الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/07/01

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: الإجماع الْمُرَكَّب/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 وفي هذا الضوء نقول:
 تَارَةً يفترض أننا قد اكتشفنا مدرك الْمُجْمِعِينَ أو احتملناه.
 وأخرى يفترض أننا لم نكتشفه ولم نجد مدركهم ولا ما نحتمل كونه مدركاً لهم.
 ففي الفرض الأَوَّل تَارَةً نفترض أننا اكتشفنا مدركهم قطعاً وذلك من خلال تصريحهم به أو من خلال أيّ طريق آخر، فهذا هو الَّذِي يُسَمَّىٰ بـ>الإجماع المدركي< وَحِينَئِذٍ فإن كان ذاك المدرك تاماً عندنا كفى لنا مدركاً للحكم بلا حاجة إلى الإجماع، وإن كان باطلاً عندنا فهذا يعني أننا قطعنا بخطئهم فِي النكتة وَالدَّلِيل الَّذِي أفتوا بالحكم عَلَىٰ أساسه، فلا معنى لإجراء حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ لنفي خطئهم بعد العلم بخطئهم، وَبِالتَّالِي فلا يجدينا إجماعهم شَيْئاً.
 وَأَمَّا إذا شككنا فِي صِحَّة ذاك المدرك وفساده فقد ينفعنا حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ لإثبات صِحَّة المدرك الَّذِي تمسّكوا به جميعاً، وهذا هو الَّذِي كان يسميه سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & بالتطبيق الضعيف لكاشفية الإجماع الَّتِي تَقَدَّمَ شرحها، حيث كان & يقول: إن هذه الْكَاشِفِيَّة لها طرزان من التطبيق: أحدهما ضعيف، والآخر قوي صحيح، وضعف الأَوَّل وقوة الثَّانِي كلاهما مرتبط بمؤثرات حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ، فأما التطبيق الضعيف فهو أن يُرَاد بالإجماع كشف صلاحية المدرك الَّذِي أفتى المجمعون عَلَىٰ أساسه بعد الفراغ عن أصل وجوده والشك فِي صحته وصلاحته للمدركية واستفادة تلك الفتوى منه، فيطبّق مبدأ كاشفية الإجماع عَلَىٰ ذاك المدرك المتمثّل فِي آية أو رواية أو دليل عَقْلِيّ.
 وَأَمَّا التطبيق الْقَوِيّ الصَّحِيح فسيأتي قَرِيباً ذكره - إِنْ شَاءَ اللَهُ تَعَالَى.
 وحاصل صورة هذا التطبيق الضعيف أن يقال: إن مدرك الْمُجْمِعِينَ إذا كان عبارة عن رواية مَعَيَّنَة مثلاً وشككنا فِي صِحَّة الاستناد إليها فِي تلك الفتوى المجمع عليها، فَحِينَئِذٍ نطبق حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ عَلَىٰ استناد الْمُجْمِعِينَ إليها ونقول: إن هذه الرواية قد استنتج منها الفقهاء عَلَىٰ كثرتهم هذه الفتوى المعينة، وقد يُخطأ فقيه واحد فِي الاستنتاج وفهم هذا الحكم من هذه الرواية نظراً إلى عدم تَمَامِيَّة دلالتها عَلَىٰ الحكم مثلاً، إِلاَّ أَن افتراض خطأ جمع كبير من الفقهاء فِي ذلك منفي بحسب حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ، فيحصل لنا الْيَقِين أو الاِطْمِئْنَان بصلاحية تلك الرواية للمدركية؛ إذ لا يمكن افتراض أن كُلّ أولئك الَّذِي استندوا إليها وجعلوها مدركاً لفتواهم قد أَخْطَئُوا فِي استنادهم إليها فِي فهمهم الحكم منها، وهذا الْيَقِين أو الاِطْمِئْنَان حجة لمَن حصل له عَلَىٰ الأقل وإن لم يكن حجة لغيره فيما إذا فرضنا حصول هذا الْيَقِين أو الاِطْمِئْنَان من مجرد جمع آراء الآخرين وملاحظة إجماعهم؛ فَإِنَّ رجوع الجاهل إليه حِينَئِذٍ سوف لا يكون من رجوع الجاهل إلى العالم، بل من رجوع الجاهل إلى الجاهل، فلا يجوز تقليده.
 نعم، إذا فرضنا حصول هذا الْيَقِين أو الاِطْمِئْنَان له من الرجوع إلى مدارك المسألة وَالنَّظَر فيها لا من مجرد إجماع الآخرين، كان حُجِّيَّة لغيره أَيْضاً وجاز تقليده؛ لأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون من رجوع الجاهل إلى العالم.
 هذا هو التطبيق الضعيف لكاشفية الإجماع، ووجه ضعفه هو أَنَّهُ غالباً يبتلي ببعض نقاط الضعف السابقة الَّتِي ذكرناها للإجماع، كنقطة الضعف الأولى ونقطة الضعف الثَّالثة، ونقطة الضعف الخامسة من تلك النقاط، فيمكن افتراض خطأ الكل فِي استنادهم إلى هذه الرواية؛ لأَنَّ الْقَضِيَّة حدسية لا حسية، أو لأن اللاحق قد اعتمد عَلَىٰ السابق وتأثر به، أو لأن هناك نكتة واحدة مشتركة لِكُلّ الأخطاء مثلاً.
 هذا هو وجه ضعف هذا التطبيق، خُصُوصاً مع الالتفات إلى أن الإنسان يعلم أن كثيراً من الْقَضايا النظرية الحدسية كانت قد اتفقت عليها كلمة جمهور العلماء فِي كُلّ فن، ثُمَّ انكشف بعد ذلك بطلانها وخطؤهم جَمِيعاً؛ إذ عَلَىٰ امتداد خط المعرفة البشرية تراكمت الخبرات والتجارب فانكشف خطأ تلك الحدوس ومع هذا كيف يحصل الجزم للإنسان؟
 نعم، لو افترضنا أن حدوس الفقهاء وأنظارهم المتجمّعة فِي المسألة كانت قريبة من الْحِسّ وتشبهه بحيث تخلو عن نقاط الضعف المذكورة لكان لهذا التطبيق وجه وأمكن التَّمَسُّك حِينَئِذٍ بإجماعهم للكشف عن صِحَّة المدرك الَّذِي استندوا إليه فِي فتاواهم، كما إذا فرضنا أن الفقهاء كلهم قد استندوا إلى ظهورٍ فِي رواية مَعَيَّنَة صحيحة السند عندنا، فاستظهروا جَمِيعاً من اللَّفْظ معنى واحداً مِنْ دُونِ إعمال قواعد التعارض والكبريات الظهورية المعقدة، ففي مثل ذلك يحصل الوثوق عادةً بذاك الظُّهُور لولا وجود نكتة خاصة تمنع عن حصول الوثوق؛ لأَنَّ مدركهم حِينَئِذٍ هو الاستظهار، والاستظهار مسألة تشبه الْحِسّ وقريبة منه كما هو واضح.
 وَحِينَئِذٍ ففي مثل ذلك يكون لمثل هذا الإجماع نحو من الاعتبار، لا باعتبار تقليد أولئك الفقهاء الَّذِينَ استظهروا وحسن الظن بهم، بل باعتبار أنهم هم أنفسهم يمثّلون العرف، بل هم العرف الأدقّ والأبصر، فإذا كانوا يمثّلون عُرْفاً بصيراً بحسب الحقيقة، فهم بأجمع8هم معنى معيناً كانوا قد استظهروه من اللَّفْظ فلا محالة يحصل الجزم والاقتناع أو الوثوق بأن هذا هو الظُّهُور العرفيّ للكلام وأن هذا الفهم العرفيّ هو الصَّحِيح، فيما إذا لم تكن هناك نكتة خاصة يمكن أن تفسّر خطئهم جَمِيعاً فِي ذاك الفهم والاستظهار فتكون نكتة مشتركة لِكُلّ الأخطاء وتمنع حِينَئِذٍ عن حصول الوثوق بذاك الفهم وتقتضي رفع اليد عن ذاك الاستظهار.
 هذا كله إذا افترضنا أننا اكتشفنا مدرك الْمُجْمِعِينَ قَطْعاً.
 وكذلك الحال فيما إذا احتملنا مدركية المدرك الفلاني عند الْمُجْمِعِينَ، أي: احتملنا أن فتاواهم قائمة عَلَىٰ أساسه، وهو الَّذِي يُسَمَّىٰ بـ>الإجماع المحتمل المدركية<. فإن كان ذلك المدرك تَامّاً عندنا كفى لنا مدركاً للحكم بلا حاجة إلى الإجماع، وإن كان بَاطِلاً عندنا فمعناه أننا نحتمل خطأَهم بالفعل؛ إذ نحتمل أن مدركهم هو هذا المدرك الخاطئ عندنا، ومع احتمال خطئِهم بالفعل لا معنى لكاشفية الإجماع عَلَىٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ.
 نعم، قد ينفعنا حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ لنفي كون هذا هو مدركهم؛ إذ نستبعد أن يكونوا بأجمعهم قد اعتمدوا عَلَىٰ هذا المدرك الباطل واستندوا إليه ولم يلتفتوا جميعاً إلى فساده؛ إذ معناه اقتران غفلات كثيرة صدفةً، وهو بعيد. وَحِينَئِذٍ فيخرج الإجماع عن كونه محتمل المدركية ويدخل فِي الفرض الثَّانِي الَّذِي سنتكلم عنه قَرِيباً - إِنْ شَاءَ اللَهُ تَعَالَى -.
 هذا كله فِي الفرض الأَوَّل، وهو فرض كون الإجماع مدركياً أو محتمل المدركيّة.