الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/11/09

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: خبر الواحد/وسائل الإثبات التعبدي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 المقام الأول:
 فيما أُستُدِلَّ به على عدم الْحُجِّيَّة، وهو عبارة عن الأدلَّة الأربعة الكتاب الكريم، والسنّة الشريفة، والإجماع، والعقل.
 فأمَّا الاستدلال بالعقل على عدم الْحُجِّيَّة فقد مضى بيانه وتقريره في بحث الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري عند الكلام عن إمكان التعبّد بالظَّنّ وجعل الْحُجِّيَّة له وجعل الحكم الظاهري من قبل الشارع، حيث استعرضنا (بتفصيل) جميع الشبهات الَّتِي تستهدف القول بأنَّ جعل الْحُجِّيَّة للظن وجعل الحكم الظاهري من قبل الشارعي يتنافى مع حكم العقل ويتنافى من جعل الحكم الواقعي.
 وقد أجبنا على كل تلك الشبهات وأثبتنا إمكان ذلك عقلاً دون أيّ منافاةٍ ومحذور. إذن، فلا يوجد ما يمكن الاستدلال به عقلاً على عدم حجيّة خبر الواحد.
  وعليه فيبقى علينا أن ندرس الاستدلال على عدم حجيته بـ >الكتاب< و>السنّة< و>الإجماع<.
 
 أمّا الكتاب الكريم:
 فقد أُستدِلَّ به على عدم الْحُجِّيَّة من خلال الآيات الشريفة الناهية عن العمل بالظَّنّ، وأهمّها آيتان:
 الأولى: ما وَرَد بلسان النهي عن قَفوِ ما لا علم به، وهي عبارة عن قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}( [1] ).
 الثانية: ما وَرَد بلسان كون الظن لا يُغني من الحق شيئاً، وهي عبارة عن قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنّ لا يُغْني‏ مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}( [2] ) وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَّتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}( [3] ).
 وتقريب الاستدلال بهذه الآيات على عدم حجيّة خبر الواحد هو أن يُقال:
 إنَّ هذه الآيات شاملة لخبر الواحد؛ لأنَّ >عدم العلم< في الآية الأولى وكذلك >الظَّنّ< في الآيتين الأخيرتين مطلقٌ، فتشمل الآيةُ الأولى خبرَ الواحد أيضاً؛ لأنَّه لا علم به. وتشمل الآيتانِ الأخيرتان الظَّنَّ الحاصل من خبر الواحد؛ فإنَّه أحد مصاديق >الظَّنّ<.
 وقد تقدَّمَ شبهُ هذا الكلام في المبدأ الأول من المبادئ العامّة للأدلّة عندَ الكلام عن تأسيس الأصل لدى الشَّكّ في حجيّة ظنٍّ من الظُّنُونِ حيث كان أحد وجوه أصالة عدم الْحُجِّيَّة عبارة عمّا أفاده الشيخ الأنصاري & من التمسّك بالآيات الكريمة المشتملة على النهي عن العمل بالظَّنّ واتّباع غير العلم وجعل هذه الآيات الشريفة أدلّةً اجتهاديّة فوقانيّة على عدم حجيّة كل ظنٍّ إِلاَّ ما خرج بالدليل، وقد تقدّم منّا هناك الوعدُ بمناقشة هذا الكلام، وستأتي قريباً إن شاء الله تعالى.
 وعلى كلِّ حال، فقد أجاب المحققّونَ من الأصوليينَ على الاستدلال بهذه الآيات على عدم حجيّة خبر الواحد بما يرجع محصَّله إلى وجوه ثلاثة:
 الوجه الأول: ما أفاده المحقق النائيني ومدرسته (بعد التسليم بدلالة الآيات على عدم حجيّة الظَّنّ) من دعوى حكومة أدلّة حجيّة خبر الواحد على هذه الآيات؛ لأنَّ موضوع الآيات هو >الظَّنّ< و>عدم العلم<، بينما دليل حجيّة خبر الواحد يجعل خبر الواحد علماً ويقول: إِنَّ الظَّنَّ الحاصل منه علمٌ تعبّداً، فيخرجه بذلك عن موضوع الآيات (وهو الظَّنّ وعدم العلم بالتعبّد)، ويكون الإتبّاع حينئذٍ اتّباعاً للعلم لا الظَّنّ وعدم العلم.
 إذن، فالنسبة بين الآيات النافية لحجيّة الظَّنّ وبين أدلّة حجيّة خبر الواحد نسبة الحكومة، نظير النسبة بين دليل حجيّة قول ذي اليد ودليل حجيّة البيّنة، حيث أنَّ موضوع الأول هو الشَّكّ وعدم العلم، بينما دليل حجيّة البيّنة يجعل البيّنةَ علماً، فيكون هذا حاكماً على ذاك، فإذا تعارضت البيّنةُ مع قول ذي اليَدِ قُدمَّت البيّنةُ( [4] ).
 وقد تقدَّم في المبدأ الأول من المبادئ العامّة للأدلّة عند الكلام عن أصالة عدم الْحُجِّيَّة عند الشَّكّ أنَّ المحقق النائيني قد ذكر نفس هذا الكلام في مقام الاعتراض على ما أفاده الشيخ الأنصاري & من التمسّك بهذه الآيات، لإثبات أصالة عدم الْحُجِّيَّة وقال:
 إنَّ دليل الْحُجِّيَّة قائم على هذه الآيات؛ لأنَّه يجعل العلم، فهو ينفي موضوع الآيات. فعند الشَّكّ في الْحُجِّيَّة نشك في الحقيقة في العلميّة وعدمها، فيكون التمسّك بهذه الآيات تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ لعلّ ما نشك في حجيّته هو حُجَّة واقعاً. إذن، فلعلّه هو علم واقعاً( [5] ).
 وكيف كان، فهذا الوجه مبنيّ على مسلك جعل الطريقية والعلمية، وحينئذٍ يرد عليه:
 أولاً: الإشكال على أصل هذا المسلك وقد تقدَّم ذلك مفصَّلاً في المبادئ العامّة للأدلّة عند الكلام عن قيام الأمارات مقام القطع، حيث لم يتّم عندنا الدليلُ على جعل الطريقية والعلمية من قبل الشارع في باب الأمارات أصلاً.
 ثانياً: أنَّه حتّى مع قبول مسلك جعل الطريقية والعلمية لا يتّم الوجه المذكور؛ وذلك لأنَّ هذه الآيات:
 إمّا أن لا نسلّم بدلالتها في نفسها على عدم حجيّة الظَّنّ حتّى بِالنِّسْبَةِ إلى مثل >القياس< فضلاً عن >خبر الواحد< (كما سيأتي قريباً منّا إن شاء الله تعالى). إذن، فهي في نفسها غير دالةٍ على مدّعى الخصم المستّدِل بها المنكر لحجيّة خبر الواحد، بلا حاجّة إلى هذا الوجه القائل بحكومة دليل حجيّة خبر الواحد على الآيات؛ إذ مع إنكار دلالة الآيات في نفسها على عدم حجيّة الظَّنّ لا موضوع لحكومة دليل حجيّة خبر الواحد عليها؛ لأنَّ الحكومة فرع التعارض البدوي، كما هو واضح.
 وإِمَّا أن نسلّم بدلالتها في نفسها على عدم حجيّة الظَّنِّ (كما هو المفروض في هذا الوجه) فحينئذٍ يرد على هذا الوجه ما أوردناه سابقاً (في المبدأ الأول من المبادئ العامّة للأدلّة عند البحث عن أصالة عدم الْحُجِّيَّة) من عدم الحكومة لدليل حجيّة خبر الواحد على الآيات، بل هما متعارضان في عرض واحد. فكما أنَّ دليل حجيّة الظَّنّ يَدُلّ (بناء على ما هو المفروض من جعل العلمية والطريقية) على جعل الظَّنّ علماً من قبل الشارع، كذلك دليل عدم حجيّته الظَّنّ(وهو عبارة عن هذه الآيات حسب الفرض) يدلُّ على عدم جعل الظَّنِّ علماً من قبل الشارع.
 فهما دليلان تعارضا في جعل خبر الواحد وعدم جعله علماً، فلا مبرّر للحكومة؛ فإنَّ الآيات تنفي حجيّة الظنِّ حسبَ الفرضِ، والمفروض (على مسلك جعل العلمية) هو أنَّ الْحُجِّيَّة معناها العلمية، فيكون مفاد الآيات في عرض مفاد أدلّة حجيّة خبر الواحد وفي رتبته، حيث انَّ مفاد الآيات هو عدم جعل غير العلم علماً، ومفاد أدلّة حجيّة خبر الواحد هو جعل غير العلم في مورد خبر الواحد علماً. فلا معنى للحكومة، بل يكون دليل حجيّة خبر الواحد مقيِّداً للآيات.
 والحاصل: أنَّه حتّى على مسلك جعل الطريقية والعلمية ليست النسبة بين الآيات وبين أدلّة الْحُجِّيَّة عبارة عن >الحكومة<، بل التعارض في عرض واحد، حيث أنَّ الآيات تنفي كون الظَّنّ علماً، وأدلّة الْحُجِّيَّة تثبت كونه علماً، فهما متعارضان.
 وطبعاً هذا الإشكال إنّما يتّم بناء على المذاق الَّذِي يرى أنَّ الْحُجِّيَّة (مطلقاً أو في باب الأمارات على الأقلّ) لا يُتَصوَّر له معنى ومغزى غير جعل العلم، فيُقال حينئذٍ: كما أنَّ دليل الْحُجِّيَّة يَدُلّ على جعل العلم، كذلك دليل عدم الْحُجِّيَّة يَدُلّ على عدم العلم.
 وأمّا لو قيل: إن حُمِل دليل حجيّة خبر الواحد على جعل العلم، إنمّا هو استظهار من بعض أَلْسِنَةِ الدليل كقوله: >ليس لأحدٍ من موالينا التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا<، وليس كل دليل يثبت الْحُجِّيَّة أو ينفيها فهو يثبت أو ينفي جعل العلم، أمكن دعوى حكومته خصوص ذاك اللسان >مثل قوله: ليس لأحدٍ...< على هذه الآيات؛ وذلك بناءً على مسلك جعل العلمية، كما هو المفروض.
 وكذلك لو استفيد من ذاك اللسان تنزيل الظَّنّ أو عدم العلم منزلة العلم، فيتّم هذا الوجه بِالنِّسْبَةِ إلى خصوص ذاك اللسان، بعد غض النظر عن الإشكال على أصل مسلك جعل الطريقية والعلمية.
 الوجه الثاني: ما أفاده المحقق الخرساني صاحب الكفاية من أنَّ الظاهر من الآيات والقدر المتيّقن منها (على الأقّل) هو النهي عن العمل بالظَّنّ في أصول الدين، وليس لها إِطْلاَق يشمل محل الكلام، وهو العمل بالظَّنّ في فروع الدين( [6] ).
 وهذا الوجه أيضاً غير تامٍ؛ وذلك لأنَّه:
 أمّا الآية الأولى (وهي عبارة عن قوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم}) فهي خطاب ابتدائي من دون أن تكون واردة في موردٍ مّا أصلاً، فهي جاءت في سياق مستقلّ، وليس في هذا السياق سابقاً أو لاحقاً ما يَدُلّ على كونها واردة في أصول الدين، فلا موجب لدعوى اختصاصها بأصول الدين.
 وأمّا الآيتان الأخيرتان الواردتان بلسان {إن الظَّنّ لا يغني من الحق شيئاً} فموردهما وإن كان عبارة عن أصول الدين، حيث تصفانِ بعضَ المعتقدين بالعقائد الباطلة بـ>أنهم لا يتبعون {إلا الظَّنّ}، ثمَّ تقولان: {إن الظَّنّ لا يغني من الحق شيئاً}، لكن من الواضح أنَّ هذا الكلام بهذا الترتيب ظاهر في العموم والشمول لغير أصول الدين أيضاً، لظهوره في النهي عن تلك العقائد الباطلة، وتعليل ذلك بقاعدة عامّة مركوزة في الأذهان، بترتيب نحو ترتيب الصغرى والكبرى. أي: أنَّ عقائدهم ظَنِّية والظَّنّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً، فعقائدهم لا تُغني من الحقِّ شيئاً.
 فظهور الكلام في كون التَّعْلِيل تعليلاً بقاعدةٍ كبروية مركوزةٍ في الأذهان يؤكّد عمومه لغير المورد (أيْ: لغير أصول الدين)، فلا مبرّر للقول باختصاصه بأصول الدين أو إجماله.
 وإمّا دعوى أنَّ القدر المتيقن من الآيات عبارة عن الظَّنّ وعدم العلم في أصول الدين، فهي وإن كانت صحيحة إِلاَّ أنّنا ذكرنا سابقاً في بحث >الإِطْلاَق< أنَّ وجود القدر المتقيّن لا يمنع عن التمسّك بالإِطْلاَق، سواء كان قدراً متيّقناً في الخطاب (كما في الآيتين الأخيرتين) أم كان قدراً متيقّناً من خارج الخطاب (كما في الآية الأولى). وعليه، فالتمسّك بالإِطْلاَق في الآيات الشريفة لأصول الدين ولفروعه هو المحكَّم.
 الوجه الثالث: ما أفاده أيضاً المحقق الخرساني وذكرته أيضاً مدرسةُ المحقق النائيني:
 قال المحقق الخرساني: أنّنا لو سلّمنا الإِطْلاَقَ في الآيات، وغضضنا النظرَ عمّا قلناه من اختصاصها بأصول الدين، وقلنا بشمولها لِلظَّنِّ وعدم العلم بفروع الدين أيضاً، فإنَّه مع ذلك يكون دليل حجيّة خبر الواحد مُقدمَّاً عليها؛ لأنَّه مقيِّد لها حيث أنَّ الآيات تدل على عدم حجّيّة الظَّنّ مطلقاً في خبر الواحد وفي غيره، ودليل حجيّة خبر الواحد مختّص بالظَّنّ الحاصل من خبر الواحد، فنلتزم بالتقييد( [7] ).
 وقالت مدرسة المحقق النائيني: إِنّنا لو غضضنا النظر عمّا قلناه من حكومة أدلّة حجيّة خبر الواحد على الآيات، وفرضنا أنَّ دليل حجيّة خبر الوحد لا يتكفّل جعلَ العلم والطريق، بل يتكفّل جعلَ الحكمِ المماثل مثلاً، فإنَّه مع ذلك تكون أدلّة حجيّة خبر الواحد مقَّدمّةً على الآيات بالأخصيّة؛ فالمعارضة بين الآيات وبين أدلّة حجيّة خبر إنما هي بنحو العموم والخصوص؛ فإنَّ الآيات واردة في مطلق الظَّنّ وعدم العلم، فهي شاملة للخبر وغيره وشاملة لخبر العادل وغير العادل وشاملة للخبر في أصول الدين والخبر في فروع الدين، بخلاف دليل حجيّة الخبر؛ فإنَّه مختّص بخبر العادل في الفروع( [8] ).
 وهذا الوجه وإن صّح ولم يخل من الصواب في الجملة إِلاَّ أنَّه بهذا النحو من الإهمال غير صحيح، كما أنَّ تعميمه أيضاً غير صحيح، بل لا بدَّ من ملاحظة أدلّة حجيّة خبر الواحد وغربلتها واحداً واحداً والنظر فيها واستحضار الصور التفصيلية لها كي نرى أنَّ هذا الوجه هل يتّم في كل واحدٍ منها؟ وما هو موقف كل واحدٍ منها من الآيات؟ ولذا قد يختلف الحال حينما نستعرض أدلّة الْحُجِّيَّة؛ فإنَّها ليست جميعاً أخصّ مطلقاً من الآيات، وإن كان بعضها أخصّ من الآيات. فباستحضار تلك الأدلّة بالتفصيل نعرف أنَّ هذا الوجه القائل بالأخصيّة تام بلحاظ بعضها، ولكن بعضها الآخر على تقدير تماميّة دلالته على الْحُجِّيَّة لا معنى لتقديمه على الآيات بالأخصيّة.
 فمثلاً إن تمَّت سيرة المتشرّعة دليلاً على حجيّة خبر الواحد تقدَّمت على الآيات، لكن لا من باب التخصيص؛ بل لأنَّ السيرة حينئذٍ توجب القطعَ بالْحُجِّيَّة وبطلان الإِطْلاَق في الآيات وعدم حجيّته.
 وإن تَمَّت سيرة العقلاء دليلاً على الْحُجِّيَّة، فلا بدَّ من أن نرى أنَّها هل هي في الاستحكام بمرتبةٍ لا تُعَدّ مثل هذه الآيات ردعاً لها أم لا؟
 فعلى الأول تقدَّمت على الآيات حتّى وإن لم تكن أخصّ منها؛ لأنَّها توجب القطع بالْحُجِّيَّة.
 وعلى الثاني لم تُقَدَّم عليها وإن فرضت أَخَصَّ منها؛ لأنَّ الآيات رادعة عنها.
 وإن تمّت آية النبأ (وهي قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى‏ ما فَعَلْتُمْ نادِمينَ}( [9] )) دليلاً على الْحُجِّيَّة بمفهومها، فنسبتها إلى الآيات هي العموم والخصوص من وجه؛ لأنَّ أحسن تقريب لثبوت المفهوم لها هو أنَّها تدل بمفهوم الشرط على عدم وجوب التبيّن عند عدم مجيء الفاسق بنبأ (كما يأتي إن شاء الله تعالى)، وهذا يشمل بإِطْلاَقه صورة مجيء العادل بنبأ وصورةَ عدم مجيء العادل بنبأ، ففي الصورة الثانية ينتفي وجوبُ التبيّن باِنْتِفَاءِ موضوعه وهو >النبأ<، وفي الصورة الأولى ينتفي وجوب التبيّن بحجيّة خبر العادل.
 وعليه، فكما أنَّ الآيات الناهية عن العمل بالظَّنّ أعمّ من مفهوم آية النبأ (لشمولها لِلظَّنِّ الحاصل من خبر العادل ولغيره من الظَّنّون)، كذلك مفهوم آية النبأ أعمّ من تلك الآيات (لشموله لفرض كون الخبر موجباً للعلم، ولفرض السالبة باِنْتِفَاء الموضوع، أي: الصورة الَّتِي يفترض فيها عدم وجود نبأ أصلاً)، وبالتالي عدم وجود الظَّنّ؛ فإنَّ المفهوم (بحسب الفرض) يَدُلّ على أنَّه إن لم يجئ الفاسق بنبأ فلا يجب التبيّن، سواء جاء به العادل أم لا (أيْ: سواء حصل الظَّنُّ من خلال خبر العادل أم لم يحصل الظن)؛ إمّا لكون الخبر موجباً للعلم أو لعدم وجود نبأ أصلاً.
 إذن، فالنسبة هي العموم والخصوص من وجه. فكما يمكن تخصيص الآيات السابقة بمفهوم آية النبأ وإخراج الظَّنِّ الحاصل من خبر العادل عنها، كذلك يمكن تخصيص مفهوم آية النبأ بتلك الآيات وإخراج صورة مجيء العادل بنبأ عن المفهوم، كما هو واضح، بل إنَّ فرض مجيء العادل بنبأٍ ينقسم إلى فرضين:
 1- فرض حصول العلم به.
 2- وفرض عدم حصول العلم به.
 ففي الفرض الأول ينتفي وجوب التبيّن من باب السالبة باِنْتِفَاء الموضوع؛ إذ لا يبقى موضوع للتبيّن بعد حصول العلم، أو قُل: >إنَّ الوجوب حينئذٍ تحصيل للحاصل<.
 وفي الفرض الثاني ينتفي وجوب التبيّن بحجيّة خبر العادل تعبّداً؛ فمن الممكن تخصيص مفهوم آية النبأ بتلك الآيات وإخراج الفرض الثاني عنه، كما هو واضح.
 وبهذا البيان الأخير يتّضح أنَّ آية النفر أيضاً (وهي قوله تعالى:{وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}( [10] )) لو تمّت دلالَتُهَا على حجيّة خبر الواحد ليست أخصّ مطلقاً من الآيات الناهية عن العمل بغير العلم، بل هي أخصّ منها من جهة وأعمّ منها من جهة أخرى؛ فالنسبة هي العموم والخصوص من وجه؛ وذلك لأنَّ آية النفر هذه تدلُّ على مطلوبيّة الحذر، وبالتالي وجوب الحذر عند إنذار المنذر مطلقاً، سواء حصل العلم بصدق المنذر أم لم يحصل. فإِطْلاَقها يشمل كلتا الحالتين، ويدل على وجوب الحذر فيهما. فكما أنَّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم أعمّ من آية النفر من جهة؛ باعتبار شمولها لِلظَّنِّ الحاصل من إنذار المنذر ولغيره من الظَّنّون، كذلك آية النفر أعمّ من تلك الآيات من جهة؛ باعتبار شمولها لحالة حصول العلم بصدق المنذر؛ فإنَّ العمل بإنذاره حينئذٍ ليس عملاً بغير العلم.
 إذن، فالنسبة هي العموم والخصوص من وجه، فكما يمكن تخصيص تلك الآيات الناهية بآية النفر وإخراج الظَّنّ الحاصل من إنذار المنذر عن تلك الآيات، كذلك يمكن تخصيص آية النفر بتلك الآيات وإخراج حالة عدم حصول العلم بإنذار المنذر عن آية النفر، كما هو واضح.
 وكذلك الحال في آية الكتمان (وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى‏ مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحيمُ}( [11] ))؛ فإنَّ هذه الآية لو تمَّ الاستدلال بها على حجيّة خبر الواحد ليست أخصّ مطلقاً من الآيات الناهية عن العمل بالظَّنّ وغير العلم، بل هي أخصّ منها من جهة وأعمّ منها من جهة أخرى:
 فالنِّسْبَةِ هي العموم والخصوص من وجه؛ لأنَّ آية الكتمان حينئذٍ تدل على حرمة الكتمان ووجوب الإظهار، وبالتالي وجوب القبول على السامع في فرض الإظهار مطلقاً سواء حصل للسامع العلم أم لم يحصل، فإِطْلاَقها يشمل كلتا الحالتين، فكما أنَّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم أعمّ من آية الكتمان من جهة؛ باعتبار شمولها لِلظَّنِّ الحاصل لهذا السامع ولغيره من الظَّنّون، كذلك آية الكتمان أعمّ من تلك الآيات من جهة باعتبار شمولها لحالة حصول العلم للسامع.
 إذن، فالنسبة هي العموم والخصوص من وجه، فكما يمكن تخصيص تلك الآيات بآية الكتمان وإخراج الظَّنّ الحاصل للسامع عن تلك الآيات، كذلك يمكن تخصيص آية الكتمان بتلك الآيات وإخراج حالة عدم حصول العلم للسامع عن آية الكتمان كما هو واضح.
 إذن، ليست النسبة بين كل واحدة من هذه الآيات الثلاث (آية النبأ وآية النفر وآية الكتمان) وبين الآيات الناهية عن العمل بالظَّنّ وغير العلم نسبة الأخص مطلقاً إلى الأعمّ مطلقاً، كي تُقدَّم عليها وتقيِّدها وتخصّصِها كما توهّم في هذا الوجه، بل قد عرفنا أنَّ النسبة هي العموم والخصوص من وجه. فالأخصّيةُ المدّعاة في هذا الوجه منتفية في هذه الآيات الثلاث على تقدير تماميّة دلالتها على حجيّة خبر الواحد.
 نعم قد يُقال بناسخيّتها لا أخصيّتها، بأَن يُلتزم بكون هذه الآيات الثلاث الَّتِي هي من أدلّة حجيّة خبر الواحد ناسخة لتلك الآيات الناهية عن العمل بالظَّنّ وغير العلم الَّتِي هي من أدلّة عدم حجيّة خبر الواحد؛ وذلك باعتبار تأخّرها الزمني عن تلك الآيات؛ فإنَّ آيات عدم الْحُجِّيَّة واردة في سورة >يونس< وسورة >الإسراء< وسورة >النجم< كما تقدَّم، وهي سور مكيّة، بينما آيات الْحُجِّيَّة (أيْ: النبأ والنفر والكتمان) واردة في سورة >الحجرات< وسورة >التوبة< وسورة >البقرة< وهي سور مدنيّة.
 إذن، فالنسخ ممكن أمّا التخصيص فلا، وسيأتي البحث عن الناسخية إن شاء الله تعالى.
 والحاصل: أنَّه لا بد من النظر في أدلّة حجيّة خبر الواحد؛ فإنَّ الأخصّية بلحاظ بعضها غير تامّة كما عرفنا، ولكن بلحاظ بعضها الآخر تامّة؛ فإنَّ في أدلّة حجيّة خبر الواحد ما ينفع لرفع الإِطْلاَق من الآيات الناهية عن العمل بالظَّنّ وغير العلم وتخصيصها.
 هذه هي الوجوه الَّتِي أجاب بها المحققون على الاستدلال بهذه الآيات على عدم حجيّة خبر الواحد، وقد عرفت الحال فيها.
 
 التحقيق في رد الاستدلال المذكور:
 والتحقيق في مقام الجواب على الاستدلال المذكور وجوه ثلاثة:
 الوجه الأول (وهو المهمّ) بأن يُقال: إِنَّ هذه الآيات لا دلالة لها في نفسها على عدم حجيّة مطلق الظَّنّ، فضلاً عن دلالتها على عدم حجيّة خبر الواحد، فهي أجنبيّة عن مسالة حجيّة الظَّنّ وعدم حجيّته، فلا يصّح جعلها دليلاً اجتهادياً فوقانياً على عدم حجيّة كل ظن، إِلاَّ ما خرج بالدليل.
 وهذه هي المناقشة الَّتِي وعدنا بها في المبدأ الأول من المبادئ العامّة للأدلّة في بحث تأسيس الأصل عند الشَّكّ في الحجية حيث كان أحد وجوه تأسيس أصالة عدم الحجية عبارة عن التّمسّك بهذه الآيات وجعلها مرجعاً فوقانياً دالاً على عدم حجيّة كل الظَّنّ إِلاَّ ما خرج بالدليل، ولم نذكر هذه المناقشة هناك، وإنمّا وعدنا هناك في هامش بذكرها في بحثنا هذا.
 والمناقشة هي أنَّه يمكن القول بأنَّه لا دلالة لهذه الآيات على عدم حجيّة الظَّنّ أساساً؛ وذلك لأنَّ هذه الآيات (كما تقدَّم) قد وردت بلسانين:
 اللسان الأول: هو لسان النهي عن قَفْوِ ما لا علم به، وذلك في قوله تعالى: {وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم}، فالمنهيّ عنه في هذه الآية عبارة عن اقتفاء ما لا علم به، وليس عبارة عن العمل بما لا علم به، وفرق بين الأمرين؛ فإنَّ اقتفاء الشيء عبارة عن اتّباعه وجعله سنداً ومعلولاً عليه، بحيث يكون هو الداعي نحو العمل المحرّك نحوه، فيُقال مثلاً: >فلانٌ يقتفي فلاناً<. يعني أنَّ المتبوع هو الَّذِي يحرّك التابع.
 فالآية الشريفة تريد أن تقول: إنَّ غير العلم ليس أساساً متيناً للتعويل عليه، وجعله عروة ومحرّكاً للإنسان؛ فإنَّ الإنسان لا يجوز له أن يجعل من الظَّنّ أساساً ومحرّكاً لعمله، وهذا هو معنى الاقتفاء.
 وهذا مطلب وعقلائي صحيح، ولا يُنافي ذلك حجيّة الظَّنّ في بعض الموارد؛ فإنَّ الإنسان في تلك الموارد وإن عمل بالظَّنّ، لكن ليس المحرّك له في عمله بالظَّنّ هو الظَّنّ، بل المحرّك له في ذلك هو العلم بحجيّة هذا الظَّنّ، ففي الموارد الَّتِي يقوم فيها الدليل على حجيّة بعض الظَّنّون يصدق أنَّ المكلَّف عمل بالظَّنّ، لكن لا يصدق أنَّ المحرّك له هو الظَّنّ. أي: ليس عمله بالظَّنّ بمقتضى آمرية نفس الظَّنّ بما هو هوَ، بل عمله بالظَّنّ إنمّا هو بمقتضى آمرية حجيّة الظَّنّ. فلو كان مفاد الآية هو النهي عن العمل بالظنِّ وتطبيق مفاده، فلا بأس بالاستدلال بها في المقام على عدم حجيّة الظَّنّ؛ لأنَّ محلّ الكلام إنمّا هو جواز العمل بالظَّنّ وتطبيق مفاده وعدم جواز ذلك، فتكون الآية ناهية عنه، لكنَّ الآية لم تنَهَ عن ذلك، بل نهت عن اقتفاء الظَّنّ وجعله سنداً ومحرّكاً.
 ومن الواضح أنَّه في موارد القطع بحجيّة الظَّنّ يكون السند والمحرّك عبارة عن القطع بحجيّة الظَّنّ، لا نفس الظَّنّ، فيكون دليل الْحُجِّيَّة وارداً على هذا النهي؛ لأنَّه رافع لموضوعه حقيقةً؛ لأنَّه يجعل القطع هو المُقتَفى والمتبوع لا الظَّنّ.
 وعليه، فالآية لا تدل على نفي حجيّة الظَّنّ، بل متى ما وجِدَ دليلٌ على حجيّة الظَّنّ كان رافعاً لموضوع الآية، وليس معارضاً لها في عرض واحد (كما كان يُفتَرض لحدّ الآن) كي نحتاج إلى التقديم بالحكومة او الأخصيّة.
 وإن شئت قلت: إنَّ ظاهر النهي في الآية هو كونه إرشاداً إلى ما يستقلّ به العقل من عدم جواز أن يستند الإنسان في أداء مسؤوليته وفي معذوريته عند المولى إلى غير العلم، بمعنى أنَّه يجب أن يكون سنده المباشر ورأس الخيط لما يعتمد عليه هو >العلم<، ومن الواضح أنَّ دليل حجيّة خبر الواحد لابدَّ من أن ينتهي إلى العلم حقيقةً، ويكون دليلاً قطعياً على الْحُجِّيَّة، بحيث يكون السند المباشر للإنسان في العمل بخبر الواحد هو العلم بحجيّته، وهذا ما لم تَنْهَ عنه الآيةُ الشريفةُ، فيكون دليل حجيّة خبر الواحد وارداً على الآية؛ لأنَّه يجعل العلمَ بالْحُجِّيَّةِ هو المتَّبعِ، فيخرج موضوعاً حقيقةً عن قوله تعالى: {وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم}.
 نعم، العمل بخبر الوحد استناداً إلى إفادته الظَّنَّ بالواقع منهيٌ عنه بالآية المباركة، أمّا العمل به استناداً إلى العلم بحجيّته، فهو غير منهيٍ عنه بالآية، كما هو واضح.
 ودعوى أنَّ النهي ظاهر في المولوية ولا مبرّرَ لحمله على الإرشاد أو فرض الإجمال.
 مدفوعة بأنَّه إن أُريد من ظهور النهي في المولويّة ظهوره في النهي التكليفي والزجر عن الفعل زجراً ناشئاً من ملاك إِلْزَامي (وهذا هو المعنى الَّذِي قلنا في بحث دلالته النهي عن المولوية والإرشادية بظهور النهي فيه) فهذا المعنى لا شك في أنَّه ليس بمرادٍ في المقام لوضوح أنَّ إتّباع غير العلم ليس فيه من المحرّمات النفسيّة، فلا محيص عن القول بكونه إرشاداً إمّا إلى عدم الْحُجِّيَّة شرعاً أو إلى ما قلناه آنفاً.
 وإن أُريد من ظهوره في المولوية أنَّ ظاهر حال المولى هو أنَّه يخاطب العباد بما هو مولى لهم؛ فإنَّ هذا هو الَّذِي يكون من شأن المولى، لا كما يُخاطب أيُّ إنسانٍ اعتيادي الآخرينَ، فمن الواضح أنَّ هذا الظهور لا يمنع من حمل النهي على الإرشاد إلى ما قلناه؛ إذ لا شك في أنَّ من شأن المولى أيضاً إرشاد العبد إلى الالتزام بما تقتضيه مولويتُه، نظير إرشاده إلى طاعته وترك معصيته. فكما أنَّ التنبيه على الطاعة وترك المعصية من شأن المولى؛ لأنَّه ممّا تقتضيه مولويته، كذلك التنبيه على ما قلناه من أنَّ أساس معذورية العبد تجاه المولى وسنده المباشر في أداء المسؤولية يجب أن يكون هو >العلم< دون غيره.
 فإن قيل: نعم، ظهور النهي في المولوية بالمعنى الثاني، وإن كان لا يمنع من حمل النهي في الآية الشريفة على الإرشاد إلى ما قُلتم، لكنَّه لا يمنع من حمله على الإرشاد إلى عدم حجيّة الظَّنّ شرعاً، فلماذا لا نحمل النهي على الإرشاد إلى عدم الْحُجِّيَّة؟!
 قلنا: إنَّ ذيل الآية المباركة قرينةٌ على أنَّ النهيِ ليس لبيان عدم الْحُجِّيَّة، وهو قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}( [12] )؛ فإنَّ هذا تَعْلِيل لذاك النهي، وقد جعله علّةَ النهي عن اتباع غير العلم عبارة عن >المسؤولية<، وهذا معناه أنَّ هناك في المرتبة السابقة على النهي (وهي مرتبة علّة النهي) مسؤولية، ومقتضى فرض >المسؤولية< في المرتبة السابقة على النهي هو كون النهي إرشاداً إلى ما ذكرناه والذي يستقل العقل به من عدم جواز الاعتماد في العمل وأداء >المسؤولية< على غير العلم، ولذا وقع النهي في الآية المباركة في طول >المسؤولية<، وأصبحت المسؤوليةُ هي الْعِلَّة له، ولو كان النهي لبيان عدم الْحُجِّيَّة شرعاً لكانت المسؤولية في طول النهي لا العكس، بينما الوارد في الآية هو العكس، وبيان أنَّ السمع والبصر والفؤاد حيث أنَّه مسؤول عنه، فلذا لا يصّح الاعتماد في العمل الَّذِي يكون هو الجواب الصَّحِيح على هذه المسؤولية على غير العلم، بل لا بدّ من أن يكون رأس الخيط الَّذِي يتمسّك به الإنسان في أداء واجبه عبارة عن العلم، وهذا هو الَّذِي يحكم به العقل أيضاً، فيكون النهي إرشاداً إلى هذا الحكم العقلي. وهذا بخلاف ما لو كان النهي إرشاداً إلى عدم حجيّة غير العلم لدى الشارع، فإنَّه حينئذٍ كان ينبغي أن تكون الآية على العكس مّما هي عليه الآن، وأن تكون بصيغة تُبيّن أنَّ مسؤولية الإنسان على السمع والبصر والفؤاد معلومة لعدم حجيّة غير العلم، بأن يُقال: إنَّ السمع والبصر والفؤاد مسؤول عنه؛ لأنَّ غير العلم ليس حُجَّة شرعاً، وهذا واضح.
 ومن خلال ما ذكرناه يظهر وجه النظر في ما ذكره السيّد الهاشمي (حفظه الله) في هامش تقريراته حيث قال:
 فُسِّر القفو في الآية بالبهتان والقذف والكلام خلف الشخص، ولعلّه يناسب التَّعْلِيل بقوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}( [13] )، فيكون أجنبياً في محل الكلام. ولو حُمِلَ على الاتّباع فالمعنى حينئذٍ: >لا تذهب وراء غير المعلوم ولا تّتبعه<، وهذا إرشاد إلى عدم حجيّته لا محالة؛ لأنَّ الإتّباع أضيف إلى ما لا علم به لا إلى عدم العلم نفسه.
 هذا مضافاً إلى أنَّ حمل الخطاب المولوي على الإرشاد إلى حكم العقل خلاف ظهوره في المولوية، بخلاف ما لو كان إرشاداً إلى عدم الْحُجِّيَّة شرعاً.
 اللّهم إِلاَّ أن يُجعل سياق الاختصام والاستنكار قرينة على الإرشاد إلى الحكم( [14] ).
 أقول: أمّا ما ذكره من تفسير القفو بالبهتان والقذف والكلام خلف الشخص، فلا شك في أنَّه تفسير للكلمة بخلاف معناها الْحَقِيقِيِّ والظاهرِ منها وهو >الإتّباع<، فلا مبرّر لحمل الكلمة عليه ما لم يرد هذا التفسير في رواية معتبرة عن المعصوم ×؛ فإنَّ قول هذا المفسِّر أو ذاك ليس حُجَّةً، بل الْحُجَّة حينئذٍ عبارة عن ظهور اللفظ، كما هو واضح.
 وأمّا التَّعْلِيل فهو كما يُناسب هذا المعنى يُناسب أيضاً المعنى الَّذِي ذكرناه كما عرفت آنفاً.
 وأمّا ما ذكره من أنَّه لو حمل على >الاتّباع< يكون المعنى: لا تتبع غير المعلوم؛ باعتبار أنَّ الإتّباع أُضيف إلى ما لا علم به (ولابّد من أن يكون مقصوده >حفظه الله< من الإضافة التعلّق، أيْ: أنَّ متعلق الاتّباع ومفعوله غير معلوم، وليس متّعلق الاتّباع نفس عدم العلم، حيث لم يقل: >لا تقفُ عدم العلم<)، وحينئذٍ يكون النهي من اتّباع غير المعلوم إرشاداً إلى عدم حجيّته لا محالة.
 فيرد عليه، أنَّ متعلق الاتّباع وإن كان عبارة عن غير المعلوم إِلاَّ أنَّ هذا لا يساوق كون النهي إرشاداً إلى عدم الْحُجِّيَّة، بل ينسجم مع ما قلناه من كون النهي إرشاداً إلى حكم العقل بأنَّ رأس الخيط والسند المباشر يجب أن يكون هو العلم؛ وذلك لأنَّ النهي في الآية الشريفة نهيٌ عن اتّباع ما ليس للإنسان أيُّ علمٍ به أصلاً، لا علمٌ بمطابقته للواقع ولا علمٌ بحجيّته.
 فالمنهي عنه هو اتّباع ما لا نعلم بمطابقته للواقع ولا نعلم بحجيّته؛ فإنَّ هذا هو مقتضى إِطْلاَق {ما ليس لكَ به علم}، فيكون النهي إرشاداً إلى ما قلناه.
 فكأنَّ السيّد الهاشمي >حفظه الله< حمل قوله: {ما ليس لك به علم} على خصوص ما لا علم بمطابقته للواقع، فيكون النهي حينئذٍ إرشاداً إلى عدم حجيّة ما لا نعلم بمطابقته للواقع، مع أنَّ هذا الحمل لا وجهَ له ولا مبرّرَ، بعد كون كلمة >علم< مطلقةً في الآية ولا مقيِّد لها، فما لا يوجد لدينا أيُّ علمٍ به أصلاً (لا علم بمطابقته للواقع ولا علم بحجيّته) يكون هو المنهي عن اتّباعه، فلا يشمل خبرَ الواحد الَّذِي قام الدليلُ القطعي على حجيّته حسب الفرض؛ لأنَّه وإن كان مّما لا علم لنا بمطابقته للواقع إِلاَّ أنَّه ليس مّما لا يوجد لدينا أيُّ علمٍ به، بل نعلم بحجّيّتِهِ، فهو ينتهي إلى العلمِ، فلا يصدق عليه أنَّه لا علم لنا به أصلاً، فاتّباعه ليس اتّباعاً لغير المعلوم بقول مطلق، بل هو اتّباع لما نعلم بحجيّته، فيكون دليل الْحُجِّيَّة وارداً على الآية لا معارضاً (كما هو الحال في ما إذا حملنا النهي في الآية على الإرشاد إلى عدم الْحُجِّيَّة) كما هو واضح.
 فإن قيل: إنَّ إِطْلاَق >ما< يشمل كلَّ غيرِ معلومٍ سواءً كان مفاده ومضمونه غير معلوم المطابقة للواقع أم كانت حجيّته غير معلومة، وبشموله للأول يشمل خبرَ الواحد؛ لأنَّه لا يعلم مطابقة مفاده ومضمونه للواقع، ومن الواضح حينئذٍ أنَّ النهي عن اتّباعه إرشادٌ إلى عدم حجيّة.
 قلت: إنَّ >ما< من الموصولات والمبهَمات والمعرِّف لها عبارة عن الصلةِ، وهي في الآية عبارة عن قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وكلمة {عِلْمٌ} نكرة في سياق النفي، فتفيد العمومَ، فالنتيجة هي أنَّ المنهي عن اتّباعه ليس كلَّ غير معلوم، بل خصوص ما لا يوجد أيُّ علم به لا بمفاده ومضمونه ولا بحجيّته، فلا يشمل خبرَ الواحد الَّذِي نعلم بحجيّته، بل يكون الدليل القطعي القائم على حجيّته وارداً على الآية كما عرفت.
 وأمّا ما ذكره أخيراً من أنَّ حمل الخطاب المولوي على الإرشاد إلى حكم العقل خلاف ظهوره في المولوية، بخلاف حمله على الإرشاد إلى عدم الْحُجِّيَّة شرعاً، فقد عرفتَ الجواب عليه قبل قليلٍ، حيث ذكرنا معنيين لظهور الأوامر والنواهي في المولوية، والظاهر من عبارته - حفظه الله - بل صريحها هو أنَّه يقصد المعنى الثاني؛ لأنَّ المعنى الأوّل يتنافى حتّى مع ما استظهره هو - حفظه الله - من كون النهيِ إرشاداً إلى عدم الْحُجِّيَّة، وحينئذٍ إذا كان مقصوده المعنى الثاني، فقد عرفتَ عدم منافاته لكون النهي إرشاداً إلى ما قلناه من حكم العقل مستقّلاً بأنَّه لا بُدَّ من أن يكون السند المباشر للعبد في عمله وأداء مسؤوليته تجاه مولاه ومعذوريته عنده هو >العلم<؛ فإنَّ إرشادَ المولى عبدَه إلى هذا الحكم العقلي إرشادٌ له إلى الالتزام بما تقتضيه مولويةُ المولى، فيكون هذا الإرشاد من شؤون المولى، ويكون الخطاب المتضمّن لهذا الإرشاد خطاباً مولوياً بمعنى كونه خطاباً منه تعالى للعباد بما هو مولى لهم نظير إرشاد المولى عبده في قوله: {أطيعوا الله} إلى الحكم العقلي القائل بوجوب طاعته، وإرشاده إيّاه في قوله مثلاً: >لا تعص الله< إلى الحكم العقلي القائل بقبح معصيته؛ فإنَّ الأمر بطاعته وكذلك النهي عن معصيته بالرغم من أنَّه إرشاد إلى حكم عقلي، فإنَّه مع ذلك لا يتنافى مع مولوية الخطاب وظهور الأمر والنهي في المولوية بالمعنى الثاني؛ لأنَّه إرشاد إلى الالتزام بما تقتضيه مولوية المولى، فيكون من شؤونه ويكون الخطاب المتضمّن له خطاباً مولوياً (أيْ: خطاباً منه تعالى للعباد بما هو مولىً لهم)، وكذلك الأمر فيما نحن فيه كما عرفت.
 إذن، فحمل الخطاب على الإرشاد إلى الحكم العقلي في أمثال هذه الموارد ليس خلاف ظهور الخطاب في المولوية، كما هو واضح.
 وأمّا ما استدركه - حفظه الله - في آخر كلامه بقوله: >اللهم إِلاَّ أن يُجعل سياق الاختصام والاستنكار قرينة على الإرشاد إلى حكم العقل<، فلم نعرف وجهه؛ فإنَّ الآية الشريفة كما
 


[1] - سورة الإسراء (17): الآية 36.
[2] - سورة يونس (10): الآية 36.
[3] - سورة النجم (53): الآية 28.
[4] - راجع: الكاظمي، فوائد الأصول: ج2، ص56، وأيضاً دراسات في علم الأصول: ج3، ص155.
[5] - الخوئي، أجود التقريرات: ج3، ص148.
[6] - الخراساني، كفاية الأصول: ج2، ص80.
[7] - الخراساني، كفاية الأصول: ج2، ص80.
[8] - دراسات في علم الأصول: ج3، ص155.
[9] - سورة الحجرات (49): الآية 6.
[10] - سورة التوبة (9): الآية 122.
[11] - سورة البقرة (2): الآيتان 159 و160.
[12] - سورة النجم (53): الآية 11.
[13] - سورة النجم (53): الآية 11.
[14] - الهاشمي، بحوث في علم الأصول: ج4، ص339.