الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/06/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: الإجماع/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 وَأَمَّا إن كان المقصود المصالح الثَّانَوِيَّة البَعدية الَّتِي هي فِي طول الأحكام الشَّرْعِيَّة، فلا إشكال فِي أَنَّهُ جرت عَادَةً الله تعالى وسنّته عَلَىٰ حفظها للعباد، بلا لا إشكال فِي أن هذه المصالح تتميّز عن القسم السابق بأن طريق حفظها ينحصر بالله تعالى بما هو مشرّع؛ لأَنَّ ما لدى الإنسان من خبرات إِنَّمَا يزيد فِي معرفته بالكون الَّذِي يعيش فيه، وَأَمَّا العلاقة بالله تعالى بمعنى الطاعة والتديّن فهذا مطلب لا يتوصل إليه البشر الاعتيادي إلا عن طريق الوحي والدين وتشريع الأحكام، فالمصالح البعدية تتميز عن المصالح القَبلية من هذه الناحية، فتطبيق كبرى قاعدة اللُّطْف عَلَىٰ مثل هذه المصالح لا يخلوا من وجه، ولذا كان تطبيق قاعدة اللُّطْف عَلَىٰ أصل النبوة الْعَامَّة والدين وإثباتها وجيهاً، حيث أن هذه المصالح إِنَّمَا تكون عن طريق التشريع وإرسال الأنبياء، إِلاَّ أَن ذلك لا يُثْبِتُ الْمُدَّعَىٰ فِي المقام؛ لأَنَّ هذه المصالح الَّتِي فِي طول التشريع الرباني وهي ملاكات الطاعة والعبودية لله تعالى لا تضيع ولا تفوت عَلَىٰ العباد بسبب خفاء الأحكام الواقعيّة عليهم؛ لأَنَّ الأحكام الظَّاهِرِيَّة حِينَئِذٍ موجودة وثابتة دَائِماً عند خفاء الأحكام الواقعيّة.
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ حالها حال الأحكام الواقعيّة من ناحية مصلحة الامتثال والعبودية والانقياد لله تعالى، فلا فرق فِي حفظ هذه المصالح بين الحكم الْوَاقِعِيِّ وَالظَّاهِرِيّ، فحتى إذا كان ما أجمع عليه الفقهاء خلافَ الحكم الْوَاقِعِيِّ كما إذا أخطأ الفقهاء جَمِيعاً وتمسّكوا بالأصل كالاستصحاب مثلاً وكان الحكم الْوَاقِعِيِّ عَلَىٰ خلافه؛ فَإِنَّهُ مع ذلك لا يكون خَارِجاً عن الشَّرْع والدين، بل هو عَلَىٰ طبقه وبقاعدةٍ من قواعده وأصلٍ من أصوله ووظائفه المقررة ظاهرياً كما هو واضح.
 فليس إخفاء الحكم الْوَاقِعِيِّ عَلَىٰ العباد تفويتاً لهذه المصلحة عليهم كي يقال: إن ذلك قبيح بحكم >قاعدة اللُّطْفِ<، بل إن هذه المصلحة محفوظة وطريق الحصول عَلَىٰ هذه المصلحة مفتوح لهم من خلال الحكم الظَّاهِرِيّ، وعليه فلا تكون >قاعدة اللُّطْفِ< دليلاً عَلَىٰ حُجِّيَّة الإجماع وكشفه كشفاً قطعياً عَقْلِيّاً عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.
 ثانياً: أن المقصود من إيصال الحكم إلى النَّاس الواجب عَلَىٰ الله تعالى من باب اللُّطْف هل هو عبارة عن جعل نكتة فِي معرض الوصول إلى الجميع بحيث يتمكّن كُلّ واحد منهم ولو بجُهدٍ جهيد من الوصول إلى الحق أم تُدَّعَىٰ كفاية إيصال الحق إلى بعض النَّاس وإن لم يكن بالشكل الَّذِي تمكن كُلّ واحد منهم من الوصول إليه ولو بالجُهد الكثير؟
 فإن قصد الثَّانِي ورد عليه أن نكتة وجوب اللُّطْف إِنَّمَا هي الْعُبُودِيَّة والحاجة، وهما ثابتتان فِي جميع الأفراد عَلَىٰ حَدّ سَوَاء، فلا معنى لوجوب اللُّطْف بِالنِّسْبَةِ إلى فرد دون فرد ولا بِالنِّسْبَةِ إلى فرد واحد عَلَىٰ البدل؛ فَإِنَّ عنوان اجتماع النَّاس عَلَىٰ الخطأ لَيْسَ فيه محذور آخر غير محذور خطأ نفس الأفراد.
 وإن قصد الأَوَّل فهذا لطف ثابت بشأن الجميع عَلَىٰ حَدّ سَوَاء، ولكن يلزم من ذلك أن يحصل للفقيه القطع كثيراً بأن ما أثبته بمثل الأصل الْعَمَلِيّ أو الأمارة التَّعَبُّدِيَّة مطابق للحكم الْوَاقِعِيِّ، فمتى ما يتّقن الفقيه بأنه لو كان هناك دليل حاكم مثلاً عَلَىٰ ما توصل إليه من الأصل أو الأمارة فهو عاجز عجزاً تاماً عن الوصول إليه، أو يَتَيَقَّنُ بأنه لا يوجد دليل حاكم عليه كي يمكن لأحد الوصول إليه وأن مَن أفتى بخلاف ذاك الأصل أو تلك الأمارة فقد أخطأ فيما تخيّله من عدم كون المورد مورداً لذاك الأصل أو لتلك الأمارة، لزم من ذلك أن يحصل له القطع بأن مفاد هذا الأصل أو هذه الأمارة مطابق للحكم الْوَاقِعِيِّ، وهذا مِمَّا لا يلتزم به أحد.
 وأيضا لو عرف المجتهد أن فِي المسألة الفلانية يوجد للعلماء قولان، ونظر فِي أحدهما فحصل له القطع بأنه ليست هناك نكتة صحيحة تعيّنه، لزم من ذلك أن يحصل له القطع بصحة القول الآخر وموافقته للواقع بلا حاجة إلى مراجعة مدركه والتأمل فيه؛ إذ المفروض أَنَّهُ لاَ بُدَّ من أن يوجد فِي الأقوال قول صحيح ذو نكتةٍ ترشد كُلّ من طلبها وبذل جهده الكامل فِي سبيلها إلى الحقيقة والواقع، وذلك من باب اللُّطْف الواجب عَلَىٰ الله تعالى، وهذا كما نرى مِمَّا لا يلتزم به أحد.
 إذن، فهذا اللُّطْف المذكور فِي إبراز الحقيقة والَّذِي يُدَّعَىٰ وجوبه ولزومه عَلَىٰ الله تعالى إن ادّعي أَنَّهُ لطف لازم من قبله تعالى ولو بِالنِّسْبَةِ إلى بعض المسلمين (أي: ادّعي أَنَّهُ لاَ بُدَّ من أن يتحقق بنحو يكون لطفاً ولو بِالنِّسْبَةِ إلى بعضهم، بحيث يكفي لإنجاز هذه المهمة الَّتِي يحكم بها العقل الْعَمَلِيّ مِنْ قِبَلِ الله تعالى أن يتلطّف عَلَىٰ خمسة من الفقهاء مثلاً فيرشدهم إلى الحقيقة والواقع وإن بقي الآخرون لا يعلمون الواقع)، فهذا أمر غريب فِي نفسه كبروياً؛ لأَنَّ ميزان ترقّب اللُّطْف من الله تعالى (الَّذِي عبر به عن الوجوب تأدّباً) إِنَّمَا هو العبودية والحاجة إلى اللُّطْف (أي: كون الإنسان عبداً له تعالى ولا يملك سبيلاً إلى معرفة الحق والواقع الَّذِي هو بحاجة إليه إلا مولاه).
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا الميزان فِي الجميع عَلَىٰ حَدّ واحد، فكيف يختص بالبعض؟ وكيف يكفي اللُّطْف إلى البعض فِي سدّ الحاجة الموجودة عند الآخرين؟ وأيّ فرقٍ بين البعض والآخرين من ناحية مُقْتَضَىٰ العبودية والحاجة وهو التلطّف من الله تعلى بإبراز الحق والواقع؟
 وإن ادعي أَنَّهُ لطف لازم من قبله تعالى بِالنِّسْبَةِ إلى كُلّ المسلمين وأنه لاَ بُدَّ من أن يتحقق بنحوٍ يكون لطفاً بِالنِّسْبَةِ إلى جميع الفقهاء؛ وذلك بأن يُفترض أن الله تعلى قد جَعَل طريق الوصول إلى الحقيقة مفتوحاً للجميع بحيث أن بالإمكان أن لِكُلّ فقيهٍ أن يصل إليها كما وصل إليها البعض، غاية الأمر أن ذلك بحاجة إلى مزيد جهد وبذل وسع أكثر من المقدار الَّذِي هو لازم للاكتفاء بإجراء الأُصُول والقواعد الْعَامَّة فِي الاستنباط.
 وبعبارة أخرى: جَعَل مدارك الحقيقة موفورة لمن أراد أن يتعب نفسه فِي مقام الفحص ويتحمّل أزيد من الْعَمَل الواجب المسوِّغ لإجراء الأُصُول؛ فَإِنَّهُ يصل حتماً إلى هذه الحقيقة، وإن كان لا يجب عليه إتعاب نفسه بهذا النَّحْو، لكن باب الحقيقة مفتوح بهذا النَّحْو؛ فَإِنَّ هذا هو اللُّطْف المبذول من قبله تعالى للجميع بحكم قاعدة اللُّطْف الْعَقْلِيَّة.
 فدعوى الجزم ببطلان هذا الادّعاء لَيْسَ مجازفة؛ لأَنَّنَا فِي كثير من الموارد نقطع بأنه مهما اجتهد الفقيه وبذل الجهد أكثر فأكثر فَسَوْفَ لا يتغيّر الموقف ولا يصل إلى ما يغيّر مُقْتَضَىٰ القاعدة أو الأصل، وَحِينَئِذٍ فهل يعني ذلك أن يحصل له القطع بأن ما أثبته حسب القواعد والأصول فِي مقام الاستنباط مطابق للحكم الْوَاقِعِيِّ؟
 من الواضح أن ذلك مقطوع البطلان والعدم؛ لوضوح أن الفقيه حتَّى لو قطع بأنه مهما يبالغ فِي الجهد وبذل الوسع فَسَوْفَ لا تتغيّر النَّتِيجَة الَّتِي توصّل إليها؛ فَإِنَّهُ مع ذلك لا يقطع بأن النَّتِيجَة الَّتِي توصّل إليها مطابقة للحكم الْوَاقِعِيِّ، فالفقهاء جميعاً ينفون الالتزام بحصول هذا القطع كما هو واضح.
 ثالثاً: لو تنزّلنا عَمَّا قلناه وسلّمنا بكفاية اللُّطْف من الله تعالى بِالنِّسْبَةِ إلى البعض فِي أشباع هذه الحاجة وإنجاز هذه المهمة الْعَقْلِيَّة الَّتِي يحكم بها العقل الْعَمَلِيّ، فإن اللُّطْف المذكور إِنَّمَا يجب عَلَىٰ الله تعالى بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ من أن ينصب مَن يكون فِي نفسه طَرِيقاً إلى الحقائق، لا بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ من أن يرفع مطلق الموانع الَّتِي تمنع النَّاس عن الوصول إلى الحقائق حتَّى وإن كانت بفعل بعض العباد وعصيانهم أنفسهم.
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ النصب بالمعنى المذكور قد سلكه الله تعالى بنفس نصب الإمام #. وَأَمَّا غيابه فإنما هو من جهة منع بعض العباد وعصيانهم، فلا قصور من ناحية المولى.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّنَا حتَّى لو قلنا بأن المراد من اللُّطْف هو اللُّطْف ولو بلحاظ بعض الأفراد، أي: إيصال الحكم الْوَاقِعِيِّ ولو إلى البعض، ولكن نقول: إن هذا اللُّطْف عَلَىٰ تقدير وجوبه فهو إِنَّمَا يجب بمعنى أن عَلَىٰ المولى أن ينصب حجةً لإيصال ذلك ولو إلى بعضهم وأنه لاَ بُدَّ من أَنْ يَكُونَ له طريق مفتوح ولو إلى بعضهم، لكن لو تصدّىٰ بعض العباد لخلق هذا الطريق فإن العقل لا يحكم حِينَئِذٍ بأن عَلَىٰ المولى التَّصَدِّيّ لفتحه، بل يحكم العقل بوجوب سلوك المولى الطرق المتعارفة، وهذا ما قد فعله.
 إذن، فقد اتضح لحد الآن أن التقرب المذكور للاستدلال بقاعدة اللُّطْف عَلَىٰ حُجِّيَّة الإجماع غير تَامّ.
 وهناك وجهان آخران للاستدلال باللطف فِي باب الإجماع:
 أحدهما: أن يقال إِنَّهُ كما يجب عَلَىٰ الله تعالى إرسال الرسل وتشريع الأحكام من باب اللُّطْف، كذلك يجب عليه تعالى من باب اللُّطْف أن لا يُبقي فِي الدين ثغرةً تستوجب الشبهة للناس فِي الدين. أي: يجب أن يجعل فِي قبال كُلّ شبهة الجواب الكافي بحدّ ذاته ولو لم يقتنع به صاحب الشبهة لنقصٍ وقصور فيه لا فِي الجواب.
 وفي هذا الضوء يقال: لو اختلف العلماء فِي مسألة عَلَىٰ رأيين مثلاً، فكان أحدهما يقول بالفرق بين السيد القرشي والأسود الحبشي فِي مقامٍ اجتماعي مثلاً، والرأي الآخر ينكر الْفَرْق بينهما، وكان الرأي الثَّانِي هو الصَّحِيح، واكتشف مَن يطعن عَلَىٰ الدين العيب الموجود فِي الرأي الأَوَّل فأراد أن يجعل ذلك شبهةً عَلَىٰ الدين أمكن الجواب عليه بأن شبهتك هذه إشكال عَلَىٰ رأي بعض العلماء، وليس إِشْكَالاً عَلَىٰ الدين؛ إذ لعل الرأي الديني الحقيقي متجسّداً فِي رأي الآخرين وليس متجسّداً فِي رأي مَن أفتى بهذه الفتوى.
 أَمَّا إذا افترضنا أن علماء الدين كلهم أجمعوا عَلَىٰ الرأي الباطل واكتشف الطاعِن عَلَىٰ الدين الثغرةَ الموجودة فِي هذا الرأي فَسَوْفَ يستحكم عنده أن هذه الثغرة ثغرة فِي الدين، وأن هذا إشكال عَلَىٰ الدين وليس إِشْكَالاً عَلَىٰ فتاوى بعض علماء الدّين، فيجب عَلَىٰ الله تعالى أن يحول بشكل من الأشكال دون تَحَقُّق الإجماع عَلَىٰ الباطل، كي يَتُِمّ الجواب عَلَىٰ شبهة مَن يكتشف الثغرة الموجودة فِي الرأي الباطل ببيان أن هذا إشكال عَلَىٰ بعض الفتاوى ولعل رأي الدين متجسّد فِي الفتوى الأخرى. إذن، فلو رأينا إجماعاً عَلَىٰ حكمٍ عرفنا أَنَّهُ الحق.
 ويرد عليه أولاً: أن هذا لو تَمَّ فلا يَتُِمّ فِي الأحكام التَّعَبُّدِيَّة الصرفة الَّتِي لا تحصل (بفرض أي طرف من طرفي الإيجاب والسلب) ثغرة فِي الإسلام، مثلاً لو فرضنا نجاسة عرق الجنب من الحرام أو فرضنا عدم نجاسته فَسَوْفَ لن يؤدي ذلك إلى شبهة وثغرة فِي الإسلام.
 وَثَانِياً: أننا لو افترضنا فِي المرتبة السابقة عَلَىٰ اللُّطْف حصول العلم والاطمئنان (بواسطة العقل النَّظَرِيّ) بصحة ما أُجمع عليه إذن لم نحتج إلى قاعدة اللُّطْف لثبوت المطلوب قبلها بحكم العقل النَّظَرِيّ حسب الفرض، ولو افترضنا أَنَّهُ لم يثبت ذلك فِي الرتبة السابقة عَلَىٰ اللُّطْف إذن أمكن الجواب عَلَىٰ شبهة الطاعن عَلَىٰ الدين بأن هذا إشكال عَلَىٰ فتاوى العلماء ولم يُعلم كون رأي الدين متمثلاً فِي هذه الفتاوى؛ فلعل رأي الدين يخالف رأي هؤلاء العلماء جَمِيعاً.
 ثانيهما: أن يقال إِنَّنَا عرفنا (من خلال التَّجْرُبَة) أن الله تعالى قد جرت عادته وسنّته عَلَىٰ اللُّطْف بعباده بعدم حجب المصالح التشريعية الكامنة فِي الأحكام عنهم، ولذا نرى أَنَّهُ قد أَرسل الأنبياء والرسل، وأنزَل الكتب وشرَّع الشرائع، وجَعَل أوصياء لأنبيائه ورسله، وأمر العلماء بتبليغ الأحكام وتعليمها وأمر الجهلاء بتعلمها، وما إلى ذلك من الأمور.
 ومن نعلم أن الحكم المجمَع عليه لو كان بَاطِلاً لَتَلَطَّف عَلَىٰ عباده بإظهار خلافه؛ لأَنَّ هذه هي عادته وسنته الَّتِي عرفناها وعهدناها منه.
 ويرد عليه أن التَّجْرُبَة (فِي حدود ما رأيناه وعرفناه من سدّ المولى أبواب عدم وصول المصالح التشريعية إلى العباد الناتجة من ناحية عدم إرسال الرسل، وعدم إنزال الكتب، وعدم نصب الأولياء، وعدم إيجاب التبليغ عَلَىٰ العلماء، وعدم إيجاب التعلم عَلَىٰ الجهلاء) لا تَدُلُّ عَلَىٰ بنائه تعالى عَلَىٰ سد باب عدم وصول تلك المصالح إليهم الناتج من قصور النَّاس أو تقصيرهم فِي تلقّي الأحكام وإيصالها إلى الآخرين.
 هذا مُضَافاً إلى ما يظهر مِمَّا سبق من أن سد أكثر أبواب العدم الَّتِي سَدَّها المولى تعالى كان مُؤَثِّراً فِي وصول المصلحة البَعدية إليهم الَّتِي هي فِي طول الحكم الشَّرْعِيّ وهي مصلحة التعبد والطاعة والانصياع للمولى.
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ اِحْتِمَال الْفَرْق بين هذه المصلحة وبين المصالح التشريعية القَبلية الثَّابِتَة فِي الأفعال قبل جعل الأحكام موجودٌ؛ فلعل السنة الإلهية مُخْتَصّة بسدّ باب عدم وصول هذه المصلحة البَعدية إليهم، لانحصار حفظها ووصولها إلى العباد بذلك، بخلاف المصالح الأولية القَبلية؛ فَإِنَّهَا قد تكون كالمصالح الطبيعية الموكولة إلى خبرة البشرية وجهدها فِي سبيل تحصيلها كما تَقَدَّمَ ذلك مشروحاً.
 إذن، فلم يَتُِمّ شيء من التقاريب الثَّلاَثة للاستدلال بقاعدة اللُّطْف عَلَىٰ حُجِّيَّة الإجماع. وعليه، فالمبنى والأساس الأَوَّل من أسس حُجِّيَّة الإجماع لإثبات الحكم الشَّرْعِيّ وكشفه عنه (وهو المبنى القائل بأن العقل يحكم بحجيّته من باب اللُّطْف) غير تَامّ.