الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/10/29

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: الشهرة/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 الوجه الأول:
 التمسّك بمقبولة عمر بن حنظلة التي ورد فيها في فرض تساوي الراويين (الَّذَيْنِ روَيا الخبرين المتعارضين) في العدالة قوله:
 >يُنْظَرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ رِّوَايَتِهِمَا عَنَّا فِي ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِكَ، فَيُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِنَا، وَيُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ؛ فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لاَ رَيْبَ فِيهِ<( [1] ).
 وتقريب الاستدلال بها موقوف على مقدمّتين:
 المقدمّة الأولى: أن المقصود بـ>الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< ليس هو المجمع عليه الحقيقي (أيْ: المتفّق عليه، وإلاَّ لكان أجنبيّاً عن محلّ الكلام)، بل المراد منه هو >المشهور<؛ بدليل جعله في مقابل >الشاذّ<؛ فإنَّ >المجمع عليه< الحقيقي لا يوجد في مقابله شاذٌّ أصلاً، كما أنَّ توصيف >الشاذّ< بـ>ما ليس بمشهور< قرينة أخرى على أنَّ ما في مقابل >الشاذّ< هو >المشهور< لا المجمع عليه الحقيقي.
 والحاصل: أنَّ المراد بالإجماع في كلمة >الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< هو الإجماع النسبي الذي يساوق >الشهرة<، إلحاقاً للمخالف النادر بالمعدوم، والقرينة المدّعاة على ذلك:
 أولاً: عبارة عن أنَّه قد فرض في نفس الكلام وجود الشاذ في مقابل المجمع عليه.
 ثانياً: وُصِفَ >الشاذ< في نفس الكلام بأنَّه ليس بمشهور؛ فهاتان قرينتان على أنَّ المقصود بـ>الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< ليس هو المتفّق عليه كما هو واضح.
 المقدمّة الثانية: أنَّ مورد المقبولة، وإنَّ كان عبارة عن الشهرة الروائية، نظراً إلى أنَّ الشهرة فيها قد أُضيفت إلى نفس الرواية، حيث قال السائل في مقطعٍ سابق: >فإن كان الخبران عنكم مشهورين أدّاهما الثقات عنكم<، فلا يكون مورد المقبولة شاملاً للفتوى المشهورة، بل هو مختص بالرواية المشهورة.
 إِلاَّ أنَّ قول الإمام × في ذيل هذا المقطع: >فَإِنَّ الْمُجْمِعَ عَلَيْهِ لاَ رَيْبَ فِيهِ< مَسُوقٌ مَسَاقَ التعليل، وهو يقتضي التعميم. فكأنَّه قال (بعد حمل المجمع عليه على المشهور طبقاً للمقدمّة الأولى): >فإنَّ المشهور لا ريب فيه<، فهو تعليل عام يشمل كل >المشهور< سواء كان >رواية< أم كان >فتوى<.
 فالمورد وإن كان خصوص الرواية المشهورة، إِلاَّ أنَّ المورد لا يُخصّص عمومَ التعليل الوارد. فالمتفاهم من المقبولة هو أنَّه كلمّا انعقد شهرة على شيء (رواية أو فتوى) فلا ريب في ذاك الشيء، فتثبت حجيّة الشهرة الفتوائية.
 هذا هو تقريب الاستدلال بالمقبولة على حجيّة الشهرة الفتوائية، إِلاَّ أنَّ هذا الاستدلال غير تام؛ لعدم تماميّة كلتا المقدمّتين:
 أمّا المقدمّة الأولى: فالوجه في بطلانها هو أنَّ حمل >الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< على >المشهور< بالمعنى المصطلح عليه عندنا حمل للكلمة على خلاف ما هو الظاهر منها؛ فإنَّ الظاهر من >الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< هو المتفّق عليه؛ لظهور >الإجماع<، في الاتفّاق والتطابق، وأمّأ ما جُعِلَ في المقدمّة الأولى قرينةً على هذا الحمل فهو غير صالح للقرينة عليه؛ وذلك:
 أمّا القرينة الأولى: وهي عبارة عن جعل >الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< في مقابل >الشاذّ<، فهي غير صالحة للقرينية على أنَّ المراد بـ>الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< ليس هو الحقيقي (أيْ: المتفّق عليه)؛ وذلك لأنَّ هذه القرينة إنمّا تتم لو كان المقصود بالمجمع والمتفّق عليه في المقبولة عبارة عن الفتوى المجمع والمتفّق عليها؛ فإنَّ الفتوى إذا كانت مُجمعاً ومتفّقاً عليها، فلا يُعقل أن يوجد في مقابلها شاذّ أصلاً، فيكون جعل >الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< في المقبولة في مقابل >الشاذّ< حينئذٍ قرينة على أنَّ المراد بـ>الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< الفتوى المشهورة؛ فَإِنَّهَا الَّتِي يُعقل وجود >الشاذّ< في مقابلها.
 وأمّا إذا كان المقصود بالمجمع والمتفّق عليه في المقبولة عبارة عن الرواية المجمع والمتفّق عليها، فمن الواضح أنَّه يُعقل وجود >الشاذّ< في مقابلها (أي: وجود رواية غير مجمع ومتفّق على روايتها).
 والحاصل: أنَّ كون الشيء مجمعاً عليه، إنمّا ينفي وجود >الشاذّ< في قباله في باب الفتوى، حيث لا يمكن إجماع الفقهاء واتفاقهم على وجوب السورة مثلاً مع وجود من يفتي باستحبابها؛ فإنَّ الموجبة الكليّة لا تجتمع مع السالبة الجزئيّة، فقولنا: >أفتى كل الفقهاء بالوجوب< يتنافى مع قولنا: >بعض الفقهاء لم يفتِ بالوجوب< كما هو واضح.
 أمّا في باب الرواية فلا منافاة أصلاً بين كون إحدى الروايتين مجمعاً عليها (أيْ: أَنَّها مرويّة ومعترف بها عند الجميع والأخرى شاذّة لم يروها إِلاَّ بعضٌ نادرٌ).
 إذن، فجعل >الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< في مقابل >الشاذّ< ليس قرينةً على أنَّ المقصود بـ>الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< هو المشهور، إِلاَّ إذا حُمِل المشهور على >الفتوى المشهورة<، بينما قد سلّمنا جميعاً (نحن والمستدل بالمقبولة) بأنَّ مورد المقبولة عبارة عن الشهرة الروائيّة. فالمراد >بالمشهور< فيها عبارة عن >الرواية المشهورة<، وقد عرفت أنَّ من الواضح أنَّ كون الرواية مشهورة ومُجْمَعاً على روايتها لا يتنافى مع وجود رواية أخرى شاذّة في مقابلها.
 وأمّا القرينة الثانية: وهي عبارة عن توصيف >الشاذّ< بأنَّه >ليس بمشهور<، فهي أيضاً غير صالحة للقرينية على أنَّ ما في مقابل >الشاذّ< هو >المشهور< بالمعنى المصطلح عليه عندنا الذي هو في قبال المجمع عليه الحقيقي؛ وذلك لأنَّه قد يكون المقصود بـ>المشهور< في هذا التوصيف معناه اللغوّي (أيْ: الواضح والذائع والشائع والمعروف)، وعليه فتوصيف >الشاذّ< بـ>أنَّه ليس بواضح ومعروفٍ< لا يكون قرينة على أنَّ ما في مقابل >الشاذّ< هو المشهور بالمعنى المصطّلح عليه عندنا الذي هو في قبال >الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ<، بل هو قرينة على كون ما في مقابل >الشاذّ< هو الواضح المعروف، فلا يتنافى مع كون ما في مقابل >الشاذّ< هو المتفّق والمجمع عليه الحقيقي، كما هو واضح.
 إذن، لا موجب أصلاً لحمل >الإجماع< في كلمة >الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< على الإجماع النسبي المساوق للشهرة الاصطلاحيّة، فالمقدمّة الأولى غير تامّة.
 وأمّا المقدمّة الثانية: فالوجه في بطلانها حتى بعد تسليم المقدمّة الأولى هو أنَّ التعليل المذكور في المقبولة ذو وجوه واحتمالات، منها ما لا يوافق المقصود، ومنها ما لا يوافق ظاهر المقبولة؛ فإنَّ قوله: >فَإِنَّ الْمُجْمِعَ عَلَيْهِ لاَ رَيْبَ فِيهِ< وإن كان مَسُوقاً مَساقَ التعليل المقتضي للتعميم، إِلاَّ أنَّنا نتساءل: ما معنى نفي >الرَّيْبِ< عن >الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< الذي حملناه على المشهور طبقاً للمقدمّة الأولى؟ فإنَّ عدم الريب في المشهور توجد فيه احتمالات أربعة:
 
 الاحتمال الأول:
 أن يكون المراد به نفي الريب الحقيقي (وهو الشك) حقيقةً، بأن يكون الكلام إخباراً عن عدم الشك واقعاً في صحّة >الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< وأنَّها قطعية، والمنفيّ هو مطلق الشك، كما هو ظاهر اللفظ.
 وهذا الاحتمال وإن كان مطابقاً لظاهر الكلام ومعقولاً في الشهرة الروائيّة؛ باعتبار أنّها توجب العلم غالباً ولو علماً عاديّاً، لكنَّه لا ينفع المقصود (وهو إثبات حجيّة الشهرة الفتوائية) لوجود الريب والشك في الشهرة الفتوائية تكويناً وعدم إيجابها العلم، كما هو واضح.
 فبناءً على هذا الاحتمال يختصّ >الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ< بالرواية المشهورة في كتب الثقات من علمائنا والتي يكون لكل واحدٍ منهم طريق إليها؛ فإنَّها حينئذٍ تكون عادةً قطعيّةً لا ريب فيها ولا شك، كالرواية المتواترة، ويكون المعنى أنَّ: الرواية المجمع عليها في النقل لا شك في صدورها وصحّتها إطلاقاً.
 أمّا الفتوى المشهورة فليست كذلك؛ إذ من الواضح أنَّ مجرّد اشتهار فتوى لا يوجب كونها مما لا ريب فيه وجداناً؛ ضرورةَ وجود الريب الوجداني فيها وعدم انتفائه عنها مع كثرة الاطّلاع على خطأ المشهور في كثير من الفتاوى.
 وعليه فالتعليل إنمّا يناسب الشهرة الروائيّة فقط ولا يعمَّ الشهرة الفتوائية؛ لأنَّ التعليل تعليل بـ>القطعيّة وعدم الشكّ<، فيعمُّ كل ما هو قطعيّ لا شك فيه، وهذا لا يشمل الشهرة الفتوائية، فكأنَّه قال: >خذ بالرواية المجمع عليها؛ لأنَّها قطعيّة ولا ريبَ فيها<.
 وطبعاً المقصود بنفي الريب عن الرواية هو نفي الريب عن ورودها وصدورها من الإمام × كما أشرنا إلى ذلك، وليس المقصود نفي الريب عن مطابقتها للواقع كي لا يبقى ريب في بطلان الرواية الأخرى غير المجمع عليها.
 وبتعبير آخر: لا بدّ لنا من حمل عدم الريب في الرواية المجمع عليها على معنى ينسجم مع بقاء الريب في الرواية الأخرى غير المجمع عليها، وهذا إنمّا يكون بحمله على عدم الريب في صدورها؛ فإنَّ الرواية المجمع عليها لا ريب في صدورها، أمّا الرواية الأخرى غير المجمع عليها فيوجد شك وريبٌ في صدورها.
 أمّا لو حملناه على عدم الريب في مطابقتها للواقع (إذن) تكون الرواية الأخرى غير المجمع عليها مّما لا ريب ولا شك في بطلانها وعدم مطابقتها للواقع، فلا يوجد ريبٌ وشك في شيءٍ من الروايتين حينئذٍ، ويكون المورد من تعارض الحجّة مع اللاَّحُجّة، وهذا خلاف الظاهر.
 إذن، بناءً على هذا الاحتمال الأول لا تتّم المقدمّة الثانية.


[1] - انظر: العاملي، وسائل الشيعة: ج27، ص 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، من طبعة آل البيت، وج18، ص 75 و76 من طبعة الإسلامية.