي يفترض فيها عدم وجود نبأ أصلاً)، وبالتالي عدم وجود الظَّنّ؛ فإنَّ المفهوم (بحسب الفرض) يَدُلّ على أنَّه إن لم يجئ الفاسق بنبأ فلا يجب التبيّن، سواء جاء به العادل أم لا (أيْ: سواء حصل الظَّنُّ من خلال خبر العادل أم لم يحصل الظن)؛ إمّا لكون الخبر موجباً للعلم أو لعدم وجود نبأ أصلاً.
 إذن، فالنسبة هي العموم والخصوص من وجه. فكما يمكن تخصيص الآيات السابقة بمفهوم آية النبأ وإخراج الظَّنِّ الحاصل من خبر العادل عنها، كذلك يمكن تخصيص مفهوم آية النبأ بتلك الآيات وإخراج صورة مجيء العادل بنبأ عن المفهوم، كما هو واضح، بل إنَّ فرض مجيء العادل بنبأٍ ينقسم إلى فرضين:
 1- فرض حصول العلم به.
 2- وفرض عدم حصول العلم به.
 ففي الفرض الأول ينتفي وجوب التبيّن من باب السالبة باِنْتِفَاء الموضوع؛ إذ لا يبقى موضوع للتبيّن بعد حصول العلم، أو قُل: >إنَّ الوجوب حينئذٍ تحصيل للحاصل<.
 وفي الفرض الثاني ينتفي وجوب التبيّن بحجيّة خبر العادل تعبّداً؛ فمن الممكن تخصيص مفهوم آية النبأ بتلك الآيات وإخراج الفرض الثاني عنه، كما هو واضح.
 وبهذا البيان الأخير يتّضح أنَّ آية النفر أيضاً (وهي قوله تعالى:{وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}( [5] )) لو تمّت دلالَتُهَا على حجيّة خبر الواحد ليست أخصّ مطلقاً من الآيات الناهية عن العمل بغير العلم، بل هي أخصّ منها من جهة وأعمّ منها من جهة أخرى؛ فالنسبة هي العموم والخصوص من وجه؛ وذلك لأنَّ آية النفر هذه تدلُّ على مطلوبيّة الحذر، وبالتالي وجوب الحذر عند إنذار المنذر مطلقاً، سواء حصل العلم بصدق المنذر أم لم يحصل. فإِطْلاَقها يشمل كلتا الحالتين، ويدل على وجوب الحذر فيهما. فكما أنَّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم أعمّ من آية النفر من جهة؛ باعتبار شمولها لِلظَّنِّ الحاصل من إنذار المنذر ولغيره من الظَّنّون، كذلك آية النفر أعمّ من تلك الآيات من جهة؛ باعتبار شمولها لحالة حصول العلم بصدق المنذر؛ فإنَّ العمل بإنذاره حينئذٍ ليس عملاً بغير العلم.
 إذن، فالنسبة هي العموم والخصوص من وجه، فكما يمكن تخصيص تلك الآيات الناهية بآية النفر وإخراج الظَّنّ الحاصل من إنذار المنذر عن تلك الآيات، كذلك يمكن تخصيص آية النفر بتلك الآيات وإخراج حالة عدم حصول العلم بإنذار المنذر عن آية النفر، كما هو واضح.
 وكذلك الحال في آية الكتمان (وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى‏ مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحيمُ}( [6] ))؛ فإنَّ هذه الآية لو تمَّ الاستدلال بها على حجيّة خبر الواحد ليست أخصّ مطلقاً من الآيات الناهية عن العمل بالظَّنّ وغير العلم، بل هي أخصّ منها من جهة وأعمّ منها من جهة أخرى:
 فالنِّسْبَةِ هي العموم والخصوص من وجه؛ لأنَّ آية الكتمان حينئذٍ تدل على حرمة الكتمان ووجوب الإظهار، وبالتالي وجوب القبول على السامع في فرض الإظهار مطلقاً سواء حصل للسامع العلم أم لم يحصل، فإِطْلاَقها يشمل كلتا الحالتين، فكما أنَّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم أعمّ من آية الكتمان من جهة؛ باعتبار شمولها لِلظَّنِّ الحاصل لهذا السامع ولغيره من الظَّنّون، كذلك آية الكتمان أعمّ من تلك الآيات من جهة باعتبار شمولها لحالة حصول العلم للسامع.
 إذن، فالنسبة هي العموم والخصوص من وجه، فكما يمكن تخصيص تلك الآيات بآية الكتمان وإخراج الظَّنّ الحاصل للسامع عن تلك الآيات، كذلك يمكن تخصيص آية الكتمان بتلك الآيات وإخراج حالة عدم حصول العلم للسامع عن آية الكتمان كما هو واضح.
 إذن، ليست النسبة بين كل واحدة من هذه الآيات الثلاث (آية النبأ وآية النفر وآية الكتمان) وبين الآيات الناهية عن العمل بالظَّنّ وغير العلم نسبة الأخص مطلقاً إلى الأعمّ مطلقاً، كي تُقدَّم عليها وتقيِّدها وتخصّصِها كما توهّم في هذا الوجه، بل قد عرفنا أنَّ النسبة هي العموم والخصوص من وجه. فالأخصّيةُ المدّعاة في هذا الوجه منتفية في هذه الآيات الثلاث على تقدير تماميّة دلالتها على حجيّة خبر الواحد.
 نعم قد يُقال بناسخيّتها لا أخصيّتها، بأَن يُلتزم بكون هذه الآيات الثلاث الَّتِي هي من أدلّة حجيّة خبر الواحد ناسخة لتلك الآيات الناهية عن العمل بالظَّنّ وغير العلم الَّتِي هي من أدلّة عدم حجيّة خبر الواحد؛ وذلك باعتبار تأخّرها الزمني عن تلك الآيات؛ فإنَّ آيات عدم الْحُجِّيَّة واردة في سورة >يونس< وسورة >الإسراء< وسورة >النجم< كما تقدَّم، وهي سور مكيّة، بينما آيات الْحُجِّيَّة (أيْ: النبأ والنفر والكتمان) واردة في سورة >الحجرات< وسورة >التوبة< وسورة >البقرة< وهي سور مدنيّة.
 إذن، فالنسخ ممكن أمّا التخصيص فلا، وسيأتي البحث عن الناسخية إن شاء الله تعالى.
 والحاصل: أنَّه لا بد من النظر في أدلّة حجيّة خبر الواحد؛ فإنَّ الأخصّية بلحاظ بعضها غير تامّة كما عرفنا، ولكن بلحاظ بعضها الآخر تامّة؛ فإنَّ في أدلّة حجيّة خبر الواحد ما ينفع لرفع الإِطْلاَق من الآيات الناهية عن العمل بالظَّنّ وغير العلم وتخصيصها.
 هذه هي الوجوه الَّتِي أجاب بها المحققون على الاستدلال بهذه الآيات على عدم حجيّة خبر الواحد، وقد عرفت الحال فيها.


[1] - الخراساني، كفاية الأصول: ج2، ص80.
[2] - الخراساني، كفاية الأصول: ج2، ص80.
[3] - دراسات في علم الأصول: ج3، ص155.
[4] - سورة الحجرات (49): الآية 6.
[5] - سورة التوبة (9): الآية 122.
[6] - سورة البقرة (2): الآيتان 159 و160.