الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/05/30

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِي حصول اليقين/الخبر المتواتر/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 وينبغي الانتباه إلى أن هذا النمط من الاستقراء وَحِسَاب الاِحْتِمَالِ الذي تقدم ذكره في الجهة الأولى، باعتبار أن هذا النمط يفترض فيه تطابق الماضي والمستقبل، بينما لم يكن هذا مُفْتَرَضاً في حِسَاب الاِحْتِمَال السَّابِق الذي طبّقناه بِالنِّسْبَةِ إلى ذاك الشخص الذي وجدنا علىٰ طاولة مطالعته كتباً عديدة تبحث عن >الوضوء<، وكنا نستكشف بِحِسَابِ الاِحْتِمَالاَتِ أن لديه بحثاً في >الوضوء< وأن تواجد كتب الوضوء علىٰ طاولة المطالعة ليس من باب الصدفة، فهناك لم نكن نريد أن نقيس المستقبل علىٰ الماضي، وَإِنَّمَا كنا نريد أن نتكلم عن الحاضر وعن هذه الواقعة المعينة ونستخرج قيمة الاحتمال في ضوء المدارك والظواهر الموجودة فعلاً فحسب، من دون أن نلحظ شيئاً آخر.
 وهذا بخلاف ما نحن فيه حيث نريد أن نقيس المستقبل علىٰ الماضي؛ فَإِنَّنَا إذا استقرأنا حياة زيد خلال عشر سنين ورأينا أَنَّهُ طيلة هذه السنين العشرة كان يصدق من بين كل عشرة إخبارات من إخباراته في ثمانية منها مثلا، حِينَئِذٍ نقول: إنه في المستقبل أَيْضاً سوف تتكرر نسبة الصدق بنفس الدرجة، حيث سوف يصدق في المستقبل أَيْضاً (من بين كل عشرة من إخباراته) في ثمانية منها كما كان في السنين الماضية، فنقيس المستقبل علىٰ الماضي.
 فهذا الاستنتاج هنا لن يكون رِيَاضِيّاً بَحْتاً، بل هو متوقف علىٰ هذا القياس والقول بأن نفس النِّسْبَة التي لاحظناها في الماضي (وهي نسبة الصِّدْق في إخبارات زيد بدرجة، أي: ثمانية بالمائة) سوف يحملها الْمُسْتَقْبَل وَتَتَكَرَّرُ فيه أَيْضاً، وهذه هي عقدة الاستقراء الَّتِي استعصت عَلَىٰ الفكر العلمي، وهي أَنَّهُ كيف وبأيّ مبرّر منطقي يمكن أن نفترض أن الْمُسْتَقْبَل سوف يكون كالماضي ويحمل نفس النِّسْبَة الَّتِي كانت ثابتةً فِي الْمَاضِيّ؟
 فإن هذه العقدة تواجهها كُلّ الاستقراءات العلمية التكرارية الَّتِي آمن بها العلم الحديث كاستقراء تمدّد الحديد بعد تسليط الحرارة عليه؛ فَإِنَّ هذه الاستقراءات جميعاً تتضمّن هذه الفكرة وهذه المصادرة القائلة بقياس الْمُسْتَقْبَل عَلَىٰ الْمَاضِيّ.
 وقد كان الفلاسفة العقليون يبرّرون هذه المصادرة عَلَىٰ أساس أن النِّسْبَة والعلاقة بين الحرارة وتمدّد الحديد مثلاً إِنَّمَا هي علاقة علّيّة، وعلاقة الْعِلِّيَّةِ عندهم هي علاقة ضرورية ذَاتِيَّة، وعليه فقوانين الْعِلِّيَّة قوانين عَقْلِيَّة قبلية، فإذا كان العقل يحكم بضرورة تمدد الحديد عند تسليط الحرارة عليه (نَظَراً إلى أن الحرارة عِلَّة للتمدد، وَالْعِلِّيَّة تعني الضرورة والحتمية) إذن، فالماضي والمستقبل فِي ذلك شرع سَوَاء، وإذا كان الحديد ذاتاً فِي الْمَاضِيّ بنحو لو سلّطت الحرارة عليه لكان من الحتمي والضروري تمدّده، إذن فهو فِي الْمُسْتَقْبَل أَيْضاً كذلك.
 إِلاَّ أَن الفكر الفلسفي الأروبي التجريبي منذ أن نادى >ديفيد هيوم< بأن الْعِلِّيَّة والضرورة ليست علاقة يمكن إثباتها بالتجربة، استغنى عن علاقة الضرورة والحتمية.
 ومن هنا تحيّر هذا الفكر فِي أَنَّهُ كيف يمكن أن يفترض أن الْمُسْتَقْبَل سوف يحتفظ بنفس نسبة الْمَاضِيّ؟ فإن النِّسْبَة الثَّابِتَة فِي الْمَاضِيّ بين الحرارة والتمدّد إِنَّمَا هي نسبة التعاقب فحسب، أي: حصول التمدد عقيب الحرارة.
 وعليه، فكيف وبأيّ مبرّر منطقي يمكن أن نفترض أن هذا التعاقب سوف يكون ثابتاً فِي الْمُسْتَقْبَل أَيْضاً؟ وَبِالتَّالِي فمَن قال لنا إِنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَل إذا سلّطت الحرارة عَلَىٰ الحديد فَسَوْفَ يتمدّد وما لم نقس الْمُسْتَقْبَل عَلَىٰ الْمَاضِيّ فَسَوْفَ لا يثبت قانون علمي تجريبي.
 هذه هي العقدة الَّتِي تواجهها كُلّ الاستقراءات العلمية التكرارية الَّتِي آمن بها العلم الحديث، وقد قام سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فِي كتابه الْقَيِّمِ >الأُسَس المنطقية للاستقراء< بحل هذه العقلة وإزاحتها عن وجه العلم والقوانين العلمية التَّجْرِيبِيَّة؛ فَإِنَّ هذا هو أحد المباحث المفصلّة المطروحة فِي هذا الكتاب.
 وبعبارة أخرى: إن حِسَاب الاِحْتِمَالِ فِي المقام لاَ بُدَّ من أن يُثْبِتُ أَيْضاً قَضِيَّة استقبالية وهي أن كُلّ خبر إذا كان خبر ثقة فَسَوْفَ تكون قيمته الاِحْتِمَالِيَّة وَكَاشِفِيَّتُهُ عن الواقعِ أكثر وأكبر مِمَّا إذا لم يكن خبر ثقة، نَظَراً إلى أن الأمر فِي الْمَاضِيّ كان كذلك.
 وهذا ما برهن عليه سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & وشرحه مُفَصَّلاً فِي هذا الكتاب وذكر مبرّرات هذه المصادرة.
 هذا كله فِي العامل الأَوَّل من العوامل الموضوعية المؤثرة فِي حساب الاحتمالات وَبِالتَّالِي فِي إفادة التَّوَاتُر للعلم واليقين.
 العامل الثَّانِي: نوعية الْقَضِيَّة الَّتِي تواتر نقلها من حيث كونها قَضِيَّة مألوفة أو قَضِيَّة غريبة، فَكُلَّمَا كانت الْقَضِيَّة فِي نفسها قَضِيَّة اعتيادية ومتوقَّعة ومنسجمة مع سائر الْقَضَايَا المعلومة كان حصول التَّوَاتُر أسرع وكان بحاجة إلى عدد من الْمُخْبِرِينَ أقل مِمَّا إذا كانت الْقَضِيَّة بعيدة وغريبة وغير مألوفة وغير متوقعة ولا منسجمة مع سائر القضايا المعلومة؛ فَإِنَّ حصول التَّوَاتُر حِينَئِذٍ يكون أبطأ ويحتاج إلى عدد أكثر من الْمُخْبِرِينَ؛ لأَنَّ غرابة الْقَضِيَّة المخبَر عنها تُشَكِّلُ فِي نفسها عاملاً عكسياً وتكون فِي صالح كذب الْقَضِيَّة وعدم صدقها وثبوتها فِي الواقع.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّ قوة احتمال الْقَضِيَّة فِي نفسها وضعفه من العوامل الَّتِي يَتَأَثَّر بها التَّوَاتُر واليقين، فَكُلَّمَا كانت قيمة الاحتمال القبلي للقضية، أي: احتمال الْقَضِيَّة فِي نفسها أقوى (كما إذا أخبر عدد من النَّاس بوجود دجاجة بيضاء) كان حصول التَّوَاتُر أسرع مِمَّا إذا كانت قيمة الاحتمال القبلي للقضية أضعف (كما إذا أخبروا بوجود دجاجة ذات أربع قوائم)؛ فَإِنَّ قيمة احتمال وجود مثل هذه الدجاجة فِي نفسه أضعف من قيمة احتمال وجود دجاجة بيضاء، ولذا فإن إخبار عدد قليل من النَّاس بأن الدجاجة بيضاء قد يوجب اليقين، لكن إخبار عدد أكبر من هذا بكثير عن أن الدجاجة ذات أربع قوائم قد لا يوجب اليقين؛ لضعف الْقَضِيَّة المخبر بها فِي نفسها، وبُعدها وغرابتها، فتحتاج إلى شهادات أكثر بكثير من الأَوَّل حتَّى يحصل لنا اليقين بها.
 وبُعد الْقَضِيَّة وضعف قيمة احتمالها القبلي عَلَىٰ نحوين:
 الأَوَّل: البُعد والضعف عَلَىٰ أساس حساب استقرائي فِي علل الْقَضِيَّة وأسباب وجودها فِي الطَّبِيعَة فِي نفسها، كما فِي مثال الدجاجة ذات القوائم الأربع؛ فَإِنَّ فروض وجود مثل هذه الدجاجة هو أمر بعيد وضعيف جِدّاً وقلَّما يتفق فِي الطَّبِيعَة، وهذا الاستبعاد ناشئ من استقرائنا لعلل وجود الدجاجة وأسبابها الطبيعية، فبالاستقراء ثبت أن عوامل تثنية القوائم فِي الدجاج أكثر من عوامل التربيع فيها.
 الثَّانِي: البُعد والضعف عَلَىٰ أساس كثرة البدائل المحتملة لتلك الْقَضِيَّة لا لحساب الاحتمالات فِي الأسباب والعلل، فَمَثَلاً إذا طرق بابك طارق لا تعرف مَن هو، فالطارق مردّد عندك بين آلاف من النَّاس؛ لأنهم جميعاً يُحتمل فِي حقهم ذلك؛ فَإِنَّ آلافاً من النَّاس يطرقون الباب عادةً، فاحتمال أَنْ يَكُونَ الطارق زيداً هو احتمال من واحد من مجموع آلاف احتمال، فهو احتمال ضعيف جِدّاً؛ إذ له بدائل محتملة كثيرة. فاستبعاد كون الطارق زيداً وضعف احتماله ناشئ من كثرة البدائل المحتملة لا من استقرائنا لعلل كون الطارق زيداً.
 وَما قلناه من أن بُعد الْقَضِيَّة وضعف قيمة احتمالها القبلي فِي نفسه يؤدي إلى بُطء عملية التَّوَاتُر إِنَّمَا هو فِي النَّحْو الأَوَّل من الضعف والاستبعاد، وهو فِي ما إذا كانت الْقَضِيَّة المتواترة بعيدة الاحتمال فِي حَدّ ذاتها، فيحتاج إثباتها بِالتَّوَاتُرِ وحصول اليقين بها إلى عددٍ أكبر (من الْمُخْبِرِينَ) مِمَّا إذا كانت قَضِيَّة طبيعية فِي نفسها، وهذا شيء مطابق مع الوجدان؛ لأَنَّهُ فِي الأَخبار الغريبة يحتاج حصول اليقين بها إلى شهاداتٍ أكثر.
 ونكتة ذلك أن كاشفية التَّوَاتُر إِنَّمَا هي بتقوية الاحتمال الثابت للقضية فِي نفسها؛ إذ كلما كان هذا الاحتمال القبلي للقضية أضعف احتاج ثبوتها وحصول اليقين بها إلى شهادات أكثر، ولا ينطبق هذا عَلَىٰ النَّحْو الثَّانِي من البعد والضعف للاحتمال القبلي للقضية، وهو الناشئ من كثرة البدائل لها، كما فِي مثال الطارق للباب المردّد بين آلاف؛ لأَنَّ هذا النَّحْو من الضعف والبُعد للاحتمال القبلي للقضية المنقولة (وهي أن زيداً هو الطارق) لا يضّر بِكَاشِفِيَّة كُلّ واحدة من الشهادات؛ بدليل أَنَّهُ قد يحصل اليقين بأن الطارق هو زيد من خلال إخبار شخص واحد ثقة بذلك.
 فلو كان ضعف احتمال كون الطارق زيداً مضراً بِكَاشِفِيَّة الشهادة لَمَا حصل اليقين من خلال هذه الشهادة الواحدة؛ لأَنَّ المفروض تضرّر هذه الشهادة بهذا الضعف، بينما لَيْسَ الأمر كذلك.
 وهذا بخلاف النَّحْو الأَوَّل من البُعد والضعف للاحتمال القبلي للقضية، وهو الناشئ من استقراء علل الْقَضِيَّة وأسبابها، كما فِي مثال الإخبار بوجود دجاجة ذات قوائم أربع؛ فَإِنَّ هذا النَّحْو من الضعف والبُعد للاحتمال القبلي للقضية المنقولة يضرّ بِكَاشِفِيَّة كُلّ واحدة من الشهادات، ولذا فلا يحصل (عادةً) اليقين بمثل هذه الْقَضِيَّة من خلال إخبار شخص واحد مهما كان ثقةً؛ لأَنَّ الضعف المذكور قد أضر بِكَاشِفِيَّة هذا الإخبار وهذه الشهادة.
 وقد برهن سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & عَلَىٰ نكتة الْفَرْق بين هذين القسمين من الاستبعاد للقضية فِي كتابه الْقَيِّمِ >الأُسَس المنطقية للاستقراء<، ولا نحتاج فِي المقام إلى ذلك ذاك البرهان، بل يكفينا (لغرضنا الفقهي والأصولي) انطباق ذلك عَلَىٰ الوجدان، حيث أن الْفَرْق وجداني (كَمَا عَرَفْتَ).