الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/06/28

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: حُجِّيَّة الإجماع تَعَبُّداً بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 ولا يُنتَقَص ما ذكرناه بمثل فتح الجيش للبلد حيث أن كُلّ فرد منهم وحده غير قادر عَلَىٰ الفتح ولكنهم جَمِيعاً يفتحون البلد؛ وَذَلِكَ لأَنَّ الملازمة فِي هذا المثال بين >الجيش< و>الفتح< قائمة عَلَىٰ أساس عِلِّيَّة عمل هؤلاء لفتح البلد، ومن المعقول أَنْ يَكُونَ كُلّ فرد منهم جزء الْعِلَّة، والجميع تمام الْعِلَّة، فلا يَتَرَتَّبُ الفتح عَلَىٰ الفرد؛ لأَنَّهُ جزء الْعِلَّة لا تمامها، ولكن يَتَرَتَّبُ عَلَىٰ الجميع؛ لأَنَّ الجميع تمام الْعِلَّة.
 أَمَّا فيما نحن فيه (أي: التَّوَاتُر)، فليست أخبار المخبِرين عِلَّةً لموت زيد حتَّى نفرّق فِي ذلك بين الجميع والفرد بجزء الْعِلَّة وتمامها.
 نعم أخبار المخبِرين عِلَّة للعلم بموت زيد، ولكن هذه الْعِلِّيَّة ليست قائمة عَلَىٰ أساس الملازمة وَالْعِلِّيَّة بين >الأَخْبَار< و>الموت< (كَمَا عَرَفْتَ)، بل هي قائمة عَلَىٰ أساس تراكم الاِحْتِمَالاَت.
 إذن، فالكشف القطعي للتواتر (الَّذِي هو أجلى أمثلة الملازمة الَّتِي ادّعوها) لَيْسَ قَائِماً عَلَىٰ أساس الملازمة بأحد أقسامها الثَّلاَثة، وَإِنَّمَا هو عَلَىٰ أساس الاِحْتِمَالاَت، حيث أن احتمال وجود داعي الكذب لدى كُلّ واحد من الْمُخْبِرِينَ له قيمة خَاصّة، وبضرب مجموع الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة بعضها فِي بعض تظهر قيمة كذب الجميع، وهي ضئيلة جِدّاً لا محالة، وحينما يتضاءل الاِحْتِمَال فِي النفس بدرجة معينة يذوب هذا الاحتمال الضَّئِيل فِي النفس وينطفئ ضمن قواعد وشروط معينة تفصيلها موكول إلى مَحَلّه.
 وقد برهن سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & وذكر قوانينه وضوابطه فِي كتابه الْقَيِّمِ >الأُسَس المنطقية للاستقراء<، وهو أمر وجداني أَيْضاً بقطع النَّظَر عن البرهان.
 وعين ما ذكرناه فِي التَّوَاتُر يأتي بِالنِّسْبَةِ إلى باقي أمثلة الملازمة كاتفاق المرؤوسين عَلَىٰ رأي والاستفاضة والإجماع (وَبِهَذَا اتَّضَحَ أَنَّهُ يجب تغيير منهج البحث فِي باب الإجماع)؛ فَإِنَّهُ إذا كان خطأ كُلّ واحد من الْمُجْمِعِينَ محتملا، فالقطع بعدم إمكان اجتماعهم عَلَىٰ الخطأ لا معنى له، إلا إذا فرض التمانع والتنافي بين خطأ البعض وخطأ بعض آخر، ونحن لا ندرك بعقولنا تمانعاً من هذا القبيل، فإن كان الإجماع موروثاً للقطع فهذا القطع قائم عَلَىٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ، فالصحيح هو ربط كشف الإجماع بنفس تراكم الاحتمالات وفقاً لحساب الاحتمال كما هو الحال فِي التَّوَاتُر، فروح الْكَاشِفِيَّة والحجية وملاكها فِي كُلّ من >التَّوَاتُر< و>الإجماع< عبارة عن أمر واحد، فكما أن كاشفية التَّوَاتُر قائمة عَلَىٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ، فكذلك حُجِّيَّة الإجماع؛ فَإِنَّ احتمال الخطأ فِي فتوى كُلّ فقيه وإن كان وارداً إلا أَنَّهُ بملاحظة مجموع الفقهاء الْمُجْمِعِينَ عَلَىٰ فتوى واحدة وإجراء حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ فيها عن طريق ضرب الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة لخطئهم بعضها فِي بعض يَتَضَاءَل احتمال اِحْتِمَال خطأ الجميع، وبقدر ما يصغر احتمال خطئهم يكبر احتمال الصواب ويقترب معقد الإجماع نحو الواقع بدرجة كبيرة تتحول بِالتَّالِي إلى اليقين أو الاطمئنان عَلَىٰ أقل تقدير بعدم خطأ الجميع، وهو حجة عَلَىٰ كُلّ حال.
 إذن، فالروح الْعَامَّة للكاشفية فِي كُلّ من >التَّوَاتُر< و>الإجماع< واحدة.
 إلا أَنَّهُ مع ذلك توجد فوارق بين مفردات >التَّوَاتُر< بوصفها أخباراً حسّية، وبين مفردات >الإجماع< بوصفها أخباراً حدسية، فهناك نقاط ضعف عديدة فِي الإجماع توجب بُطء حصول اليقين منه، بل عدم حصوله فِي كثير من الأحيان غير موجودة فِي التَّوَاتُر؛ فَإِنَّ تضاءل احتمال الخطأ والاشتباه فِي باب الإجماع وضعف هذا الاحتمال بالتدريج نتيجةَ تكثّر الأفراد أبطأ بكثير من تضاءل احتمال الخطأ والاشتباه فِي باب التَّوَاتُر والإخبار عن حس، وقد يتّفق أن يصل الضعف إلى مرتبةٍ ولا يشتدّ الضعف بعد ذلك بضم الأفراد الآخرين، بخلاف باب الإخبار.
 وهذه الأمور >الَّتِي هي نقاط ضعف الإجماع وَالَّتِي توجب بُطء تضاؤل احتمال الخطأ وضعفه بنحو أكثر من باب التَّوَاتُر< عديدة نذكر أهمّها وعمدتها:
 الأَوَّل: أنّ أصل اِحْتِمَال الخطأ والاشتباه (الَّذِي يضعف بالتدريج نتيجة ضرب الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة بعضها فِي بعض) فِي مفردات الإجماع أقوى بكثير منه فِي مفردات التَّوَاتُر؛ لأَنَّ مفردات الإجماع اجتهادات وحدوس وأنظار، بخلاف مفردات التَّوَاتُر الَّتِي هي إخبارات وشهادات حسية أو قريبة من الْحِسّ.
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ أسباب الخطأ والاشتباه فِي باب الحدس والاجتهاد كثيرة، بخلاف باب الْحِسّ الَّذِي أسباب الخطأ والاشتباه فيه نادرة؛ فاحتمال الخطأ فِي الحدس أكبر منه فِي الْحِسّ ما دامت نسبة الخطأ فِي الحدسيات أكثر بكثير من نسبته فِي الحسيات، فَيَكُونُ مبدأ حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ الَّذِي يُرَاد به التوصل إلى الْيَقِين أو الاِطْمِئْنَان فِي باب الإجماع عبارة عن قيمة احتمالية أضعف من الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة الَّتِي هي مبدأ الحساب فِي باب التَّوَاتُر. أَيْ: أَن احتمال الخطأ فِي هذه الشهادة الحسية (الَّتِي هي مفردة من مفردات التَّوَاتُر) أضعف منذ البداية من اِحْتِمَال الخطأ فِي هذه الشهادة الحدسية الَّتِي هي مفردة من مفردات الإجماع.
 وَحِينَئِذٍ فحساب الاحتمال سوف يبدأ من أول الأمر بكسر كبير يُرَاد تضعيفه بالتدريج فِي باب الإجماع، فإذا كانت قيمة احتمال الخطأ والاشتباه فِي الشهادة الحسية عبارة عن النِّصْف مثلاً؛ فَإِنَّ قيمة اِحْتِمَال الخطأ والاشتباه فِي الشهادة الحدسية عبارة عن ثمانية أعشار.
 ومن هنا كانت كاشفية الإجماع تتأثّر بنكتة اقتراب الفتوى من الْحِسّ، فَكُلَّمَا كانت فتاوى الْمُجْمِعِينَ أقرب إلى الْحِسّ وكان حجم النَّظَر والاجتهاد فيها أقل كان احتمال الخطأ فيها أضعف وكانت كاشفيتها عن الواقع أقوى وآكد، وبهذا قد تتميّز مسألة عن أخرى باعتبار أن حجم النَّظَر الاجتهادي فيها أقل أو أكثر من الآخرين، وَبِالتَّالِي يتميّز الإجماع فِي المسائل الفقهية ذات المبادئ النظرية الاجتهادية عادةً عَلَىٰ الإجماع فِي المسائل الفقهية ذات المبادئ غير النظرية المعقَّدة.
 وكذلك يختلف الإجماع من عصر إلى عصر، فكما اقتربنا إلى حصر حضور الأئمة ^ كان حجم الجانب الْحِسِّيّ فِي الفتاوى أكبر وحجم تأثرها بالجانب النَّظَرِيّ أقل.
 ومن هنا كانت قيمة فتاوى القدماء أكبر من قيمة فتاوى المتأخرين باعتبار أن طول الفاصل الزمني بين أصحاب الفتاوى وبين الْمَعْصُوم الحاضر × هو الَّذِي يخلّف مشاكل كثيرة فِي المسألة وأدلّتها من حيث السند والدلالة، فَكُلَّمَا ابتعدنا عن عصر الْمَعْصُوم الحاضر × كان حجم الحدس وَالنَّظَر الاجتهادي فِي المسألة أكبر.
 كما أَنَّهُ عَلَىٰ هذا الأساس أَيْضاً كلما كان مبلغ تبصّر الفقهاء الْمُجْمِعِينَ وألمعيّتهم وخبرتهم للوصول إلى الواقع أكثر كانت الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة لفتاواهم أكبر، فالفقهاء الأنضج اجتهاداً والأكثر حدساً وإحاطة تكون فتاواهم أقرب كاشفيةً وأشدّ فِي مقام تزويد الإجماع بالكاشفية، ومن أجل ذلك يختلف سنخ العلماء الْمُجْمِعِينَ باختلاف خصوصياتهم العلمية وقدراتهم الاجتهادية الحدسية.
 هذا هو الفارق الأَوَّل بين باب >الإجماع< وباب >الخبر المتواتر<.