الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/06/09

بسم الله الرحمن الرحیم

 
 العنوان: ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِي حصول اليقين/الخبر المتواتر/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 الثَّانِي: ما نُسَمِّيهِ بِالْمُضَعِّفِ الْكَيْفِيِّ، وهو عبارة عن >تماثل الصُّدَفِ الْمُتَكَرِّرَة< أو بعبارة أخرى >وحدة مصبّ الخطأ أو الكذب. فإذا كانت الأَخْبَار الكثيرة مُتَّحِدَة فِي المضمون والمخبَر به، فإن هذا أَيْضاً يُؤَثِّر فِي ضعف احتمال كذب الخبر ومخالفته للواقع؛ فَإِنَّ تجمّع دواعي الكذب أو أسباب الخطأ عَلَىٰ نقطة واحدة أبعد من انقسامها عَلَىٰ نقاط عديدة، فَمَثَلاً لو صمَّم ألف كذاب عَلَىٰ أن يختلق كُلّ واحد منهم قصة كاذبة وأسطورة خيالية، فاختلق كُلّ واحد منهم قصة غير مماثلة لما اختلقه الآخر، لم تكن فِي ذلك غرابة.
 أَمَّا لو اختلق كُلّ واحد منهم عين قصة الآخر مِنْ دُونِ إطلاع عَلَىٰ ما اختلقه الآخر، فهذا معناه أن القصص المختلَقة تماثلت صدفةً، أو قل: تماثلت الصُّدَف الَّتِي تكررت ألف مَرَّة.
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا يُعَدُّ حِينَئِذٍ من أعجب الغرائب؛ لأَنَّ النَّاس مختلفون عادةً فِي أفكارهم وظروفهم ومصالحهم والإيحاءات الَّتِي يجدونها فِي أنفسهم وما إلى ذلك. فاتفاقهم (رغم كُلّ هذا الاختلاف) عَلَىٰ اختلاق قصة واحدة عَلَىٰ أساس توارد الخواطر عَلَىٰ شيء واحد أمر بعيد غاية البُعد.
 وإذا لم تكن الأَخْبَار الكثيرة مُتَّحِدَة فِي المضمون والمخبَر به، لكنها كانت متقاربة، فإن هذا أَيْضاً يُؤَثِّر فِي ضعف احتمال كذب الخبر. وبعبارة أخرى: كلما تقاربت الصُّدَف فِي التماثل أكثر فأكثر كان الْمُضَعِّفُ الْكَيْفِيّ أقوى وأسرع تأثيراً فِي خلق العلم واليقين فِي النفس. هذا هو الْمُضَعِّف الْكَيْفِيّ.
 والآن مع أخذ هذين الْمُضَعِّفين بعين الاعتبار نقول:
 إذا واجهنا عَدَداً كبيراً من الأَخْبَار فَسَوْفَ نجد إحدى الحالات التالية:
 الحالة الأولى: أن لا توجد هناك وحدة تقارب فِي المضمون والمحتوى بين هذه الأَخْبَار الكثيرة، أي: لا يوجد بين مدلولاتها مشترك يُخبر الجمع عنه، وَإِنَّمَا يُخبرون عن مواضيع مختلفة لا تشترك أصلاً لا فِي الْمَدْلُولِ الْمُطَابَقِيّ ولا التَّضَمُّنِيّ ولا الاِلْتِزَامِيّ؛ وذلك كما إذا التقطنا (بطريقة عشوائية وغير مدروسة) مائة رواية من مختلف الأبواب من كتاب >الوسائل< مثلاً، وفي هذه الحالة من الواضح أن كُلّ واحد من مدلولات تلك الأَخْبَار لا يثبت بِالتَّوَاتُرِ؛ لأَنَّ كُلّ مدلول من تلك الْمَدَالِيل لم يُخبر به غير واحد، كما أن من الواضح أَنَّهُ لا يصدق عَلَىٰ مجموع المائة شيء من أقسام التَّوَاتُر؛ فَإِنَّ هذه المائة الَّتِي جُمعت عِشْوَائِيّاً لا هي متواترة لفظا، ولا هي متواترة معنىً، ولا هي متواترة إِجْمَالاً؛ وَذَلِكَ لأَنَّ المفروض عدم وجود مدلول مشترك فيما بينها وعدم تكثّر الإخبارات عَلَىٰ مصب واحد، وَإِنَّمَا يقع الْكَلاَم فِي إثبات أحد تلك الْمَدَالِيل عَلَىٰ سبيل العلم الإجمالي لكي ترتّب عليه آثار العلم الإجمالي، فنقول:
 إذا لاحظنا الجامع بين مداليل هذه الأَخْبَار عَلَىٰ إجماله ولو بعنوان >أحدها< فلا إشكال فِي أن احتمل صدق واحد منها عَلَىٰ الأقل احتمال كبير وعالٍ جِدّاً وأن احتمال كذبها جَمِيعاً احتمال ضعيف جِدّاً؛ وذلك بنفس ملاك حِسَاب الاِحْتِمَال؛ لأَنَّ افتراض كون اختيارنا العشوائي قد وقع صدفةً عَلَىٰ مائةٍ كُلّهَا كاذبة افتراض قيمته الاِحْتِمَالِيَّة ضعيف جِدّاً؛ وذلك لوجود الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ، وهو عبارة عن الكثرة العددية للأخبار، مِمَّا يسبّب تكثّر ضرب الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة للكذب بعضها فِي بعض من أجل الحصول عَلَىٰ قيمة احتمال كذب الجميع، فتتضاءل نتيجة الضرب تَبَعاً لزيادة الضرب وتكثّره، فاحتمال كذب الجميع ضئيل جِدّاً، وفي المقابل يكون احتمال صدق أحدها عَلَىٰ الأقل إِجْمَالاً اِحْتِمَالاً كبيراً جِدّاً نتيجةَ شدّة ضآلة احتمال كذب الجميع.
 إِلاَّ أَن هذا الاحتمال الضعيف (أعني احتمال كذب الجميع) رغم ضآلته نتيجة الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ لا يذوب فِي النفس ولا ينعدم ولا يبلغ درجة اليقين بعدم كذب الجميع، بل يبقى احتمال كذب الجميع مَوْجُوداً فِي النفس ويستحيل زواله وانعدامه وحصول اليقين، ولهذا لا يكون هذا تواتراً حَقِيقِيّاً؛ لأَنَّ التَّوَاتُر الحقيقي هو ما يوجب العلم وهنا لا يحصل العلم بصدق البعض (ولو أحد هذه المائة إِجْمَالاً)؛ فَإِنَّ العلم بالموجبة الْجُزْئِيَّة فرع زوال احتمال السالبة الكلية، بينما احتمال السالبة الكلية (أي: عدم صدق الجميع) لا زال مَوْجُوداً فِي النفس.
 أَمَّا أَنَّهُ لماذا لا يزول هذا الاحتمال (أي: احتمال كذب الجميع وعدم صدق كُلّ المائة) رغم ضعفه وضآلته؟ وبعبارة أخرى: لماذا لا يكفي الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ وحده لإفناء احتمال كذب الجميع؟ فهذا ما برهن عليه سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فِي كتابه الْقَيِّمِ >الأُسَس المنطقية للاستقراء< حيث ذكر الحالات الَّتِي يمكن أن يزول فيها مثل هذا الاِحْتِمَال، وذكر الحالات الَّتِي لا يمكن أن يزول فيها.
 وحاصل وجه استحالة زوال هذا الاحتمال (أي: احتمال كذب جميع المائة الَّتِي جُمعت عِشْوَائِيّاً) هو أن هذه المائة تشكّل طرفا من أطراف علم إجمالي آخر موجود فِي أنفسنا، وهو العلم إِجْمَالاً بوجود مائة خبر كاذب فِي مجموع الأَخْبَار الكثيرة جِدّاً الواصلة إلينا؛ فإننا نعلم بوجود مَن كانت تتوفر فيه دواعي الكذب بين الرواة، فلذا حصل كُلّ واحد منها (قبل أن نجمع هذه المائة عِشْوَائِيّاً) بأنّه يوجد فِي مجموع كتب الحديث المشتملة عَلَىٰ مائة ألف رواية مثلاً مائة رواية كاذبة، وهذا العلم الإجمالي أطرافه كثيرة جِدّاً؛ إذ ما أكثر المئات الَّتِي يمكن تجميعها وتركيبها من مجموع المائة ألف رواية.
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ أيّ مائة من هذه المائة نمسكها لو حسبنا حسابنا معها وقطعنا النَّظَر عن هذا العلم الإجمالي لاستبعدنا كذب مجموعها؛ لأَنَّ احتمال كذب مجموع المائة يساوي ناتج ضرب القيم الاِحْتِمَالِيَّة لكذب هذه الأَخْبَار المائة بعضها فِي بعض، وهو ضئيل جِدّاً (كَمَا عَرَفْتَ).
 إِلاَّ أَن هذا الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ لا يجعلنا نقطع بأن هذه المائة المجموعة عِشْوَائِيّاً ليست هي المائة الكاذبة الَّتِي نعلم إِجْمَالاً بوجودها فِي مجموع كتب الحديث؛ لأَنَّ كُلّ مائة من الأَخْبَار نختارها بأي شكل من الأشكال نحتمل لا محالة انطباق المعلوم بالإجمال عليها، وهذه المائة الملتَقطة عِشْوَائِيّاً أَيْضاً إحدى تلك المئات الكثيرة الَّتِي هي أطراف العلم الإجمالي، فلا محالة نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليها، أي: نحتمل أَنَّهَا هي المائة الكاذبة المعلومة إِجْمَالاً، وقيمة احتمال انطباق المعلوم الإجمالي عليها تساوي قيمة انطباقه عَلَىٰ أيّ مائة أخرى تُجمع بشكل آخر.
 فلو كان الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ وحده كَافِياً لإفناء احتمال كذب جميع المائة المجموعة عِشْوَائِيّاً، أي: لإفناء احتمال انطباق المعلوم الإجمالي عليها، لكان معناه أن هذا الْمُضَعِّف كافٍ لإفناء احتمال انطباق المعلوم الإجمالي عَلَىٰ أي مائة أخرى نفرضها؛ إذ لا مرجّح لهذه المائة المجموعة عِشْوَائِيّاً عَلَىٰ أيّ مائة أخرى؛ فكل المئات هي أطراف متساوية للعلم الإجمالي المذكور والمضعف الْكَمِّيّ موجود فِي كُلّ واحدة منها.
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ فناء احتمال انطباق المعلوم الإجمالي عَلَىٰ أيّ مائة نفرضها يساوق فناء المعلوم الإجمالي وزواله، وهو خلف؛ إذ لو قطعنا بعدم كذب كُلّ هذه المائة، وبعدم كذب كُلّ تلك المائة وهكذا.. إذن فأين المائة الَّتِي نقطع بكذبها إِجْمَالاً؟
 إذن، ذوبان احتمال انطباق المعلوم الإجمالي فِي بعض الأطراف دون بعض ترجيح بلا مرجح، وذوابه فِي كُلّ الأطراف خُلف فرض العلم الإجمالي.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ وإن أوجب ضآلة احتمال كذب الجميع (أي: جميع المائة العشوائية) وحصول الاطمئنان لنا بصدق واحد من المائة عَلَىٰ الأقل إِجْمَالاً، إِلاَّ أَن هذا الاطمئنان يستحيل أن يتحول إلى يقين بسبب الضآلة والمضعف الْكَمِّيّ، وَإلاَّ للزم أن يحصل هذا اليقين فِي بقية المئات العشوائية أَيْضاً؛ لعدم الْفَرْق بين مائة ومائة من حيث ضآلة احتمال كذب جميع المائة بسبب الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ، وَبِالتَّالِي يلزم أن تبقى المائة الكاذبة الَّتِي نعلم بوجودها إِجْمَالاً فِي مجموع الأَخْبَار بلا مصداق، وهذا معناه زوال العلم الإجمالي، وهو خلف فرض وجوده.
 إذن، فَكُلَّمَا كان الاحتمال الضعيف نَاشِئاً من طرفية المحتمل للعلم الإجمالي الْمُرَدَّد معلومه بين بدائل محتملة كثيرة جِدّاً، يستحيل زوال احتمال طرفية ما اختير عِشْوَائِيّاً لذاك العلم الإجمالي ما دام العلم المذكور مَوْجُوداً، كما يستحيل زوال احتمال طرفية كُلّ طرف من الأطراف والبدائل الكثيرة. أي: كُلّ مائة تُجمع بأيّ طريقة فِي المثال؛ فَإِنَّ زوال هذا الاحتمال فِي أيّ طرفٍ مساوقٌ لزواله فِي الأطراف الأخرى، وهو مساوق لزوال العلم نفسه، وهو خلف.
 فالمقام نظير ما إذا كان لدينا مائة ألف إناء وعلمنا إجمالاً بنجاسة واحد منها؛ فَإِنَّ أطراف هذا العلم الإجمالي كثيرة جِدّاً، وأيّ إناء أخذناه فإن احتمال كونه هو الإناء النجس احتمال ضعيف جِدّاً؛ لأَنَّهُ عبارة عن وفي المقابل احتمال كونه طاهراً احتمال قوي جِدّاً بالغ درجة الاطمئنان؛ لأَنَّهُ عبارة عن ، لكن بالرغم من ذلك كله يستحيل زوال الاحتمال الضعيف فِي الإناء الَّذِي أخذناه وتحوّل الاطمئنان بطهارته إلى اليقين بالطهارة؛ لأَنَّهُ لو أمكن زواله فيه لأمكن زواله فِي أيّ إناء آخر أخذناه؛ إذ لا فرق بين إناء وإناء. فزوال احتمال النجاسة فيه مساوق لزوال احتمال النجاسة فِي سائر الأواني، وهذا مساوق لزوال العلم الإجماليّ بنجاسة أحدها، وهو خلف.
 إذن، فالحالة الأولى لا تعتبر من حَالاَت التَّوَاتُر وأقسامه؛ لعدم حصول العلم واليقين فِي هذه الحالة (كَمَا عَرَفْتَ)، وَإِنَّمَا تبقى درجة احتمال صدق واحد من الأَخْبَار المائة الملتقَطة عِشْوَائِيّاً فِي مستوى الاطمئنان فحسب لا أكثر.
 وَأَمَّا حُجِّيَّة هذا الاطمئنان فحيث أن حُجِّيَّة الاطمئنان أساساً ليست عَقْلِيَّة، وبذلك تختلف عن حُجِّيَّة القطع، بمعنى أن العقل يحكم بِحُجِّيَّة القطع بينما لا يحكم بِحُجِّيَّة الاطمئنان، بل إن كان الاطمئنان حجة فحجيته عُقَلاَئِيَّة بمعنى انعقاد سيرة الْعُقَلاَء عَلَىٰ الْعَمَل به وعدم ردع الشَّارِع عنها، وَحِينَئِذٍ فبعد الفراغ عن انعقاد السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة عَلَىٰ الْعَمَل بالاطمئنان بشكل عَامّ، نواجه هذا السؤال وهو أن هذه السِّيرَة هل تشمل مثل هذا الاطمئنان الإجمالي المتكوّن فِي المقام نتيجة احتمالات أطرافه حيث أننا جمعنا احتمال صدق هذا الخبر مع احتمال صدق ذاك الخبر مع احتمال صدق الخبر الثَّالِث وهكذا.. فحصل لنا الاِطْمِئْنَانُ بصدق واحد من هذه الأَخْبَار، فهل أن السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة المنعقدة عَلَىٰ الْعَمَل بِالاِطْمِئْنَانِ شاملة لمثل هذه الاِطْمِئْنَانات الإِجْمَالِيَّة، أم أَنَّهَا مختصة بِالاِطْمِئْنَانِ التفصيلي؟ فقد يُمنع عن شمول السِّيرَة لها.
 إذن، فكيفما كان قد اتضح لنا أَنَّهُ لاَ بُدَّ (فِي مقام ذوبان احتمال الكذب وحصول العلم واليقين فِي باب التَّوَاتُر) من وجود مضعف كيفي يعالج مشكلة الترجيح بلا مرجح وذلك عَلَىٰ أساس وحدة المصب، فلا يكفي فِي التَّوَاتُر مجرد الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ مِنْ دُونِ وحدة المصب.