الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/10/23

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: الإجماع المنقول/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 الطريق الرابع:
 أنَّه يُقال: إِنَّنا حتّى الآن فرضنا أنَّه لا ملازمة بين الإجماع وصحّة الحكم أو بين التواتر وصحّة الخبر، وإنمّا الملازمة بين العلم بهذا والعلم بذاك، ومن هنا بَرَزَ الإشكال بتقريب أنَّ الإخبار عن الإجماع أو عن التواتر ليس إخباراً بالملازمة عن الحكم أو الخبر المُخبَر به.
 ولكنَّنا نقول الآن: صحيح أنَّه لا ملازمة بين ذات الإجماع أو ذات التواتر وبين صحّة العقد والمصّب؛ فليس من المستحيل عقلاً الانفكاك بينهما ذاتاً، ولكن الملازمة العادية أو الاتفاقيّة (بالمعنى المتقدّم الذي شرحناه سابقاً) ثابتةٌ ولا يمكن إنكارها.
 بمعنى: أنّنا نعلم بأنَّ اتفاق الآراء والفتاوى من قِبَل الفقهاء، وكذلك اتفاق الأخبار من قِبَل المُخبِرين ضمن ظروف وشروط معيّنة (من قبيل عدم توفّر أسباب الخطأ أو عدم توفّر دواعي الكذب) يلازم صحّة الحكم المتفَّق عليه أو صدق الخبر المُخبَر به. وهذه الظروف والشروط مُحرَزة (ولو ببركة حساب الاحتمالات) في كل إجماعٍ أو تواترٍ يورث العلمَ.
 إذن، فالملازمة بين >الإجماع< أو >التواتر< مع تلك الشروط أو الظروف وبين صدق الخبر أو صحّة الحكم ثابتة، وقد أخبَر المُخبِر الناقل للإجماع أو للتواتر إخباراً عن حسّ بهذا الإجماع أو التواتر والمفروض أنَّ ما أخبَر به لو علمناه لعلمنا بصحّة مصبّه، وهذا يعني أنَّنا نعتقد أنَّه سنخ إجماع وتواترٍ ملازم في الصدق لصدق الحكم أو الخبر، فالإخبار عنه إخبار بالملازمة عن الحكم والخبر، فيكون حجّة.
 إلا أنه يرد عليه أَنَّ الملازمة العادية أو الاتفاقيّة ثابتة بنحو القضيّة الحقيقية، بتقريب أنَّنا نجري حساب الاحتمالات بشأن شيء أسبق رتبة من الإجماع والتواتر، بحيث نستفيد بعد ذلك حقانيّة كل إجماع أو تواتر، وتلك النّكتة (التي هي قبل قيام الإجماع والتواتر والتي هي أسبق رتبةً) هي أنَّ هؤلاء العلماء أو هؤلاء الناس (سواء اتفقوا فعلاً على رأي واحد أو خبرٍ واحد، أم لم يتفقوا) لا تتوفّر فيهم جميعاً أسباب الخطأ في رأي واحد أو دواعي الكذب في خبر واحد معيّن؛ وذلك بحسب حساب الاحتمالات.
 والسبب هو أنَّه قد ثبت بالتجربة والاستقراء أنَّهم يختلفون في ظروفهم وأذواقهم ومصالحهم ومشاربهم اختلافاً شديداً، بحيث أنَّ نقاط الاختلاف تزيد على نقاط الاشتراك التي من جملتها اتفاق مصلحتهم جميعاً على الكذب في تلك القضيّة التي يُفتَرض إخبارهم بها أو خطأهم جميعاً في ذلك الرأي الذي يُفتَرض اتفاقهم عليه.
 وبعد أن يثبت ذلك يُقال بأنَّ افتراض أنَّ هؤلاء الناس على اختلافهم المذكور اتفّق أنَّ كل واحد منهم وجدت له مصلحة في أن يكذب علينا في إخباره هذا أو اتفّق أن كل واحد منهم قد أخطأ في رأيه هذا، فهذا معناه أنَّه في خصوص هذه القضيّة عوامل الاشتراك القليلة جدّاً هي التي أثّرت، وعوامل الاختلاف التي لم تؤثّر أصلاً، مع أنَّ اختلافهم أكثر من اشتراكهم، ومن الواضح أنَّ هذا بحساب الاحتمالات ضئيل جدّاً إلى حدٍّ ينطفئ احتمال الاختلاف (أيْ: ليس من المحتمل خارجاً أن لا تؤثّر عوامل التباين وتؤثّر عوامل الاشتراك).
 وحينئذٍ إذا حصل اليقين بذلك فإنَّه يترتب القطع بقضيّة كليّة، وهي أنّه كلمّا وجد تواتر من آلاف من الناس بقضيّة معيّنة أو وجد اتفاق في الآراء من قِبَل مائة عالم في مسألة معيّنة، حينئذٍ يحصل لنا اليقين بثبوتها، وهذا بنحو القضيّة الكليّة الحقيقية معلوم عند كلَّ واحد منَّا، وهذا العلم بهذه القضيّة الكليّة نشأ من إجراء حساب الاحتمالات في المرتبة السابقة على حصول الإجماع أو التواتر، وهي مرتبة عوامل الاختلاف وعوامل الاشتراك، فلا نحتاج في كاشفيّة كل إجماع أو كل تواتر إلى إجراء حساب الاحتمالات فيه بالخصوص لنفي هذا الاحتمال، بل هو منفيٌ بنحو القضيّة الشرطيّة الكليّة، والإجماع المنقول إخبار عن الملزوم في تلك القضيّة، فيكون دالاًّ على انتفاء اللازم، وهو كون اتفاقهم جميعاً لتوفّر أسباب الخطأ فيهم أو لاتفاق مصلحتهم على ذلك.
 والحاصل: أنَّنا بعد إجراء حساب الاحتمالات في الناس المختلفين فيما بينهم لإثبات أنَّه لم تتوفَّر فيهم جميعاً أسباب الخطأ في رأيٍ واحد أو دواعي الكذب في خبر معيّن، يثبت (حتّى فيما لم يُفتوا ولم يُخبروا) بأنَّهم مكتنفون بظروف وشروط بحيث لو أفتوا بفتوى واحدة لما أمكن خطأهم جميعاً، ولو أخبروا بخبر موحّد لكان خبرهم مستلزماً للصدق.
 إذن، فلو أخبرَ مُخبر ثقّةً باتفاقهم على رأي أو إخبارهم بخبر واحد، فقد أَخبَرَنا بما يلازم صحّة الحكم وصدق الخبر، وهذا إخبار بالملازمة عن صحّة الحكم أو الخبر.
 إذن، فالنتيجة هي ثبوت الملازمة العادية أو الاتفاقية بين التواتر وصحّة الخبر، وكذلك بين الإجماع وصحّة المجمع عليه (أيْ: بين المعلومين).
 وعليه فنقل الإجماع أو التواتر حجّة؛ وذلك بلحاظ مدلوله الالتزامي.
 إذن، فهذا الطريق الرابع لحلّ الإشكال أيضاً صحيح ويرفع أساس الإشكال؛ فإنَّ الإشكال كان يقوم على أساس افتراض عدم وجود ملازمة بين المعلومين (أَيْ: بين الإجماع وصحّة المجمع عليه، وكذلك بين التواتر وصدق الخبر)، بينما الطريق الرابع من خلال البيان الذي قدّمناه يُثبت الملازمةَ العادية أو الاتفاقية بين المعلومين، فيرتفع الإشكال من أساسه كما هو واضح.
 ومن مجموع ما ذكرناه لحد الآن حول الطريق الرابع من طرق حل الإشكال يظهر وجه النظر والتأمّل فيما ذكره السيد الهاشمي حفظه الله في المقام، حيث قال:
 إن من جملة الأجوبة [التي ذكرها سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & في الدورة السابقة] عَلَىٰ الإشكال هو أن الناس إذا كان يحصل لهم علم عادةً من الإجماع والتواتر فسوف يكون المحصِّل للإجماع والتواتر عالماً بالحكم الشرعي، وَحِينَئِذٍ يكون نقله للحكم الشرعي حجةً، لكونه إخباراً قريباً من الحِسّ عن حكم شرعي، وهو كالإخبار الحسي للحكم الشرعي عن المعصوم.
 وفيه أَوَّلاً: أن هذا معناه حُجِّيَّة نقل الإجماع من باب نقل المسبَّب والحكم الشرعي ابتداءً، لا من بال نقل السبب كما هو المقصود إثباتُه، وَأَمَّا نقل المسبَّب فسوف يأتي أَنَّهُ حدسي في باب الإجماع.
 وَثَانِياً: لو فرض في موردٍ حصول علمٍ لعامّة الناس ذاتاً من دون ملازمة منطقية (كما إذا فرضنا أن عامّة الناس كانوا قطّاعين) لم يكن ذلك حجة؛ فَإِنَّ الحجة إِنَّمَا هو النقل المستند إِلَىٰ علم حسّي أو ما يكون من ملازماته المتوقفة عَلَىٰ ثبوت القضية الْحَقِيقِيَّة (القائلة بِأَنَّهُ كُلَّمَا تحقق الإجماع مَثَلاً كان المجمع عليه مطابقا للواقع).
 فليس المزيان في حُجِّيَّة خبر الثقة في الحسّيات أن يكون حصول العلم نوعياً ولو عَلَىٰ أساس غير منطقي، بل ذاتي وشخصي؛ فَإِنَّهُ من الإخبار الحدسي، كما إذا فرضنا أن عامة الناس أصبحوا قطّاعين؛ فَإِنَّ هذا لا يجعل إخباراتهم عَلَىٰ أساس قطعهم من الإخبار الحسّي المشمول لدليل الْحُجِّيَّة( [1] ).
 أقول:
 إن ما نقله حفظه الله من الجواب على الإشكال لم نعثر عليه في إفادات سَيِّدِنَا الأُسْتَاذِ الشَّهِيدِ & الأصولية في الدورة السابقة، ولعل السيد الهاشمي يقصد به الطريق الرابع وَحِينَئِذٍ يرد عليه:
 أَوَّلاً: أن الطريق الرابع ليس هو هذا الَّذِي نقله، بل هو عبارة عمّا ذكرناه.
 وَثَانِياً: أن الطريق الرابع لا يعني حُجِّيَّة نقل الإجماع من باب نقل الحكم الشرعي ابتداءً كي يرد عليه ما ذكره السيد الهاشمي بعنوان >أَوَّلاً<، بل الطريق الرابع قائم (كما تقدم) عَلَىٰ أساس الملازمة العادية أو الاتفاقية الثابتة بين الإجماع أو التواتر (مع تلك الشروط وضمن تلك الظروف المعينة الَّتِي ذكرناها وَالَّتِي نحرزها ببركة حساب الاحتمالات) وبين صدق الحكم أو الخبر.
 ومن الواضح أننا إذا قبلنا بهذه الملازمة (كما اعترف بها السيد الهاشمي حفظه الله أَيْضاً في ذيل كلامه عندما يقول: >والصحيح في الجواب..< إذن فسوف تتشكّل دلالة التزامية لنقل الإجماع عَلَىٰ نقل الحكم الشرعي، حيث أن نقل الإجماع كان إخباراً عن حسٍّ، والمفروض أن ما نقله كان بحيث لو كنّا نعلم به لعلمنا بصحة الحكم المجمع عليه، فهذا يعني أننا نعتقد أَنَّهُ سنخ إجماع ملازم في الصدق لصدق الحكم، فيكون الإخبار عنه إخباراً عن الحكم بالملازمة.
 إذن، فالطريق الرابع ليس معناه حُجِّيَّة نقل الإجماع من باب نقل الحكم ابتداءً كيف ومفروض الكلام لا زال عبارةً عن نقل الكاشف والسبب (وهو الإجماع) وَأَمَّا نقل المنكشَف والمسبَّب (وهو الحكم) فسوف يأتي الكلام عنه، وَإِنَّمَا معنى الطريق الرابع حُجِّيَّة نقل الإجماع من باب دلالته الالتزامية عَلَىٰ نقل الحكم، وهذه الدَّلاَلَة الالتزامية ثابتة ويعترف بها حَتَّىٰ السيد الهاشمي نفسه، وحجية النقل تكون بلحاظها لا بلحاظ الدَّلاَلَة المطابقية.
 وثالثاً: أن ما أورده حفظه الله بعنوان >ثَانِياً< غير وارد أَيْضاً إذا كان يقصد به الإيراد عَلَىٰ الطريق الرابع؛ لأَن هذا الطريق قائم كما عرفت عَلَىٰ أساس الملازمة العادية أو الاتفاقية بين الإجماع وبين صِحَّة الحكم المجمع عليه، وقد اعترف السيد الهاشمي نفسه بهذه الملازمة حيث قال في ذيل كلامه: إن الاستقراء يُثبت لنا قضية حَقِيقِيَّة مخصوصة بعالمنا الخارجي وهي أن كل إجماع يتحقق في هذا العالم فهو ملازم للصدق، وهذه القضية الشرطية كافية لتشكّل الدَّلاَلَة الالتزامية المطلوبة لنقل الإجماع، ويكون هذا النقل كاشفاً عن المدلول الالتزامي المنطقي بنفس درجة كشفه عن الْمَدْلُول الْمُطَابَقِيّ.
 وعليه، فحصول العلم من الإجماع بالحكم الشرعي ليس من دون ملازمة منطقية وعلى أساس ذاتي وشخصي كي يرد عليه ما أورده السيد الهاشمي حفظه الله من أن شهادة الثقة الناقل للإجماع بالحكم الشرعي ليست حجةً باعتبار أنها شهادة حدسيّة وليست شهادته حسّية بالحكم ولا شهادة حسّيّة بما يستلزم الحكم، بل حصول العلم بالحكم من الإجماع قائم عَلَىٰ أساس ملازمة منطقية كما عرفت، فشهادة الثقة الناقل للإجماع بالحكم الشرعي شهادة حسّية بما يلازم الحكم، فلا يكون من الإخبار الحدسي بالحكم، وبهذا يختلف عن إخبار القطّاع بالحكم عَلَىٰ أساس قطعه الذاتي غير المنطقي كما هو واضح.
 هذا تمام الكلام في الطريق الرابع لحل الإشكال في المقام الَّذِي ذكره سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & وقد عرفت أَنَّهُ كسابقيه (الطريق الثالث والثاني) صحيح وتام، وهو ينتج حُجِّيَّة نقل الإجماع ونقل التواتر فيما إذا كانت الملازمة الَّتِي يقوم عَلَىٰ أساسها هذا الطريق (أَيْ: الملازمة العادية أو الاتفاقية بين التواتر أو الإجماع وبين صِحَّة الخبر أو الحكم المجمع عليه) ثابتة لدى عامة الناس، بل وحتى فيما إذا كانت الملازمة ثابتة عند المنقول إليه خاصة.
 ولكن لا بأس هنا بإلفات النظر إِلَىٰ أنّ نكتة حُجِّيَّة مثبتات الأمارات نسبتُها إِلَىٰ فرض كون الملازمة ثابتة بين المعلومين (كما هو المفروض في الطريق الرابع) وفرض كونها ثابتة بين العلمين (كما هو المفروض في الطريق الثَّانِي والثالث) عَلَىٰ حدّ سواء، فلا خصوصية لفرض الملازمة بين المعلومين؛ فَإِنَّ نكتة حُجِّيَّة مثبتات خبر الثقة:
 إما هي عبارة عما مضى في الطريق الثَّانِي من استعداد الثقة الَّذِي يخبر عن الملزوم للإخبار عن اللازم لو التفت أو إبرازه لهذا الاستعداد من خلال إخباره عن الملزوم.
 وهذا ثابت في الموارد الَّتِي تكون الملازمة فيها ثابتة لدى عامّة الناس، وهذا الاستعداد كما هو موجود في فرض الملازمة بين المعلولين (أَيْ: الملزوم واللازم)، كذلك هو موجود في فرض الملازمة بين العلمين (أي: العلم بالملزوم والعلم باللازم).
 وإما هي عبارة عمّا مضى (في الطريق الثالث) من أن المنقول إليه لا يحتمل انتفاء المدلول الالتزامي إِلاَّ من ناحية انتفاء الْمَدْلُول الْمُطَابَقِيّ أو من ناحية انتفاء المدلول الالتزامي نفسه رغم تحقق الْمَدْلُول الْمُطَابَقِيّ، والثاني منفي لديه وجداناً، والأول منفي لديه بخبر الثقة؛ فقد أصبح خبر الثقة بذلك كاشفاً في نظر المنقول إليه عن المدلول الالتزامي بمستوى كشفه عن الْمَدْلُول الْمُطَابَقِيّ، وهذا البيان يَتُِمّ كُلَّمَا تمّت الملازمة لدى المنقول إليه ولو لم تتمّ لدى عامة الناس.
 وهذا البيان أَيْضاً كما ترى لا يختص بفرض الملازمة بين المعلومين، بل يأتي في فرض الملازمة بين العلمين عَلَىٰ أساس علم المنقول إليه بعدم الانفكاك بين المعلومين رغم عدم استحالة الانفكاك.
 فروح المطلب في حُجِّيَّة مثبتات الإمارة ليست هي الملازمة بين المعلومين بل هي عبارة عن أحد البيانين المذكورين اللذين نسبتهما إِلَىٰ فرض الملازمة بين المعلومين أو العلمين عَلَىٰ حد سواء.
 والبيانان يجب أن يرجعا بروحهما إِلَىٰ بيان واحد؛ إذ لا قيمة لاستعداد المخبِر للإخبار باللازم لو التفت، ولا لكون المنقول إليه لا يحتمل انتفاء المدلول الالتزامي رغم تحقق المدلول المطابقي إِلاَّ كمنبّهٍ على روح واحدة وهي عبارة عن كون نسبة الكشف الثابت لخبر الثقّة إلى المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي على حدٍّ سواء.
 هذا تمام الكلام في الطرق الأربعة لحل الإشكال وبهذا تَمَّ الكلام في المسألة الأولى (أيْ: نقل الكاشف).


[1] - انظر: الهاشمي، أضواء وآراء: ج2، ص261 و262.