الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/06/13

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: أقسام التَّوَاتُر/الخبر المتواتر/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا الدَّلِيل لا يَتُِمّ هنا فِي هذه الحالة؛ لأَنَّ هذه المائة المشتركة فِي مدلول واحد تمتاز عَلَىٰ سائر المئات الَّتِي تُجمَع بشكلٍ وآخر بوجود الْمُضَعِّف الْكَيْفِيّ، فلا يلزم من ذوبان اِحْتِمَال كذب الجميع بِالنِّسْبَةِ إليها ذوبانه بِالنِّسْبَةِ إلى أيّ مائةٍ أخرى، وَبِالتَّالِي فلا يلزم منه الخُلف وزوال الْعِلْم الإِجْمَالِيّ.
 وبعبارة موجزة: إن المعلوم بالإجمال هو كذب >مائة خبر< فِي مجموع الأَخْبَار الموجودة فِي العالَم وليس المعلوم بالإجمال كذب >مائة خبر تشترك فِي جانب من مدلولاتها< فِي مجموع أخبار العالَم، فلا ينطبق المعلوم بالإجمال عَلَىٰ هذه المائة الَّتِي نَتَحَدَّثُ عنها فِي هذه الحالة كما هو واضح.
 إذن، فِي هذه الحالة الثَّانية يثبت الْمَدْلُول التَّضَمُّنِيّ أو الاِلْتِزَامِيّ المشترك (أي: كرم حاتم فِي المثال)؛ وذلك بِالتَّوَاتُرِ الإجمالي ويحصل اليقين به وإن لم يحصل اليقين بهذه الْقَضِيَّة بالخصوص أو بتلك من القضايا المتغايرة.
 نعم، القطع بالمدلول المشترك المذكور يوجب ارتفاع احتمال كُلّ واحدة من تلك القضايا المتغايرة، أي: قيمة اِحْتِمَال الْمَدْلُول الْمُطَابَقِيّ لِكُلّ واحد من تلك الأَخْبَار؛ وَذَلِكَ لأَنَّ توقُّع كُلّ واحدة من تلك القضايا واحتمالها سوف يكون حِينَئِذٍ من احتمال قضيةٍ مضمونها المعنوي ثابت، فيكون موقعها أشدّ وأقوى؛ فَإِنَّنَا فِي المثال بعد أن نقطع بكرم حاتم فَسَوْفَ يكون توقُّعنا واحتمالُنا وقوعَ قَضِيَّة كثرة الرماد مثلاً (الَّتِي ينقلها أحد الْمُخْبِرِينَ) من باب توقّع الشيء واحتمال صدوره من أهله؛ لأَنَّهَا قَضِيَّة تُدّعى بشأن مَن هو كريم واقعاً ومَن هو مِن أهل مَن يكثر رمادهم.
 وكذلك يكون توقعنا واحتمالنا وقوع قَضِيَّة إيقاد النار مثلاً (الَّتِي ينقلها مخبِر آخر) وهكذا بِالنِّسْبَةِ إلى سائر القضايا والمداليل الْمُطَابَِقِيَّة الَّتِي ينقلها سائر الْمُخْبِرِينَ؛ فَإِنَّ قيمة احتمال كُلّ واحدة منها سوف تقوى وترتفع فِي طول القطع بالمدلول المشترك المذكور وبسببه كما هو واضح.
 الحالة الثَّالثة: أن يوجد هناك مدلول مشترك منظور إليه فِي هذه الأَخْبَار الكثيرة يُخبر الجميع عنه ويكون ذاك الْمَدْلُول المشترك عبارة عن كامل الْمَدْلُول الْمُطَابَقِيّ لِكُلّ خبر من تلك الأَخْبَار، وهذا هو الَّذِي يُسَمَّىٰ فِي كلماتهم بـ>التَّوَاتُر المعنوي<، كما إذا أخبر جماعة بواقعة واحدة وقضية معيّنة من قضايا كرم حاتم، كقضية كثرة الرماد مثلاً.
 وفي هذه الحالة تثبت تلك الْقَضِيَّة بِالتَّوَاتُرِ ويحصل اليقين بها، ويضعف احتمال كذبهم جَمِيعاً أو خطئهم إلى حَدّ الذوبان فِي النفس؛ لأَنَّ الْمُضَعِّف الْكَيْفِيّ الموجود هنا أيضاً إلى جانب الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ أقوى فِي هذه الحالة منه فِي الحالة السابقة، واحتمال كذب الجميع أو خطئهم هنا أضعف منه هناك؛ وذلك أَمَّا وجه كون اِحْتِمَال كذب الجميع هنا أضعف فهو أن احتمال الكذب يعني وجود مصلحة تدعو إلى الكذب وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ مصالح النَّاس المختلقين كلما افترض تطابقها وتجمّعها فِي محور أضيق دائرةً كان ذلك أغرب وأبعد بحساب الاحتمالات؛ وذلك لما بينهم من الاختلافات والتباين فِي الظروف والأحوال.
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ المصبّ والمدلول المشترك للأخبار هنا أضيق دائرةً منه فِي الحالة السابقة؛ إذ هناك كان المصب والمدلول المشترك للأخبار من أول الأمر عبارة عن >كرم حاتم< وهو أمر كُلِّيّ واسع الدائرة يمكن أن يتمثّل فِي قضايا عديدة.
 أَمَّا هنا فالمصب المشترك لَيْسَ كرم حاتم، بل قَضِيَّة معينة ومحددة من قضايا كرمه، فهذا هو معنى ضيق المصب، وكلما كان المصب أضيق فلا محالة يكون الْمُضَعِّف الْكَيْفِيّ أقوى، ويكون احتمال كذب الجميع أبعد وأغرب؛ إذ كيف أدّت مصلحة كُلّ واحد من الْمُخْبِرِينَ إلى نفس ذاك المحور الَّذِي أدّت إليه مصلحة الآخرين؟
 هذا معناه أن مصلحة هذا المخبِر اقتضت اختلاق كذبة حول حاتم بالخصوص دون سائر النَّاس، وعن كرمه بالخصوص دون سائر شؤونه وبالذات خصوص هذه الْقَضِيَّة المعينة من قضايا كرمه دون سائر القضايا، واقترنت مصلحته هذه صدفةً وَاتِّفَاقاً بمصلحة المخبِر الثَّانِي الَّتِي اقتضت أَيْضاً عين ما اقتضته مصلحة المخبِر الأَوَّل، واقترنت هاتان المصلحتان صدفةً وَاتِّفَاقاً بمصلحة المخبِر الثَّالِث الَّتِي اقتضت أَيْضاً عين ما اقتضته مصلحة المخبِرين الأولين وهكذا.. لا شَكّ فِي أن هذا أغرب وأبعد من تماثل المصالح فِي الحالة السابقة؛ لأَنَّ التماثل المفروض هنا أقوى منه هناك كما هو واضح.