الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/06/21

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: الإجماع/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 وَأَمَّا المبنى الثَّانِي: وهو مبنى كشف >الإجماع< عن >الحكمِ الشَّرْعِيّ< عَلَىٰ أساس التعبد وقيام الدَّلِيل الشَّرْعِيّ عَلَىٰ حُجِّيَّتِه تعبداً نظير قيام الدَّلِيل الشَّرْعِيّ عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الثِّقَة مثلاً تعبداً، فهو الَّذِي ذهب إليه فقهاء الجمهور والعامة، حيث استدلوا عَلَىٰ حُجِّيَّة الإجماع بعدة أدلة لَفْظِيَّة، والَّذِي يستحق الذكر منها والتعرض له هو الحديث المشهور المروي بطرق الْعَامَّة عن النَّبِيّ بلسان: >لا تجتمع أمتي عَلَىٰ ضلالة< أو ما هو قريب من هذا اللسان. قد وردت من قبلهم روايات عديدة محصَّلها هو ما ذكرناه.
 وتقريب الاِسْتِدْلاِل بذلك عَلَىٰ حُجِّيَّة الإجماع هو أن هذا اللسان وإن كان لسان إخبار، إلا أَنَّهُ شهادة من النَّبِيّ بعصمة مجموع الأمة وأن الأًمَّة بمجموعها المركّب لا تكون ضالّة ومُخطئة وإن جاز الضلال عَلَىٰ كُلّ فردٍ فرد منها، وهذا هو معنى العصمة فِي المقام. غاية الأمر أن العصمة:
 تارةً تضاف إلى الفرد بما هو فرد، كإضافة العصمة إلى كُلّ واحد من أئمتنا ^.
 وأخرى تضاف إلى >الأمة< بما هي أمة. أي: المجموع الْمُرَكَّب من الأفراد.
 وَحِينَئِذٍ يقال: إن هذه الشهادة لو ثبتت وجداناً بطريق قطعي عن النَّبِيّ (كما لو سُمِعت منه مباشرةً أو حصل >التَّوَاتُر< فِي نقلها) فَحِينَئِذٍ يُقطع بعصمة >الأمة< بلحاظ المجموع الْمُرَكَّب، ولو ثبتت تعبداً بخبر الواحد فَحِينَئِذٍ تثبت >العصمة< هذه أَيْضاً ثبوتاً تَعَبُّدِيّاً، والنتيجة واحدة عَلَىٰ كُلّ حال وهي الْحُجِّيَّة ووجوب اتباع الأمة فيما إذا أجمعت عَلَىٰ شيء؛ لأَنَّهَا لا تُجمع عَلَىٰ شيء إلا وهو حق واقعاً، باعتبار عصمتها بمجموعها الْمُرَكَّب.
 وقد يناقش هذا الاِسْتِدْلاِل بأن هذا اللسان وهذا المضمون إِنَّمَا يَدُلّ عَلَىٰ أن مجموع الأمة لا ينحرف ولا يخطئ، فغاية ما يثبت به حُجِّيَّة المجموع، وهذا أمر صحيح وثابت ومسلَّم عندنا أَيْضاً قَطْعاً؛ لأَنَّ أحد أفراد >الأمة< معصوم لا محالة؛ فهو موجود ضمن المجموع، وهو الإمام الحجة الموجود فِي كُلّ زمان؛ وذلك بشهادة حديث الثقلين الَّذِي شهد بأن >الكتاب< و>العترة< لن يفترقا حتَّى يردا عليه الحوضَ، والمعصوم × لا يوافق غيره عَلَىٰ الضلال والخطأ. إذن، فتكفي عصمة أحد أفراد الأمة لعدم ضلالة >الأمة< بمجموعها، فهذا اللسان لا يُجدينا شَيْئاً وراء ما يمكن إثباته بنفس عصمة الإمام ×، فالحديث عَلَىٰ تقدير صدوره لَيْسَ فيه دلالة عَلَىٰ أكثر من وجود الْمَعْصُوم × فِي الأمة.
 إِلاَّ أَن هذه المناقشة غير تَامَّة؛ وَذَلِكَ لأَنَّ ظاهر هذا الحديث هو أن المنافاة والمنافرة إِنَّمَا هي ثابتة بين نفس >اجتماع الأمة< وبين >الضلالة<، لا بين >شخصٍ مُعَيَّنٍ منهم وهو الْمَعْصُوم ×< وبين >الضلالة<، ولذا جعل ذلك من ميزات هذه الأمة، وَإلاَّ فإن >الْمَعْصُوم ×< كان موجوداً فِي سائر الأمم أَيْضاً.
 إذن، فالمقصود بهذا الحديث عَلَىٰ الظَّاهِر هو عدم اجتماع غير المعصومين عَلَىٰ الضلالة ممن يُتصوّر بشأن كُلّ واحد منهم بخصوصه الضلال.
 وإن شئت قلت: إن ظاهر الحديث هو أن موضوع العصمة وملاكها هو المجموع. أَيْ: أَن نكتة عدم الضلالة قائمة بالمجموع بما هو مجموع حيث عَبَّرَ بأن >الأمة< لا تجتمع عَلَىٰ ضلالة، لا أن ملاك العصمة وموضوعها عبارة عن وجود معصوم بينهم بحيث تكون نكتة عدم ضلالة الأمة قائمة به، ويكون ضم سائر أفراد الأمة إليه من قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان؛ فَإِنَّ مثل هذا لا يُفهم من هذا اللسان وهذا التعبير الوارد فِي الحديث.
 نعم، قد يقال: إن الحديث لا ينتج نتيجة عملية زائدة عَلَىٰ نتيجة عصمة الإمام ×؛ فَإِنَّهُ وإن دَلَّ عَلَىٰ وجود معصوم آخر وهو مجموع الأمة بما فيهم الإمام ×، فيصبح عندنا معصومان:
 أحدهما: الإمام عليه السلام بشخصه.
 والآخر: مجموع الأمة بما فيهم الإمام ×.
 إِلاَّ أَن هذا لا يتضمن نتيجة مفيدة بِالنِّسْبَةِ إلينا؛ لأَنَّ إحراز قول هذا الْمَعْصُوم الثَّانِي توأم دَائِماً مع إحراز قول الْمَعْصُوم الأَوَّل؛ إذ لو أحرزنا دخول الْمَعْصُوم الأَوَّل فِي الْمُجْمِعِينَ كفى ذلك فِي حُجِّيَّة الإجماع، وإن لم نُحْرِز ذلك لم نُحْرِز قول الْمَعْصُوم الثَّانِي أَيْضاً؛ لأَنَّ المفروض أن الْمَعْصُوم الأَوَّل جزء من الْمَعْصُوم الثَّانِي، فعدم إحراز قول الأَوَّل مساوق لعدم إحراز قول الثَّانِي، إذن فمثل هذا الإجماع الَّذِي يضم الإمام × نحن لسنا بحاجة إلى إثبات حُجِّيَّتِه، إذ يكفي فِي إثبات الحق عصمة الإمام عليه السلام، فليست فِي هذا الإجماع فائدة مستقلة.
 اللهم إِلاَّ أَن يقال: إِنَّهُ يمكن الاستفادة من ذيل الحديث، حيث ورد فِي بعض صيغه أَنَّهُ قال: >إن أمتي لا تجتمع عَلَىٰ ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأَعْظَم<( [1] )؛ فَإِنَّ ظاهر الذيل الوارد فِي هذه الصيغة من الحديث إرادة المعنى العرفيّ للإجماع وهو الَّذِي لا ينثلم بخروج فردٍ أو فردين، لا المعنى الدقيق الَّذِي هو عبارة عن اتفاق الكل مِنْ دُونِ أيّ استثناء؛ وَذَلِكَ لأَنَّ الحديث قد فرض سواداً أعظم، وفرض اختلافاً، وأمر باتّباع السواد الأَعْظَم.
 إذن، فيكون المقصود بالإجماع هو السواد الأَعْظَم، وَبِالتَّالِي فيكون الْمَعْصُوم × الثَّانِي عبارة عن >السواد الأَعْظَم من الأمة< وَحِينَئِذٍ فلا يكون إحراز قوله توأماً دائماً مع إحراز قول الْمَعْصُوم الأَوَّل (وهو الإمام ×)، فقد لا نُحْرِز دخول الإمام × فِي الْمُجْمِعِينَ ومع ذلك نُحْرِز قول الْمَعْصُوم الثَّانِي وهو السواد الأَعْظَم، وَحِينَئِذٍ يكون لإثبات عصمته ولإحراز قوله اثر عملي.
 هذا غاية ما يمكن أن يقال فِي تقريب الاِسْتِدْلاِل بالحديث عَلَىٰ حُجِّيَّة الإجماع.
 والصحيح فِي مناقشة الاستدلال المذكور هو أن الحديث ساقط سنداً ودلالةً:
 أَمَّا سقوطه سنداً وعدم اعتباره فليس لأجل الأُصُول الموضوعية المذهبية عندنا فحسب، باعتبار ورود الحديث عن طرق الْعَامَّة بواسطة أفرادٍ مجهولي الحال لدينا، بل السند ساقط وغير معتبر حتَّى عَلَىٰ أصولهم وموازينهم فِي الجرح والتعديل.


[1] - سنن ابن ماجة: ج2، ص1203.