الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/05/19

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان:
 البحث الثَّالِث: إثبات صدور الدَّلِيل الشَّرْعِيّ/الفصل الأَوَّل: الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 (الفصل الأَوَّل: الأَدِلَّة المحرزة)
 البحث الثَّالِث
 صدور الدَّلِيل الشَّرْعِيّ من الشَّارِع ×
 بعد أن تَحَدَّثْنَا فِي البحث الأَوَّل عن دلالالت الدَّلِيل الشَّرْعِيّ اللَّفْظِيّ وفي البحث الثَّانِي عن دلالات الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللَّفْظِيّ حان الوقت لدراسة الطرق والوسائل الَّتِي بها يثبت صدور الدَّلِيل الشَّرْعِيّ (اللَّفْظِيّ وغير اللَّفْظِيّ) من الشَّارِع، فما هي الطرق الَّتِي نُثبت بها أن الإمام × قال كذا أو فعل كذا، أو أمضى كذا؟
 وهذه الطرق والوسائل عَلَىٰ نحوين:
 أحدهما: وسائل الإثبات الوجداني وهي الطرق والأسباب الَّتِي توجب لنا اليقين الوجداني بصدور الدَّلِيل من الشَّارِع.
 وثانيهما: وسائل الإثبات التَّعَبُّدِيّ وهي الطرق والأسباب الَّتِي لا توجب لنا اليقين الوجداني بالصدور، بل توجب التعبد بالصدور.
 فلابد من الكلام عن كُلّ واحد من هذين النحوين تباعاً:
 
 النَّحْو الأَوَّل
 وسائل الإثبات الوجداني
 وسائل الإثبات الوجداني لِلدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ بِالنِّسْبَةِ إلى غير المعاصرين للمعصومين ^ عبارة عن الطرق الَّتِي توجب لهم العلم واليقين والقطع بصدور الدَّلِيل من الشَّارِع، ولا يمكن حصر هذه الطرق، ولكن يمكن ذكر ثلاثة طرق رئيسية منها وهي:
 الطريقة الأولى: الإخبار الحسي المتعدد إلى درجةٍ توجب اليقين، وهو المسمى بالخبر المتواتر.
 الطريقة الثَّانية: الإخبار الحدسي المتعدد بدرجةٍ توجب اليقين، وهو المسمى بالإجماع والشهرة.
 الطريقة الثَّالثة: الآثار المحسوسة الكاشفة (بطريق الإنّ) عن الدَّلِيل الشَّرْعِيّ، وهي عبارة عن >سيرة الْمُتَشَرِّعَة< الَّتِي مضى الحديث عنها مفصَّلاً فِي البحث السابق بمناسبة البحث عن دلالة التقرير، فلم تبق هناك نكتة تدعو إلى البحث عنها هنا.
 وبما أن هذه الطرق كُلّهَا إِنَّمَا يقوم حصول اليقين بموجبها عَلَىٰ أساس حساب الاحتمالات، فمن المناسب أن نَتَحَدَّثُ بإيجاز عن كَيْفِيَّة تكوّن اليقين عَلَىٰ أساس حساب الاحتمال فنقول: إن اليقين أو القطع عَلَىٰ قسمين:
 القسم الأَوَّل: اليقين الموضوعي، ونقصد به اليقين الَّذِي يكون القاطع فيه مُصِيباً فِي حصول ذاك اليقين له، بمعنى أَنَّ هذا الإنسان يمتلك مبررات مَوْضُوعِيَّة ومناشئ عُقَلاَئِيَّة لحصول هذا القطع واليقين، بحيث يحصل هذا اليقين لغيره أَيْضاً متى ما حصلت لديه تلك المبررات ووجدت عنده تلك المناشئ، كاليقين الحاصل بسبب التواتر كما يأتي إن شاء الله تعالى.
 القسم الثَّانِي: اليقين الذاتي، ونقصد به اليقين الَّذِي لا يكون القاطع مُصِيباً فِي حصوله، بمعنى عدم وجود مبررات مَوْضُوعِيَّة ومناشئ عُقَلاَئِيَّة لقطعه، وَإِنَّمَا حصل له القطع عَلَىٰ أثر حالة نفسية خاصة به أو عَلَىٰ أثر عوامل أخرى، بحيث أن الظَّرْف الموضوعي الَّذِي عاشه القاطع لو عاشه غيره لم يحصل له القطع، كاليقين الحاصل من إخبار إنسان واحدٍ تكون نسبة الصدق فِي إخباراته عموما بدرجة سبعين بالمائة؛ فَإِنَّ المفروض أن لا يحصل اليقين بسببه، وَإِنَّمَا يحصل الظن بدرجة سبعين فِي المائة مثلاً.
 ونحن حينما نتكلم عن حُجِّيَّة القطع بعد افتراض تحققه لا نفرّق بين هذين القسمين بل نقول بِحُجِّيَّتهما معاً - كما تَقَدَّمَ فِي مباحث القطع -، ولكن هنا حينما نتكلم عن الأسباب والأدوات والوسائل الموجِبة لليقين والإحراز فمن المعقول أن نهتمّ بالتمييز بين الأسباب الموجبة لليقين الموضوعي وبين غيرها، ابتعاداً بقدر الإمكان عن التورّط فِي غير اليقين الموضوعي.
 واليقين الْمَوْضُوعِيّ بقضية من القضايا عَلَىٰ قسمين:
 اليقين الْمَوْضُوعِيّ الأَوَّلِيّ، كاليقين بالقضايا الضرورية البديهية، كاستحالة اجتماع النقيضين.
 اليقين الْمَوْضُوعِيّ المُسْتَنْتَج وهو عَلَىٰ ضربين أَيْضاً:
 الضرب الأَوَّل: اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستنباطي بقضيةٍ مّا، وهو اليقين الَّذِي كون سببه عبارة عن اليقين الْمَوْضُوعِيّ بقضية أخرى تتضمن أو تستلزم عقلاً تلك القضية، ويكون الاستنتاج حِينَئِذٍ قَائِماً عَلَىٰ أساس قياسٍ من الأقيسة المنطقية (أي: الأشكال الأربعة) مثل قولنا: >زيد إنسان< و>كُلّ إنسان يموت< فـ>زيد يموت<، وهنا نلاحظ أن النَّتِيجَة (وهي >زيد يموت<) أصغر من المقدمات، بينما الْمُقَدَِّمَة كانت عبارة عن >كُلّ إنسان يموت<، وقد تكون النَّتِيجَة متساوية مثل: >الحيوان إما صامت وَإِمَّا ناطق< و>الصامت يموت والناطق يموت< إذن >الحيوان يموت<؛ فَإِنَّ اليقين الْمَوْضُوعِيّ بالنتيجة فِي هذين القياسين سببه هو اليقين الْمَوْضُوعِيّ بالصغرى والكبرى فيهما.
 الثَّانِي: اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي بقضيةٍ مّا، وهو اليقين الَّذِي يكون سببه عبارة عن اليقين بمجموعة من القضايا لا تتضمن ولا تستلزم عقلاً تلك القضية (عَلَىٰ عكس ما كان فِي اليقين الاستنباطي)، لكن كُلّ واحدة من هذه القضايا تُشَكِّلُ قيمة احتمالية (أو قولوا تُشَكِّلُ قرينة) بدرجةٍ مّا لإثبات تلك القضية. وبتراكم تلك القيم الاحتمالية تزداد درجة احتمال تلك القضية وتتصاعد حتَّى يصبح احتمال نقيضها قريباً من الصِّفر وبسبب ذلك يزول احتمال النقيض نتيجة ضآلته وكون الذِّهْن البشري مخلوقاً عَلَىٰ نحو لا يحتفظ باحتمالات ضئيلة قريبة من الصفر.
 ومثال ذلك أن نشاهد اقتران حادثة معيّنة (كتمدد الحديد) بحادثة أخرى (كالحرارة) مرات كثيرة جِدّاً؛ فَإِنَّ هذه الاقترانات المتكررة هي مجموعة قضايا لا تتضمن ولا تستلزم عَقْلاً أَنْ تَكُونَ إحدى الحادثتين (وهي الحرارة) عِلَّةً للأخرى (وهي التمدد)؛ إذ قد يكون اقتران الحادثتين صدفة، ويكون للحادثة الأخرى (وهي التمدد) عِلَّة غير منظورة، ولكن حيث أن من المحتمل فِي كُلّ اقتران أن لا يكون صدفة، وأن لا تكون هناك عِلَّة غير منظورة، فيعتبر كُلّ اقتران وكل قَضِيَّة قرينةً احتمالية عَلَىٰ عِلِّيَّة إحدى الحادثتين (وهي الحرارة) للأخرى (وهي التمدد) وبتعدد هذه القرائن الاحتمالية وتراكمها يقوى احتمال العلية ويضعف احتمال عدمها حتَّى يصبح احتمال العدم قريبا من الصفر فيزول ويحدث فِي النفس اليقين بالعلية وبأن كُلّ حديد يتمدد بالحرارة.
 إذن، فاليقين الموضوعي الْمُسْتَنْتَج بقضيةٍ مّا تَارَةً يقوم عَلَىٰ أساس القياس وأخرى يقوم عَلَىٰ أساس الاستقراء. والنتيجة فِي القياس مستبطَنة دَائِماً فِي المقدمات؛ لأَنَّ النَّتِيجَة إما هي أصغر من المقدمات (كالمثال الأَوَّل المتقدم) أو مساوية لها (كما فِي المثال الثَّانِي)، وهذا بخلاف النَّتِيجَة فِي الاستقراء؛ لأَنَّها غير مستبطنة فِي المقدمات الَّتِي يتكوّن منها الاستقراءُ؛ لأَنَّهَا أكبر وأوسع من مقدماتها. ففي المثال السابق نجد أن النَّتِيجَة وهي أن كُلّ حديد يتمدد بالحرارة أكبر وأوسع من الاقترانات المتكررة؛ لأَنَّهَا مهما كثرت فهي لا تشمل كُلّ حديد.
 وعَلَىٰ كُلّ حال، إن الطرق والوسائل الَّتِي تذكر عَادَةً لإثبات الدَّلِيل الشَّرْعِيّ وإحرازه وجداناً كهلا من وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي كما سنرى ذلك - إن شاء الله تعالى - وهي عبارة عن: 1)- السِّيرَة. 2)- الخبر المتواتر. 3)- الإجماع. 4)- الشهرة.
 أَمَّا السِّيرَة فقد تَقَدَّمَ الحديث عنها مُفَصَّلاً فِي البحث السابق بمناسبة البحث عن دلالة تقرير الْمَعْصُوم ×، فلا نعيد.
 إذن، يبقى علينا أن نبحث عن الطرق الثَّلاَثة الأخرى وهي:
 1)- الخبر المتواتر.
 2)- الإجماع.
 3)- الشهرة.