الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/11/01

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: الشهرة/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 الاحتمال الرابع:
 أن يكون المراد به نفي الريب والشَّكّ الْحَقِيقِيّ نفياً نسبيّاً جهتيّاً حيثيّاً، فهو إِخْبَار عن انتفاء الريب والشَّكّ الْحَقِيقِيّ من جهة قلّة العدد في الأمر >الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< والمشهور، بمعنى أنَّ الريب والشَّكّ وإن كان ثابتاً في الرواية المشهورة والمجمع عليها وفي الرواية الشاذّة كلتيهما، لكنَّ الرواية المشهورة والمجمع عليها بِالنِّسْبَةِ إلى الرواية الشاذّة لا ريب فيها، بمعنى أنَّ باب الشذوذ وقلّة العدد الَّذِي هو من أبواب تطرّق الرَّيْب منسّدٌ فيها، بينما هو مفتوح في الرِّوَايَة الشَّاذّة، فنفي الرَّيْب عن الْمَشْهُور إضافي ومن ناحية الشهرة، حيث أنَّ الْمَشْهُور كل ما فيه من الرَّيْب واِحْتِمَالات البطلان موجود في غير الْمَشْهُور، إِلاَّ أنَّ اِحْتِمَال الرَّيْب والبطلان من ناحية قلّة العدد والشذوذ موجود في غير الْمَشْهُور، ولكنَّه من هذه الناحية والحيثية غير موجود في الْمَشْهُور، ففي الرَّيْب عن الْمَشْهُور نفي حيثيّ إضافي أو قل: نفي الرَّيْب بِالنِّسْبَةِ. ومن هذه الناحية لا ينفيه على الإطلاق، فالْمَشْهُور وغير الْمَشْهُور هما من سائر الجهات متساويان، وكل ما يمكن أن يُدخل الشَّكّ والرَّيْب في الْمَشْهُور يمكن أن يدخله في غير الْمَشْهُور، لكن هناك عامل قوّة في الْمَشْهُور غير موجود في غير الْمَشْهُور، وهو عبارة عن كثرة العدد.
 وهذا الاِحْتِمَال أيضاً يمتاز على الاِحْتِمَال الثاني بتحفظّه على التعليل بأمرٍ مفهوم عند العقلاء.
 إِلاَّ أنَّ هذا الاِحْتِمَال أيضاً لا هو موافق لظاهر المقبولة، ولا هو موافق للمقصود.
 وتوضيحه: أنَّ هذا الاِحْتِمَال:
 أولاً: خلاف الظاهر في نفسه، حيث أنَّ الظاهر من عدم الرَّيْب هو النفي الْحَقِيقِيّ لِلرَّيْبِ (أيْ: النفي من جميع الجهات وعلى الإطلاق، لا النفي النسبّي الإضافي لِلرَّيْبِ، فحمله على النفي الحيثي والجهتيّ يحتاج إلى مؤنة وقرينة هي مفقودة).
 وثانياً: أنَّه حتى على فرض صحّته في نفسه وموافقته لظاهر المقبولة لا يفيد المقصود ولا ينفع الاستدلال بالمقبولة على حجيّة الشهرة الفتوائية؛ وذلك لا لما أُفيد من أنَّ النفي النسبي للريب لا يصلح جعله قاعدة عامّة( [1] )؛ فإنَّ حال هذا حال سائر التعليلات يصلح جعله قاعدة عامّة، بل لأنَّ هذا التعليل يكون حينئذٍ بصدد بيان الوجه في ترجيح هذا على ذاك بعدم الرَّيْب فيه بِالنِّسْبَةِ إلى ذاك بعد فرض الفراغ عن حجيّة أحدهما (أيْ: أنَّه بعد ما فرض الفراغ عن حجيّة أحدهما يكون ما هو أقلّ ريباً منهما أولى بالحجيّة من الآخر)، وليس التعليل حينئذٍ (بناءً على هذا الاِحْتِمَال) بصدد بيان تأسيس الحجيّة لكلّ أمارة يوجد ما هو أخسّ وأضعف منها إلى أن نصل إلى أخسّ الأمارات وأضعفها. فالتعدّي بقانون التعليل إنمّا يكون إلى كل مورد نعلم فيه بحجيّة إحدى الأمارتين، وتكون إحداهما أقل ريباً من الأخرى.
 ولأجل هذا التعليل ونحوه قال البعض في باب الخبرين المتعارضين بكفاية مطلق الترجيحات المتصوَّرة في المقام مّما يجعل اِحْتِمَال الصدق في إحداهما أقوى منه في الآخر.
 أَمّا الشهرة الفتوائية الَّتِي يكون الكلام في أصل حجيّتها (كما هو المفروض) فهي أجنبيّة عن مفاد المقبولة، ولم تثبت لنا في المرتبة السابقة حجيّة إحدى الفتويين كي نجعل الشهرة موجبة للترجيح وتعيين الفتوى الْمَشْهُورَة في قبال غير الْمَشْهُورَة.
 وعدم الالتفات إلى هذه النكتة الَّتِي شرحها سيّدنا الأستاذ الشهيد & أوجب صياغة الإشكال في الاستدلال بالمقبولة بصياغة عدم قابلية هذا التعليل لجعله قاعدة عامّة، وواقع الأمر هو ما ذكرناه.
 والحاصل: أنَّ هذا الاِحْتِمَال حتّى لو صحّ في نفسه، فإنَّه مع ذلك لا يتم الاستدلال بالمقبولة حينئذٍ من خلال عموم التعليل؛ لأنَّ من الواضح حينئذٍ أنَّ هذه الكبرى إنمّا وردت في مورد تعيين الحجّة بعد الفراغ عن أصل الحجيّة، كما هو الحال في المتعارضين، فلو أريد التعدّي من موردها والتمسّك بعموم التعليل، فغاية ما يفيد هو التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى مطلق المرجّحات (أيْ: أنَّ كل رواية إذا عارضت رواية أخرى، فالتّي هي أقوى من أي جهة كانت من الجهات تُقدَّم).
 وأمّا استفادة جعل حجّة تأسيسيّة فغير محتمل؛ لأنَّه لا يحتمل أنَّ كل أمارة يكون في مقابلها ما هو أضعف منها تكون حجّة.
 وبتعبير آخر: بناءً على هذا الاِحْتِمَال يكون مفاد المقبولة حينئذٍ الترجيح بالمزيّة، فلو استفيد التعميم فغايته التعميم في الترجيح بكل مزيّة موجودة في أحد الخبرين مفقودةٍ في الآخر بعد الفراغ عن أصل الحجيّة، لا إثبات حجيّة وتأسيسها بعد الرَّيْب نسبياً، بحيث يكون خبر الكاذب مثلاً حجة؛ لأنَّه لاَ رَيْبَ فيه نسبياً بِالنِّسْبَةِ إلى خبر الأكذب والكذّاب؛ فإنَّ هذا واضح الفساد.
 هذا هو حال الاِحْتِمَال الرابع، فتلخَّص أنَّهُ على كل الاِحْتِمَالات فإنَّ المقدمّة الثانية غير تامّة. إذن، الاستدلال بالمقبولة على المدّعى (وهو حجيّة الشهرة الفتوائية) غير تامٍّ.
 وبهذا تمَّ الكلام في الوجه الأول من وجوه الاستدلال على حجيّة الشهرة الفتوائية، وقد تبيّن عدم صحّته.


[1] - راجع: الكاظمي، فوائد الأصول: ج2، ص54.