الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/05/18

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: خاتمة البحث عن السِّيرَة/السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 كان الكلام فِي ختام البحث عن السِّيرَة فِي حالة التحرج عن الإفتاء والَّتِي تعرض بِالنِّسْبَةِ لكثير من الفقهاء، وقد ذكرنا السَّبَب الأَوَّل من أسبابها.
 السَّبَب الأَوَّل: أَنْ تَكُونَ هذه الحالة ناشئة من العلم والاطمئنان الشخصي ببطلان هذا الحكم.
 السَّبَب الثَّانِي: أن لا تكون هذه الحالة ناشئة من العلم بالبطلان، بل هو شَاكّ فِي هذا الحكم ولا يدري أن هذا الحكم هل هو ثابت واقعاً أو غير ثابت، لكن مع ذلك باعتبار أَنَّهُ يرىٰ أن شكَّه (فِي ثبوت هذا الحكم الإلزامي) شَكّ غير متعارف (لأَنَّ الشَّكّ المتعارف والاعتيادي هو الشَّكّ فِي مورد لا تتوفر فيه مقتضيات العلم والاطمئنان)، وَحِينَئِذٍ هذا الفقيه لا يمكنه أن يرتب عَلَىٰ شكه لا آثار الشَّكّ ولا آثار اليقين.
 ونريد بآثار الشَّكّ الرجوع إلى القواعد والأدلة والأُصُول الْعَقْلِيَّة والنقلية المؤمنة. أي: حينما يشك الإنسان فِي حكم إلزامي تترتب عَلَىٰ شكه آثار، فهناك قواعد عقليه ونقلية جعلت آثاراً وأحكاماً عَلَىٰ الشَّكّ، ولا يمكن للفقيه أن يرتب تلك الآثار والأحكام عَلَىٰ شكّه، كما لا يمكنه أن يرتب آثار اليقين، ومن هذا الآثار إسناد هذا الحكم إلى الشَّارِع والقيام بالإفتاء (أي: جواز الإفتاء).
 أَمَّا آثار الشَّكّ فلأن آثار الشَّكّ هي القواعد المؤمنة، وهي إما عَقْلِيَّة وَإِمَّا شرعية.
 أَمَّا القواعد الْعَقْلِيَّة المُؤَمِّنَة فلا توجد عندنا قاعدة عَقْلِيَّة مؤمنة غير قاعدة قبح العقاب بلا بيان عَلَىٰ القول بثبوتها، وهي قاعدة يحكم بها العقل (عَلَىٰ القول بها) عندما لم يكن البيان تاماً لدى الْمُكَلَّف بياناً بحسب المتعارف والعادة، وهذا الفقيه تَمَّ لديه البيان عَلَىٰ الحكم الشَّرْعِيّ بحسب المتعارف، فلا يحكم العقل بقبح عقاب هذا الإنسان.
 وَأَمَّا الأصول الشَّرْعِيَّة المؤمنة كأصالة البراءة مثلاً فأيضاً لا يمكنه التَّمَسُّك بها؛ إذ أَنَّهُ يرىٰ أن قوله >رفع ما لا يعلمون< منصرف عن مثله هو، فقد أخذ فِي دليل أصالة البراءة >عدم العلم<، أي: الشَّكّ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، والشك هذا هو الشَّكّ المتعارف وليس الشَّكّ الشاذ، كما أن أحكام القطع الموضوعي تنصرف عن مثل القطع غير المتعارف وغير الاعتيادي كقطع القطاع، كذلك الأحكام المترتبة عَلَىٰ الشَّكّ (كالأصول العملية) منصرفة عن الشَّكّ غير المتعارف. فمن هنا هذا الفقيه بما أَنَّهُ يعلم بأن شكه شَكّ غير متعارف فلا يمكنه أن يرتّب آثار الشَّكّ عَلَىٰ شكه فيجري أصالة البراءة مثلاً فِي حق نفسه ويحصّل عَلَىٰ تأمين من ناحية ذاك الحكم الإلزامي الَّذِي اقتضته القواعد والأدلة.
 هذا بِالنِّسْبَةِ إلى ما قلناه من أن هذا الفقيه لا من جهة يمكنه أن يرتب آثار الشَّكّ، ولا يقدر أن يرتب آثار اليقين أَيْضاً؛ لأَنَّ الأثر البارز لليقين هو جواز الإفتاء وهو لا يقدر أن يفتي بالحكم الإلزامي الَّذِي اقتضته القواعد والصناعة؛ لأن المفروض أن هذا الفقيه شَاكّ بهذا الحكم وغير متيقن به، وإن لم يكن شكه شَكّاً متعارفاً، فعنوان الشَّكّ منصرف عن شكه، ولكن هذا لا يعني أَنَّهُ أصبح متيقناً وقاطعاً بالإلزام، فلا يمكنه أن يفتي بهذا الحكم الإلزامي.
 إذن عَلَىٰ كُلّ تقدير يقع هذا الفقيه فِي التحرج، فلا هو قادر عَلَىٰ أن يفتي بمر الصناعة لأنه شَاكّ فِي النَّتِيجَة الَّتِي أدت إليها الصناعة، ولا هو قادر أن يرجع إلى الأُصُول والقواعد المؤمنة، فيبقى فِي حالة الحرج.
 أَمَّا الأمر الثَّانِي: وهو الكلام حول تبرير الأَدِلَّة الَّتِي تلائم حالته، فما هو وجه اتجاه الفقيه نحو العثور عَلَىٰ دليل وفق حالته النَّفْسِيَّة التحرجية؟
 قد يقال: إن هذا النزوح مِنْ قِبَلِ الفقيه لا دليل عليه (أي: لا وجه لأن يتجه الفقيه عند حصول هكذا حالة نحو العثور عَلَىٰ دليل يوافق مقصوده)؛ ذَلِكَ لأَنَّ محاولة العثور هذه من نتائج المنطق الأرسطي القائل بأن الشيء لاَ بُدَّ من أَنْ يَكُونَ إما ضَرُورِيّاً أو مكتسَبا (أي: منتهياً إلى الضروري)، فَمَثَلاً الإنسان عليه أَنْ يَكُونَ عالماً إما بشيء ضروري وَإِمَّا بشيء ينتهي إلى الضروري. وهذا المنطق خلَّف هذا التخيل فِي كُلّ حقول المعرفة البشرية ومنها المجال الفقهي بأن المفروض عَلَىٰ الإنسان العالم والواعي أن يقبل بأي دعوى لا هي ضرورية ولا هي منتهية إلى الضرورة. هذا من نتائج ثقافة المنطق الأرسطي الَّذِي يقول: إن المعرفة لا بد وأن تنتهي إلى الضرورة. ومن هنا يحاول الفقيه أن يجد فِي المقام برهاناً حتَّى لا ينتهي بلا دليل.
 لكن الواقع أن العلم لَيْسَ دَائِماً نَاشِئاً من الدَّلِيل والبرهان؛ إذ قد ينشأ العلم من عِلَّة أَثَّرَتْ فِي الإنسان تَكْوِيناً وأوجدت العلمَ فِي الإنسان؛ فالعلم بنفسه أمر حادث قابع للقوانين العلمية، سَوَاء عَلِمَ العالمُ بمنشأ علمه أم لم يعلم. وليس حصول العلم بحاجة إلى التفتيش عن عِلَّة حصول العلم، كي نجدها فيوجد العلم، وَإِنَّمَا شأن العلم كشأن سائر العلل والمعاليل، فعلى سبيل المثال إن وجدت عِلَّة الحرارة تحصل الحرارةُ، سَوَاء علمنا بمنشأ الحرارة أم لم نعلم.
 لكن هذا الكلام غير تَامّ وذلك لأن العلم وإن كان من الحوادث والممكنات وتابعاً لعلته وتسيطر عليه قوانين العلية، إلا أن العلم فِي غير الضروريات والبديهيات (كاستحالة اجتماع النقيضين) إِنَّمَا يكون علماً مَوْضُوعِيّاً (ونقصد به العلم الَّذِي تكون له مبررات مَوْضُوعِيَّة، أي: لم يكن هذا العلم حَاصِلاً من حالات نفسية وأشباهها) وهو عبارة عن الأقيسة والأشكال المنطقية الأربعة المعروفة؛ إذ أن العلم بالنتيجة فِي هذه الأشكال الأربعة من القياس استُنتج من العلم بالمقدمات.
 فلكي يصبح العلم مَوْضُوعِيّاً يجب عليه إما أن ينتهي إلى البرهان، وهو العلم الحاصل بأحد الأشكال الأربعة المنطقية المعروفة.
 وَإِمَّا يجب أن ينتهي إلى قوانين حساب الاحتمال، وهي الَّتِي نَقَّحَها سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فِي المنطق الذاتي من كتابه القيم >الأسس المنطقية للاستقراء<، أي: يحصل لنا من العلم بقضايا عديدة العلمُ بهذه القضية، وتلك القضايا العديدة لَيْسَ كالصغرى والكبرى؛ لأَنَّ العلم بالصغرى والكبرى (فِي القياس) يستلزم العلم بالنتيجة؛ لأَنَّ النَّتِيجَة مستبطَنة فِي المقدمات؛ فَإِنَّ النَّتِيجَة إما هي أصغر من المقدمات أو هي مساوية لها، لكن فِي العلم المنتهي إلى قوانين حساب الاحتمال لا يستلزم العلم بالمقدمات العلمَ بالنتيجة من الناحية الْعَقْلِيَّة، لكن كُلّ قَضِيَّة من هذه القضايا تُشَكِّلُ قيمة احتمالية، فإذا تراكمت هذه القيم الاحتمالية يحصل العلم عَلَىٰ شرح قد نشرحه فيما يأتي (فِي بحث التواتر) قريباً إن شاء الله تعالى.
 وعلى كُلّ، لكي يكون العلم موضوعياً له مبرراته الموضوعية لاَ بُدَّ أن يَنْتَهِي إما إلى البرهان وَإِمَّا إلى قوانين حساب الاحتمال، وَإلاَّ فَسَوْفَ يكون هذا العلم نَاشِئاً من الوهم أو عن مقاييس لا ينبغي للإنسان أن يحصل له العلم بسببها.
 وعليه فنفس نزوح الفقيه إلى دليل يلائم حالته (أي: نفس تفتيشه عن عِلَّة تلائم حالته) قد يوضِّح له أن علمه هل هو علم موضوعي له مبررات مَوْضُوعِيَّة أو أَنَّهُ علم غير موضوعي، فقد يكون هذا سَبَباً لتراجعه عن علمه. إذن، إن التفتيش عن عِلَّة العلم والنزوح إلى دليل يلائم حالته، لَيْسَ فاقداً للمبرر، بل له وجه صحيح ونحن مع هذا النزوح والتفتيش.
 هذا تمام الكلام فِي السِّيرَة وبه تَمَّ الكلام عن دلالة التقرير، وبذلك تَمَّ البحث عن دلالة الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللَّفْظِيّ الَّذِي كان يتمثل فِي قول الْمَعْصُوم وتقريره، وقبل هذا كان بحثنا عن دلالة دليل الشَّرْعِيّ اللَّفْظِيّ. إذن، إلى الآن تَمَّ لدينا بحثان من بحوث الدَّلِيل الشَّرْعِيّ:
 البحث الأَوَّل: بحث دلالات الدَّلِيل الشَّرْعِيّ اللَّفْظِيّ وقد استغرق خمساً وعشرين بحثاً درسناها طيلة سنين.
 البحث الثَّانِي: بحث دلالات الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللَّفْظِيّ وهذا ما انتهينا منه الآن.
 أَمَّا البحث الثَّالِث: فهو البحث عن صدور الدَّلِيل من الشَّارِع، وهذا ما سندرسه تباعاً إن شاء الله تعالى.