الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/05/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان:
 الخبر المتواتر/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 1)- الخبر المتواتر
 ويقع الكلام حوله فِي أربع جهات:
 الجهة الأولى: فِي حَقِيقَةِ التواتر وكيفية إفادته اليقين.
 الجهة الثَّانية: فِي ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِي حصول اليقين.
 الجهة الثَّالثة: فِي التواتر غير المباشر (أي: مع الواسطة)، وبعبارة أخرى: تَعَدّد الوسائط فِي التَّوَاتُر.
 الجهة الرَّابِعَة: فِي أقسام التواتر.
 
 الجهة الأولى: حَقِيقَة التَّوَاتُر
 أَمَّا الجهة الأولى: ففي حَقِيقَة التَّوَاتُرِ وأنه كيف يوجب اليقين؟ حيث أَنَّ أوضح مصاديق الخبر العلمي الَّذِي يفيد اليقين الحقيقي أو اليقين العرفيّ (وهو الاطمئنان)عبارة عن الخبر الَّذِي يكون قَطْعِيّاً بالكثرة وهو المتواتر، وَأَمَّا الخبر الَّذِي يكون قَطْعِيّاً بعامل آخر غير الكثرة فلا يعتبر يَقِينِيّاً، وفي مقابل الخبر العلمي يوجد قسم ثانٍ من الخبر وهو الخبر غير العلمي الَّذِي لا يفيد اليقين ولا الاطمئنان، وهو الخبر الواحد فِي اصطلاحهم، وقد اتّجه بحثهم عن حُجِّيَّة الخبر نحوَ القسم الثَّانِي (أي: الخبر غير العلمي وهو الخبر الواحد) ونحن أَيْضاً سوف نبحث عنه - إن شاء الله تعالى - فِي النَّحْو الثَّانِي من وسائل الإثبات.
 وَأَمَّا القسم الأَوَّل وهو الخبر العلمي، فبعد أن كان قطعياً لم يبق معنى للبحث عن حُجِّيَّتُه؛ لأَنَّ مُقْتَضَىٰ كونه قطعياً هو أن العقل يحكم بحجيته بلا حاجة لإقامة دليل شرعي عَلَىٰ حُجِّيَّتُه. ولكن مع ذلك رأينا أن من المناسب التكلم فِي الْقِسْمِ الأَوَّل، وذلك لا عن حُجِّيَّتِه، بل عن كَيْفِيَّة إيجابه اليقين والضابط الفنّي لذلك ولو فِي الجملة؛ لأَنَّ فهم كَيْفِيَّة إنتاجا لتواتر للعلم واليقين وتشخيص الميزان الفني له يؤدي إلى إمكان اتخاذ الاختيارات المناسبة فِي فروع بحث التَّوَاتُر كالتواتر الإجمالي والمعنوي وغيرهما من مسائل التَّوَاتُر الَّتِي هي بحاجة إلى اتخاذ اختيارات تجاهها؛ فَإِنَّ هذه الاختيارات سوف تكون أكثر سداداً وصواباً حينما نبحث عن حَقِيقَة التَّوَاتُر وسبب حصول اليقين منه وسرعة حصوله وبطئه.
 إذن، فالكلام الآن إِنَّمَا هو عن أن التَّوَاتُر كيف يوجب اليقين والقطع؟ وبعبارة أخرى: هل أن اليقين الْمَوْضُوعِيّ بالقضية المتواترة يقينٌ استنباطي قائم عَلَىٰ أساس قياس منطقي، أم هو يقين استقرائي قائم عَلَىٰ أساس تراكم قيم احتمالية وازدياد درجة احتمال القضية المتواترة حتَّى يصبح احتمال نقيضها قريباً من الصفر، فيزول من الذِّهْن؟!
 فنقول: عُرِّف التَّوَاتُر أو الخبر المتواتر فِي >المنطق< بأنه عبارة عن إخبار جماعة كثيرين يمتنع تواطؤهم عَلَىٰ الكذب.
 فالقضية المتواترة هي الَّتِي يجتمع عَلَىٰ الإخبار عنها عدد كبير من المخبِرين بنحوٍ يستحيل تواطؤهم واتفاقهم عَلَىٰ الكذب نتيجة كثرتهم العددية.
 ولدى تحليل هذا التعريف وتمحيصه يرجع إلى أن دليلية القضية المتواترة تنحلّ إلى مقدّمتين بمعنى أن >المنطق< يفترض فِي هذا التعريف أن القضية المتواترة مُسْتَنْتَجة من مجموع مقدمتين:
 الْمُقَدَِّمَة الأولى (بمثابة الصغرى): وهي عبارة عن تواجد عدد كبير من المخبِرين واجتماعهم عَلَىٰ الإِخبار بقضية معيّنة كموت زيد مثلاً، وهذه الصغرى ثابتة لنا بالحس.
 الْمُقَدَِّمَة الثَّانية (بمثابة الكبرى): وهي أن كُلّ عدد من هذا القبيل يستحيل تواطؤهم عَلَىٰ الكذب، وهذه الكبرى يفترض >المنطلق< أَنَّهَا ثابتة بحكم العقل، وليست مستمدّة من المشاهدات والتجارب الخارجية، فلو سألنا المنطق: >كيف تثبت أن الجماعة الكثيرة كالألف مثلاً يستحيل اجتماعها وتواطؤها عَلَىٰ الكذب؟< يقول: إن هذا مِمَّا يستقل به العقل كاستقلاله باستحالة اجتماع النقيضين.
 فالكبرى بديهية يحكم بها العقل بمجرد تصورها وتُعتبر من القضايا الأولية فِي العقل، فإذا ضممنا الصغرى الخارجية الثَّابِتَة بالحس إلى الكبرى الْعَقْلِيَّة الَّتِي يحكم بها العقل كانت النَّتِيجَة عبارة عن استحالة كون القضية المخبر بها (وهي موت زيد مثلاً) كاذبة، وهذا معناه حصول اليقين الْمَوْضُوعِيّ لنا بتلك القضية من خلال هذا القياس المنطقي، فيثبت حِينَئِذٍ صدق القضية المتواترة وحقّانيتها عَلَىٰ طريقة القياس.
 ونظراً لما قلناه (من أن الكبرى فِي القياس المستدلّ به عَلَىٰ القضية المتواترة) من القضايا الضرورية الْعَقْلِيَّة عند المنطلق الأرسطي، لذا عَدَّ هذا المنطلق القضية المتواترة من جملة القضايا الضرورية السّتّ الَّتِي تنتهي إليها كُلّ قضايا البرهان؛ فَإِنَّ المنطلق الأرسطي يرىٰ أن قضايا المعرفة البشرية الَّتِي هي جديرة بالثقة ويجب قبولها هي القضايا الَّتِي تتّسم بطابع اليقين، ويرى باليقين تصديق العقل بقضيةٍ تصديقاً جازماً لا يمكن زواله أو زعزعته، فكل قَضِيَّة يتاح لها هذا اللون من التصديق تعتبر قَضِيَّة يقينيةً.
 والقضايا اليقينية عَلَىٰ قسمين:
 القسم الأَوَّل: القضايا اليقينية المستدلَّة أو الْمُسْتَنْتَجة الَّتِي اكتسبت طابعها اليقيني بسبب كونها نتيجة لقضايا يقينية سابقة.
 القسم الثَّانِي: القضايا اليقينية الرئيسية الَّتِي تشكّل المنطلقات الأولية لليقين فِي المعرفة البشرية، وتضع حَدّاً وبدايةً للتسلسل فِي استنتاج القضايا بعضها من بعض، وأحياناً يُعبر عنه بمبدأ المعرفة البشرية.
 ويُصنّف المنطلقُ الأرسطي القسمَ الثَّانِي هذا (أي: هذه القضايا اليقينية الرئيسيّة) إلى ستة أصناف:
 الصنف الأَوَّل: الأوليات وهي قضايا يُصَدِّقُ العقلُ بها لذاتها، أي: نفس تصور الطرفين كاف فِي أن يحكم العقل بصدق هذه القضية، من قبيل قولنا: >النقيضان لا يجتمعان<، فبمجرد تصور النقيضين وتصور الاجتماع يحكم العقل بأنهما لا يجتمعان. أو مثل: >الكل أعظم من الجزء<.
 الصنف الثَّانِي: المحسوسات، وهي القضايا الَّتِي يحكم بها العقل بواسطة الحس لا لذاتها، أي: لا يكفي فيها مجرد تصور الطرفين، والحس عَلَىٰ قسمين: الحس الظاهر والحس الباطن. القضايا المتيقنة بواسطة الحس الظاهر تُسمى بالحسيات من قبيل: >هذه النار حارة<؛ فَإِنَّ هذا التصديق لم يأت بسبب تصور الطرفين بل نتيجة إحساسنا حرارة النار، ومثل >الشمس مضيئة<. والقضايا المتيقنة بواسطة الحس الباطن تسمى بالوجدانيات مثل: >أنا أفكر< أو >أنا جائع< أو الحكم بأن لنا حُبّاً وبغضاً وهكذا، فالعقل يصدق تصديقا جازما بسبب الحس الجائع، فإن الجوع والألم والحب والبغض أمور لا تُرى ولا تُلمس.
 الصنف الثَّالِث: التجريبيات وهي القضايا الَّتِي يحكم بها العقل بواسطة تكرر المشاهدة فِي إحساسنا. من قبيل الحكم بأن >كُلّ نار حارة<.
 الصنف الرَّابِع: المتواترات (وهي محل البحث) وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة إخبار عدد كبير بها يمتنع تواطء هذا العدد عَلَىٰ الكذب، من قبيل حكم العقل بوجود مكان اسمه مكة المكرمة أو مكان اسمه المدينة المنورة.
 الصنف الخامس: الحدسيات، وهي قضايا يحكم بها العقل عَلَىٰ أساس حدث قوي، بحيث يزول الشَّكّ. من قبيل حكمنا بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس.
 الصنف السادس: الفطريات، وهي قضايا لا يكفي فيها تصور الطرفين فِي الجزم بها وتصديق العقل بها بل لاَ بُدَّ من الحد الوسط، إلا أن هذا الحد الوسط دَائِماً موجود، ومن هنا يصدق العقل بهذه القضية. وهذا ما يعبر عنها أحياناً بقضايا قياساتها معها. مثل قولنا: >الاثنين نصف الأربعة<؛ لأَنَّ الأربعة تنقسم إلى هذا وإلى ما يساويه، وكلما كان هناك عدد ينقسم إلى شيء وإلى ما يساويه، إذن يكون هذا الشيء نصف ذاك العدد.
 إذن، كُلّ قَضِيَّة يستدل عَلَيها بمقدمات تنتمي إلى هذه الأصناف الستة، تكون تلك قَضِيَّة يقينية نَظَرِيَّة مكتسَبة من هذه القضايا. فالقضايا اليقينية الست تُشَكِّلُ القاعدة الرئيسية للمعرفة الَّتِي هي جديرة بالقبول والتصديق فِي نظر المنطق الأرسطي، والقضايا الْمُسْتَنْتَجة من هذه القضايا بشكل مباشر أو غير مباشر تُعتبر البناء العلوي للمعرفة الواجبة القبول. إذن، هناك قاعدة رئيسية للمعرفة اليقينية الَّتِي يجب قبولها (وهي الأصناف الستة) وهناك بناء علوي عَلَىٰ هذه القاعدة.