الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/06/06

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِي حصول اليقين/الخبر المتواتر/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 العامل الثَّالِث: نوعية الشهود والمخبرين من حيث تباين ظروفهم وتباعد مسالكهم وعدمه، فبقدر ما يشتدّ التباعد والتباين بينهم في أوضاعهم الحياتية والثقافية والاجتماعية يصبح احتمال اشتراكهم جميعاً في كون هذا الإخبار الْخَاصّ ذا مصلحة شخصية داعية إليه بِالنِّسْبَةِ إلى جميع أولئك المخبرين علىٰ ما بينهم من اختلافٍ في الظروف أبعد وأضعَف بحسب حِسَاب الاِحْتِمَالِ، وبالتالي كان حصول اليقين من شهاداتهم وإخباراتهم أسرع وكان بحاجة إلى عدد أقلّ، والعكس أَيْضاً صحيح، فَكُلَّمَا اشتدّ التقارب والاتفاق بينهم بحسب ظروفهم وأساليب حياتهم كان حصول اليقين من شهاداتهم أبطأ وكانت كاشفية التواتر محتاجة لعددٍ أكثر؛ لأَنَّ احتمال وجود غرض مشترك ومصلحة داعية لهم جميعاً إلى الكذب هنا أقوى منه في الفرض السابق؛ لتقارب ظروفهم وتوافق أساليب حياتهم واتحاد ظروفهم.
 وهذا مطلب أدركه القدماء أَيْضاً بفطرتهم، فلذا اشترط بعضهم في التواتر أن يكون الشهود والمخبرِين من بلدان عديدة، واشترط البعض الآخر أن يكون الشهود من ملل وأديان عديدة ومختلفة، ونحو ذلك من الاشتراطات والمحاولات التي تشير كلها إلى جوهر النكتة الذي ذكرناه، وهو أن جوهر التواتر هو حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ وهذا العامل مؤثّر علىٰ حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ وسرعتها نَفْياً وَّإِثْبَاتاً؛ فَكُلَّمَا كان عدد المخبرين أكثر كان احتمال وجود غرض ومصلحة شخصية في الإخبار أبعد، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هؤلاء كلما كانوا متباينين في الظروف والمصالح والأغراض يصبح احتمال اتفاقهم في الغرض والمصلحة الشخصية أبعد، وَحِينَئِذٍ تكون شهاداتهم أقوى احتمالاً وأسرع لليقين.
 العامل الرابع: نوعية الظروف الْخَاصَّة لكل مخبِر بالقدر الذي يبعّد أو يقرّب (بحسب حِسَاب الاِحْتِمَالِ) افتراض مصلحة شخصية له دعته إلى الإخبار بذاك الشكل؛ فقد نطّلع علىٰ أن المخبِر صديق للمخبَر عنه مَثَلاً، فهذا سوف يبعّد لدينا افتراض مصلحة شخصية له في الإخبار بهذا الشكل والافتراء علىٰ صديقه، وقد لا يكون المخبر صديقاً له لكن توجد فيه خصوصية أخرى تكون عاملاً مساعداً لإثبات صدقه بِحِسَابِ الاِحْتِمَالِ؛ لأَنَّ افتراض مصلحة خاصة تدعوه إلى الافتراء بعيد، ومن هذا القبيل ما إذا نقل غير الشيعي ما يدل علىٰ إمامة أهل البيت ^.
 وقد نطّلع علىٰ أن المخبِر عدوّ للمخبَر عنه، فهذا سوف يقرّب لدينا افتراض المصلحة الشخصية له في الإخبار بهذا الشكل والافتراء عليه لعدائه له، كما أن العداء قد يكون عَامِلاً مُسَاعِداً لإثبات صدقه، كما إذا نقل الناصبيّ أو الأمويّ فضيلةً لعليّ ×.
 العامل الخامس: كيفية تلقّي الْقَضِيَّة المتواترة من قبل كل مخبِر مخبِرٍ ودرجة وضوح المدرَك المدّعى للمخبرين؛ ففرق بين الشهادة بقضية حسّيّة مباشرةً كنزول المطر، وبين الشهادة بقضية ليست حسية، وَإِنَّمَا لها مظاهر حسية كالعدالة؛ فَإِنَّ نسبة الخطأ في المجال الأَوَّل أقل منها فِي المجال الثَّانِي، وبهذا كان حصول اليقين فِي المجال الأَوَّل أسرع.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّه كلما كانت الْقَضِيَّة المشهود بها مِنْ قِبَلِ الشهود والمتلقّاة لهم أكثر حسيةً، أي: أقرب إلى الحس وأبعد عن النَّظَر والرأي كان حصول التَّوَاتُر واليقين بها أسرع وكان ذلك بحاجة إلى عدد أقل، والعكس بالعكس أَيْضاً، فَكُلَّمَا كانت الْقَضِيَّة أقل حسيةً (أي: أبعد عن الحس وأقرب إلى النَّظَر والرأي) تطلّب حصول اليقين بها عَدَداً أكثر من الْمُخْبِرِينَ؛ فَالتَّوَاتُرُ فِي نزول المطر يحصل بعدد أقل من التَّوَاتُر فِي عدالة زيد، فلو فرض أننا نحتاج فِي حصول التَّوَاتُر فِي نزول المطر إلى عشر شهادات، فَسَوْفَ نحتاج فِي حُصُول التَّوَاتُر فِي عدالة زيدٍ إلى عدد أكثر من الشهادات كي يحصل لنا اليقين.
 والسر هو أَنَّهُ كلما كانت الْقَضِيَّة أقرب إلى الحس كانت أقرب إلى الصِّدْق والواقع، وعليه فنكتة تأثير هذا العامل واضحة عَلَىٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ؛ فَإِنَّ الْقَضِيَّة الحسيّة كنزول المطر لمّأ كان احتمال الخطأ والاشتباه فيها أقل، إذن ففي مقام تجميع القرائن والاحتمالات لصالح صدقها سوف نواجه احتمالات أكبر قيمةً، فتتجمّع لدينا احتمالات قويّة وأقرب إلى اليقين، فيكفي عدد قلي من الْمُخْبِرِينَ، بخلاف الْقَضِيَّة غير الحسية كعدالة زيد؛ فَإِنَّهُ ما دام احتمال الخطأ والاشتباه فيها أكثر، إذن ففي مقام تجميع القرائن والاحتمالات لصالح صدقها سوف نواجه احتمالات أصغر قيمةً، فتتجمع لدينا احتمالات ضعيفة وأبعد عن الصِّدْق وحصول اليقين، فنحتاج إلى عدد أكثر من الْمُخْبِرِينَ كما هو واضح.
 هذا هو المهم من القسم الأَوَّل (أي: العوامل الموضوعية الَّتِي تؤثّر فِي إيجاد اليقين أو فِي المنع منه عَلَىٰ أساس دخلها فِي حساب الاحتمال وتقييم درجته.
 وَأَمَّا القسم الثَّانِي (أي: العواملَ الذَّاتِيَّةَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي حصول اليقين سرعةً وُبطأً) فهي أَيْضاً لا يمكن إحصاؤها تماماً، لكن نذكر منها فِي المقام ثلاثة بعد التَّنْبِيه عَلَىٰ أن هذه العوامل الذَّاتِيَّة تختلف عن العوامل الموضوعية المتقدمة فِي أَنَّهَا لا دخل لها فِي حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ خِلاَفاً لتلك (كَمَا عَرَفْتَ)، لكنها تؤثّر فِي نفس الإنسان بحسب مزاجه؛ لأَنَّهَا ترتبط بالسامع ومَن يُرَاد ثبوت الْقَضِيَّة له بِالتَّوَاتُرِ، والعوامل الثَّلاَثة هي:
 العامل الأَوَّل: قدرة الذِّهْن عَلَىٰ الاحتفاظ بالاحتمالات الضئيلة وعدمها؛ فَإِنَّ طباع النَّاس تختلف فِي ذلك؛ فهناك حَدّ أعلى من الضآلة لا يمكن لأي ذهن بشري أن يحتفظ بالاحتمال الَّذِي يبلغ ذاك الحد، مثل احتمال واحد من مليون احتمال؛ فَإِنَّ مثل هذا الاحتمال لا يقدر الذِّهْن البشري عَلَىٰ الاحتفاظ به، فإذا بلغ احتمال خلاف الْقَضِيَّة المتواترة إلى هذا الحد من الضآلة فَسَوْفَ يزول من الذِّهْن واقعاً ويحصل للإنسان اليقين بالقضية المتواترة.
 أَمَّا الاحتمال الَّذِي لم يبلغ هذا الْحَدّ من الضآلة، بل هو أكبر منه، فالأذهان تختلف فِي القدرة عَلَىٰ الاحتفاظ به وعدم القدرة عَلَىٰ ذلك:
 فقد يكون الذِّهْن ذهناً متعارفاً اعتيادياً، بِمَعْنَى أَنَّهُ يحتفظ بالاحتمالات الَّتِي يحتفظ بها النَّاس عادةً فِي أذهانهم (مثل احتمال عشرين بالمائة)، حيث أن النَّاس يحتفظون به عَمَلِيّاً، فلا يحصل لهم اليقين بقضيةٍ ما دام احتمال خلافها بالغاً إلى درجة عشرين بالمائة، ولا يحتفظ بالاحتمالات الَّتِي لا يحتفظ بها النَّاس عادةً فِي أذهانهم (مثل احتمال واحد بالمائة) حيث أن النَّاس لا يحتفظون به عَمَلِيّاً بل يحصل لهم اليقين بقضيةٍ إذا كان احتمال خلافها واحداً بالمائة، فمثل هذا الإنسان صاحب هذا الذِّهْن المتعارف يعتبر إِنْسَاناً اِعْتِيَادِيّاً فِي تصديقه وقطعه بالأشياء، فلا هو بطيء اليقين ولا هو سريع اليقين، بل هو متعارف اليقين.
 وقد لا يكون الذِّهْن ذهناً متعارفاً اِعْتِيَادِيّاً بهذا المعنى، بل هو ذهن شَاذّ منحرف عن الْحَدّ الاعتيادي ومبتلى بما يخرجه عن الحالة المتعارفة، وما يخرجه عن الحالة المتعارفة:
 تَارَةً يكون عبارة عن سرعة اليقين بِمَعْنَى أَنَّهُ لا يحتفظ بالاحتمالات الَّتِي يحتفظ بها النَّاس عَادَةً فِي أذهانهم كاحتمال عشرين بالمائة، بل يلغيها ويحصل له اليقين بالقضية؛ فحصول التَّوَاتُر واليقين لمثل هذا الإنسان بالقضية المتواترة لا يحتاج إلى عدد كبير من الْمُخْبِرِينَ.
 وأخرى يكون عبارة عن بطء اليقين، بِمَعْنَى أَنَّهُ يحتفظ بالاحتمالات الضئيلة والصغيرة الَّتِي لا يحتفظ بها الآخرون، كاحتمال واحد بالمائة مثلاً، ولا يلغيها ويحصل له اليقين بالقضية؛ فحصول اليقين وَالتَّوَاتُر لمثل هذا الإنسان بالقضية المتواتر يحتاج إلى عدد كبير من الْمُخْبِرِينَ.
 وقد بحثنا هذه الحالات وأحكامها مُفَصَّلاً فِي مباحث القطع عند الحديث عن قطع القطاع، ولا نريد الدخول فِي ذاك البحث هنا، وَإِنَّمَا المقصود فِي المقام هُوَ أَنَّ مِن جملة العوامل الذَّاتِيَّة الْمُؤَثِّرَة فِي باب التَّوَاتُر حالة البطء أو السرعة الذَّاتِيَّة للذهن الَّتِي يختلف النَّاس فيها اختلافاً ذَاتِيّاً حتَّى مع وحدة الدَّلِيل الْمَوْضُوعِيّ عَلَىٰ الْقَضِيَّة، فجماعة واحدة تشهد عند زيد بقضية، وتشهد عند عمرو بنفس الْقَضِيَّة، فيحصل للأول اليقين بالقضية دون الثَّانِي أو بالعكس؛ فَكُلَّمَا كانت الحالة الذهنية الذَّاتِيَّة للإنسان أسرع كان حصول التَّوَاتُر واليقين بالقضية المتواترة بِالنِّسْبَةِ إليه أسرع، وكلما كانت أبطأ كان حصول التَّوَاتُر واليقين بِالنِّسْبَةِ إليه أبطأ.