الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/11/12

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: خبر الواحد/ وسائل الإثبات التعبدي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 المقام الأول:
 فيما أُستُدِلَّ به على عدم الْحُجِّيَّة، وهو عبارة عن الأدلَّة الأربعة الكتاب الكريم، والسنّة الشريفة، والإجماع، والعقل.
 فأمَّا الاستدلال بالعقل على عدم الْحُجِّيَّة فقد مضى بيانه وتقريره في بحث الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري عند الكلام عن إمكان التعبّد بالظَّنّ وجعل الْحُجِّيَّة له وجعل الحكم الظاهري من قبل الشارع، حيث استعرضنا (بتفصيل) جميع الشبهات الَّتِي تستهدف القول بأنَّ جعل الْحُجِّيَّة للظن وجعل الحكم الظاهري من قبل الشارعي يتنافى مع حكم العقل ويتنافى من جعل الحكم الواقعي.
 وقد أجبنا على كل تلك الشبهات وأثبتنا إمكان ذلك عقلاً دون أيّ منافاةٍ ومحذور. إذن، فلا يوجد ما يمكن الاستدلال به عقلاً على عدم حجيّة خبر الواحد.
  وعليه فيبقى علينا أن ندرس الاستدلال على عدم حجيته بـ >الكتاب< و>السنّة< و>الإجماع<.
 
 أمّا الكتاب الكريم:
 فقد أُستدِلَّ به على عدم الْحُجِّيَّة من خلال الآيات الشريفة الناهية عن العمل بالظَّنّ، وأهمّها آيتان:
 الأولى: ما وَرَد بلسان النهي عن قَفوِ ما لا علم به، وهي عبارة عن قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}( [1] ).
 الثانية: ما وَرَد بلسان كون الظن لا يُغني من الحق شيئاً، وهي عبارة عن قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنّ لا يُغْني‏ مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}( [2] ) وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَّتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}( [3] ).
 وتقريب الاستدلال بهذه الآيات على عدم حجيّة خبر الواحد هو أن يُقال:
 إنَّ هذه الآيات شاملة لخبر الواحد؛ لأنَّ >عدم العلم< في الآية الأولى وكذلك >الظَّنّ< في الآيتين الأخيرتين مطلقٌ، فتشمل الآيةُ الأولى خبرَ الواحد أيضاً؛ لأنَّه لا علم به. وتشمل الآيتانِ الأخيرتان الظَّنَّ الحاصل من خبر الواحد؛ فإنَّه أحد مصاديق >الظَّنّ<.
 وقد تقدَّمَ شبهُ هذا الكلام في المبدأ الأول من المبادئ العامّة للأدلّة عندَ الكلام عن تأسيس الأصل لدى الشَّكّ في حجيّة ظنٍّ من الظُّنُونِ حيث كان أحد وجوه أصالة عدم الْحُجِّيَّة عبارة عمّا أفاده الشيخ الأنصاري & من التمسّك بالآيات الكريمة المشتملة على النهي عن العمل بالظَّنّ واتّباع غير العلم وجعل هذه الآيات الشريفة أدلّةً اجتهاديّة فوقانيّة على عدم حجيّة كل ظنٍّ إِلاَّ ما خرج بالدليل، وقد تقدّم منّا هناك الوعدُ بمناقشة هذا الكلام، وستأتي قريباً إن شاء الله تعالى.
 وعلى كلِّ حال، فقد أجاب المحققّونَ من الأصوليينَ على الاستدلال بهذه الآيات على عدم حجيّة خبر الواحد بما يرجع محصَّله إلى وجوه ثلاثة:
 الوجه الأول: ما أفاده المحقق النائيني ومدرسته (بعد التسليم بدلالة الآيات على عدم حجيّة الظَّنّ) من دعوى حكومة أدلّة حجيّة خبر الواحد على هذه الآيات؛ لأنَّ موضوع الآيات هو >الظَّنّ< و>عدم العلم<، بينما دليل حجيّة خبر الواحد يجعل خبر الواحد علماً ويقول: إِنَّ الظَّنَّ الحاصل منه علمٌ تعبّداً، فيخرجه بذلك عن موضوع الآيات (وهو الظَّنّ وعدم العلم بالتعبّد)، ويكون الإتبّاع حينئذٍ اتّباعاً للعلم لا الظَّنّ وعدم العلم.
 إذن، فالنسبة بين الآيات النافية لحجيّة الظَّنّ وبين أدلّة حجيّة خبر الواحد نسبة الحكومة، نظير النسبة بين دليل حجيّة قول ذي اليد ودليل حجيّة البيّنة، حيث أنَّ موضوع الأول هو الشَّكّ وعدم العلم، بينما دليل حجيّة البيّنة يجعل البيّنةَ علماً، فيكون هذا حاكماً على ذاك، فإذا تعارضت البيّنةُ مع قول ذي اليَدِ قُدمَّت البيّنةُ( [4] ).
 وقد تقدَّم في المبدأ الأول من المبادئ العامّة للأدلّة عند الكلام عن أصالة عدم الْحُجِّيَّة عند الشَّكّ أنَّ المحقق النائيني قد ذكر نفس هذا الكلام في مقام الاعتراض على ما أفاده الشيخ الأنصاري & من التمسّك بهذه الآيات، لإثبات أصالة عدم الْحُجِّيَّة وقال:
 إنَّ دليل الْحُجِّيَّة قائم على هذه الآيات؛ لأنَّه يجعل العلم، فهو ينفي موضوع الآيات. فعند الشَّكّ في الْحُجِّيَّة نشك في الحقيقة في العلميّة وعدمها، فيكون التمسّك بهذه الآيات تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ لعلّ ما نشك في حجيّته هو حُجَّة واقعاً. إذن، فلعلّه هو علم واقعاً( [5] ).
 وكيف كان، فهذا الوجه مبنيّ على مسلك جعل الطريقية والعلمية، وحينئذٍ يرد عليه:
 أولاً: الإشكال على أصل هذا المسلك وقد تقدَّم ذلك مفصَّلاً في المبادئ العامّة للأدلّة عند الكلام عن قيام الأمارات مقام القطع، حيث لم يتّم عندنا الدليلُ على جعل الطريقية والعلمية من قبل الشارع في باب الأمارات أصلاً.
 ثانياً: أنَّه حتّى مع قبول مسلك جعل الطريقية والعلمية لا يتّم الوجه المذكور؛ وذلك لأنَّ هذه الآيات:
 إمّا أن لا نسلّم بدلالتها في نفسها على عدم حجيّة الظَّنّ حتّى بِالنِّسْبَةِ إلى مثل >القياس< فضلاً عن >خبر الواحد< (كما سيأتي قريباً منّا إن شاء الله تعالى). إذن، فهي في نفسها غير دالةٍ على مدّعى الخصم المستّدِل بها المنكر لحجيّة خبر الواحد، بلا حاجّة إلى هذا الوجه القائل بحكومة دليل حجيّة خبر الواحد على الآيات؛ إذ مع إنكار دلالة الآيات في نفسها على عدم حجيّة الظَّنّ لا موضوع لحكومة دليل حجيّة خبر الواحد عليها؛ لأنَّ الحكومة فرع التعارض البدوي، كما هو واضح.
 وإِمَّا أن نسلّم بدلالتها في نفسها على عدم حجيّة الظَّنِّ (كما هو المفروض في هذا الوجه) فحينئذٍ يرد على هذا الوجه ما أوردناه سابقاً (في المبدأ الأول من المبادئ العامّة للأدلّة عند البحث عن أصالة عدم الْحُجِّيَّة) من عدم الحكومة لدليل حجيّة خبر الواحد على الآيات، بل هما متعارضان في عرض واحد. فكما أنَّ دليل حجيّة الظَّنّ يَدُلّ (بناء على ما هو المفروض من جعل العلمية والطريقية) على جعل الظَّنّ علماً من قبل الشارع، كذلك دليل عدم حجيّته الظَّنّ(وهو عبارة عن هذه الآيات حسب الفرض) يدلُّ على عدم جعل الظَّنِّ علماً من قبل الشارع.
 فهما دليلان تعارضا في جعل خبر الواحد وعدم جعله علماً، فلا مبرّر للحكومة؛ فإنَّ الآيات تنفي حجيّة الظنِّ حسبَ الفرضِ، والمفروض (على مسلك جعل العلمية) هو أنَّ الْحُجِّيَّة معناها العلمية، فيكون مفاد الآيات في عرض مفاد أدلّة حجيّة خبر الواحد وفي رتبته، حيث انَّ مفاد الآيات هو عدم جعل غير العلم علماً، ومفاد أدلّة حجيّة خبر الواحد هو جعل غير العلم في مورد خبر الواحد علماً. فلا معنى للحكومة، بل يكون دليل حجيّة خبر الواحد مقيِّداً للآيات.
 والحاصل: أنَّه حتّى على مسلك جعل الطريقية والعلمية ليست النسبة بين الآيات وبين أدلّة الْحُجِّيَّة عبارة عن >الحكومة<، بل التعارض في عرض واحد، حيث أنَّ الآيات تنفي كون الظَّنّ علماً، وأدلّة الْحُجِّيَّة تثبت كونه علماً، فهما متعارضان.
 وطبعاً هذا الإشكال إنّما يتّم بناء على المذاق الَّذِي يرى أنَّ الْحُجِّيَّة (مطلقاً أو في باب الأمارات على الأقلّ) لا يُتَصوَّر له معنى ومغزى غير جعل العلم، فيُقال حينئذٍ: كما أنَّ دليل الْحُجِّيَّة يَدُلّ على جعل العلم، كذلك دليل عدم الْحُجِّيَّة يَدُلّ على عدم العلم.
 وأمّا لو قيل: إن حُمِل دليل حجيّة خبر الواحد على جعل العلم، إنمّا هو استظهار من بعض أَلْسِنَةِ الدليل كقوله: >ليس لأحدٍ من موالينا التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا<، وليس كل دليل يثبت الْحُجِّيَّة أو ينفيها فهو يثبت أو ينفي جعل العلم، أمكن دعوى حكومته خصوص ذاك اللسان >مثل قوله: ليس لأحدٍ...< على هذه الآيات؛ وذلك بناءً على مسلك جعل العلمية، كما هو المفروض.
 وكذلك لو استفيد من ذاك اللسان تنزيل الظَّنّ أو عدم العلم منزلة العلم، فيتّم هذا الوجه بِالنِّسْبَةِ إلى خصوص ذاك اللسان، بعد غض النظر عن الإشكال على أصل مسلك جعل الطريقية والعلمية.


[1] - سورة الإسراء (17): الآية 36.
[2] - سورة يونس (10): الآية 36.
[3] - سورة النجم (53): الآية 28.
[4] - راجع: الكاظمي، فوائد الأصول: ج2، ص56، وأيضاً دراسات في علم الأصول: ج3، ص155.
[5] - الخوئي، أجود التقريرات: ج3، ص148.