الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/05/17

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: القسم3: السِّيرَة المشرِّعة/السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 بعد أن اتضح المرادُ من سيرة الْمُتَشَرِّعَة وتَبَيَّن المراد من سيرة الْعُقَلاَء نتعرض لأهم الفوراق بينهما:
 الفارق الأَوَّل: هو أننا حينما نريد أن نستدل بسيرة الْمُتَشَرِّعَة عَلَىٰ حكم شرعي سَوَاء سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأخص أو سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم، يجب علينا أن نثبت أن بناء الْمُتَشَرِّعَة فِعْلاً كان عَلَىٰ هذا السلوك الْمُعَيَّن خارجاً (بنحو القضية الخارجية، أي: هم كانوا يجهرون فِعْلاً فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة أو أنهم فِعْلاً كانوا يعملون بخبر الثِّقَة)، أَمَّا إذا لم نثبت أنهم فِعْلاً كانوا يعملون هكذا فلا يمكن أن نثبت الحكم الشَّرْعِيّ من خلال هكذا سيرة.
 أَمَّا حينما نريد الاِسْتِدْلاِل بسيرة الْعُقَلاَء فليس من الضروري أن نثبت ذلك (أَيْ: أَن عمل الْعُقَلاَء فِعْلاً كان عَلَىٰ هذا) بل يكفي أن نثبت أن الطبع الْعُقَلاَئِيّ لو خُلِّيَ ونفسه ولم يُردع عنه لاقتضى هذا السلوكَ وهذا الْعَمَل الْمُعَيَّنَ، وإن كنّا فِعْلاً لا نجزم ولا نتيقن بأن الْعُقَلاَء فِي عصر الأئمة ^ كانوا فِعْلاً يسيرون عَلَىٰ هذا السلوك (لأَنَّنَا نحتمل وجود ردع عن هذا السلوك، وبالنتيجة لم يتحقق هذا السلوك منهم)؛ لأَنَّهُ إذا أحرزنا ذلك الاقتضاء فَحِينَئِذٍ يمكننا نفي الردع بالقضية الشَّرْطِيَّة الثَّانية (القائلة بأن الشَّارِع لو ردع لوصل الردع إلينا، وحيث لم يصل فلم يردع)، فيثبت الإمضاء مِنْ قِبَلِ الشَّارِع لِلسِّيرَةِ. هذا هو الفارق الأَوَّل بين سيرة الْمُتَشَرِّعَة بكلا معنييها وبين سيرة الْعُقَلاَء.
 وبعبارة أخرى: إننا ذكرنا (فِيما سبق) ركنين للاستدلال بِالسِّيرَةِ:
 أحدهما عبارة عن معاصرة السِّيرَة للمعصومين ^.
 وثانيهما عبارة عن إمضاء الشَّارِع لِلسِّيرَةِ.
 وهذا الفارق الأَوَّل يركّز عَلَىٰ الركن الأَوَّل من هذين الركنين ويقول بِالنِّسْبَةِ إلى السِّيرَة الْمُتَشَرِّعَة لاَ بُدَّ لنا أن نثبت معاصرة السلوك الخارجي فِعْلاً لعصر الْمَعْصُوم ×. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لسيرة الْعُقَلاَء فليس من الضروري أن نثبت معاصرة السلوك الخارجي الفعلي مِنْ قِبَلِ الْعُقَلاَء لعصر الْمَعْصُوم، وَإِنَّمَا يكفي أن نثبت ونحرز أن الْعُقَلاَء لو خلو وأنفسهم ولم يُرْدَعُوا فإنَّ طبعهم الْعُقَلاَئِيّ يقتضي أن يسلكوا هكذا سلوك. فيكفي هذا المقدار وطبعهم يقتضي الجري عَلَىٰ هذا السلوك ولا نحتاج فِي سيرة الْعُقَلاَء إلى أكثر من إحراز هذه القضية الطَّبْعِيَّة؛ إذ لو تمت هذه القضية الطَّبْعِيَّة من المتوقَّع والمترقَّب من الشَّارِع أن يردع عن هذا السلوك إذا لم يكن رَاضِياً بهذه السِّيرَة.
 وبعبارة أخرى: إذا لم يكن الشَّارِع رَاضِياً بهذا السلوك كان عليه أن يردع؛ لأَنَّهُ إن لم يردع فالمقتضي لهذا السلوك موجودٌ والمانع أَيْضاً مفقود، وَبِالتَّالِي سوف يتحقق السلوك خارجاً، فلابد أن يردع عنه لو لم يرض به، وَحِينَئِذٍ نثبت عدم صدور الردع ببرهان عدم وصول الردع.
 فعلى سبيل المثال إذا أردنا أن نستدل عَلَىٰ حُجِّيَّة الظُّهُور فتارة نستدل عليها بسيرة الْمُتَشَرِّعَة ونقول بأنهم كانوا يعملون بالظواهر، فَلاَ بُدَّ هنا من إثبات وإحراز أن أصحاب الأئمة ^ كانوا يعملون بذلك. أَمَّا إذا أردنا أن نستدل عَلَىٰ حُجِّيَّة الظُّهُور بسيرة الْعُقَلاَء فليس من الضروري أن نثبت أن الْعُقَلاَء فِعْلاً فِي زمان الْمَعْصُوم × كانوا يعملون بخبر الثِّقَة، بل يقتضي أن نثبت أن الطبع الْعُقَلاَئِيّ لو خلي وطبعه كان يعمل بخبر الثِّقَة، ولا نحتاج إلى إحراز الْعَمَل الخارجي.
 والخلاصة أن القضية الطَّبْعِيَّة المعاصرة للمعصوم × فِي سيرة الْعُقَلاَء تكفي بينما هي غير كافية فِي سيرة الْمُتَشَرِّعَة.
 الفارق الثَّانِي: هو أن سيرة الْمُتَشَرِّعَة (سَوَاء بالمعنى الأَوَّل أو بالمعنى الثَّانِي) إذا استكمل سلوكها فلا معنى لاحتمال الردع عنها؛ وَذَلِكَ لأَنَّ الردع مستحيل؛ لأَنَّ سيرة الْمُتَشَرِّعَة كما عرفنا تكشف عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كما يكشف المعلول عن علته. إذن، هذه السِّيرَة هي وليدة البيان الشَّرْعِيّ، ووجودها يَدُلّ عَلَىٰ أن الشَّارِع موافق لها؛ لأَنَّهَا أتت نتيجة موافقة الشَّارِع وإمضاء الشَّارِع، فسكوتها دليل عَلَىٰ عدم الردع فكيف نحتمل الردع عنها؟ فهذا تناقض؛ إذ من جهة هي موجودة وهي وليدة للشارع ومن جهة أخرى نحتمل أَنْ يَكُونَ الشَّارِع قد ردع عنها.
 فعلى سبيل المثال لو انْعَقَدَتْ سيرةُ الْمُتَشَرِّعَة عَلَىٰ الجهر فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة أو عَلَىٰ الْعَمَل بخبر الثِّقَة، فهنا لا معنى للكلام عن أن الشَّارِع × هل ردع أم لم يردع؟ لأنه أساساً هنا لا يأتي احتمال الردع أبداً.
 وهذا بخلاف سيرة الْعُقَلاَء (أي: انعقاد الطبائع الْعُقَلاَئِيَّة عَلَىٰ سلوكٍ مُعَيَّنٍ)؛ فَإِنَّهَا ليست وليدة للبيان الشَّرْعِيّ حتَّى يستحيل الردع عنه، فليس معنى ثبوت سيرة الْعُقَلاَء عدم ردع الشَّارِع، فلذلك لاَ بُدَّ من نفي هذا الاحتمال بالبرهان المتقدم.
 وهذا هو الفارق الثَّانِي وهو أن سيرة الْمُتَشَرِّعَة لا تحتاج إلى برهان ينفي الردع؛ لأَنَّهَا هي دليل لعدم الردع، بينما سيرة الْعُقَلاَء بحاجة إلى برهان ينضم إليها وهذا البرهان يثبت أن الشَّارِع لم يردع عنها.
 الفارق الثَّالِث: هو أن إثبات السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة المعاصرة للمعصوم × أيسر وأسهل من إثبات السِّيرَة الْمُتَشَرِّعِيَّة المعاصرة للمعصوم ×، سَوَاء الْمُتَشَرِّعِيَّة بالمعنى الأخص أو الْمُتَشَرِّعِيَّة بالمعنى الأعم؛ ذلك لأَنَّنَا ذكرنا سَابِقاً طُرقاً ستة لإثبات معاصرة السِّيرَة للمعصوم ×، وكان بعض هذه الطرق مشتركاً بين سيرة الْمُتَشَرِّعَة وسيرة الْعُقَلاَء، لكن البعض الآخر من هذه الطرق كان مختصاً بسيرة الْعُقَلاَء كالطريق الرَّابِع والخامس. إذن، إن طرق إثبات السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة المعاصرة للمعصوم × أكثر من طرق إثبات سيرة الْمُتَشَرِّعَة المعاصرة للمعصوم ×، ومن الواضح أَنَّهُ كلما كانت طرق الإثبات أكثر وأوفر كان الإثبات أسهل وأيسر.
 الفارق الرَّابِع: أن الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ الْعُقَلاَئِيَّة عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ أوسع دائرةً من الاِسْتِدْلاِل بسيرة الْمُتَشَرِّعَة، سَوَاء كان ذاك الحكم الشَّرْعِيّ حُكْماً وَاقِعِيّاً وقد سمينا هذه السِّيرَة بِالسِّيرَةِ الفقهية (سَوَاء كان تَكْلِيفِيّاً أو وَضْعِيّاً) أو كان الحكم الشَّرْعِيّ حُكْماً ظَاهِرِيّاً وهذه السِّيرَة سميناها بِالسِّيرَةِ الأصولية( [1] ).
 وفي هذا الضوء تكون السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة عند الأُصُولِيّ وعند الفقيه أهمّ مِنَ السِّيرَةِ الْمُتَشَرِّعَة؛ ذلك لتنوّع مجال الاستفادة مِنَ السِّيرَةِ الْعُقَلاَئِيَّة بينما مجال الاستفادة من سيرة الْمُتَشَرِّعَة ومجال استخدامها لَيْسَ له ذاك التنوع.
 والفارق الخامس والأخير: هو أَنَّهُ قلّ ما ينحصر الدَّلِيل عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي المسألة (سَوَاء الفقهية أو الأصولية) بِالسِّيرَةِ الْمُتَشَرِّعَة؛ ذَلِكَ لأَنَّهُ غالباً توجد فِي موارد السِّيرَة الْمُتَشَرِّعِيَّة أدلةٌ أخرى غير السِّيرَة الْمُتَشَرِّعَة وذلك كالعموم والإطلاق، وهذا بخلاف السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة، فهي لا تقلّ مواردُها الَّتِي ينحصر الدَّلِيل فيها بِالسِّيرَةِ (أي: لا يوجد دليل آخر عَلَىٰ الحكم الشَّرْعِيّ).
 هذا تمام الكلام فِي هذه الجهة الخامسة وبذلك نكون قد انتهينا عن البحث عن السِّيرَة. بقي فِي الختام البحث عن تلك الحالة النَّفْسِيَّة الَّتِي تحصل للفقيه وَالَّتِي ذكرناها فِي أول بحث السِّيرَة وهي حالة التحرج عن الإفتاء وفق الصناعة وطبق القواعد والأدلة.
 فهناك حالة تحصل عند الكثير من الفقهاء تمنعهم من أن يُعملوا مر الصناعة، ولعل هذه الحالة هي السَّبَب الَّذِي يجعلهم أن يفحصوا عن أدلة أخرى تلائم حالته النَّفْسِيَّة، من قبيل الشهرة والإجماع المنقول أو القول بأن >الخبر الضعيف سنداً ينجبر بعمل الأصحاب< أو القول بأن >الخبر الصَّحِيح سنداً يضعف بإعراض الأصحاب<، بل أحياناً نرى أكثر من ذلك، فعلى سبيل المثال جاء فِي كلمات الشيخ الأنصاري & ما هو أشد من ذلك حيث يقول بشأن بعض الروايات إنها صحيحة سنداً يعتضد بعمل الأصحاب، وإليك نص كلامه: >فلا يؤخذ بها ما لم تعتضد بعمل المشهور<.
 ولعل من الأَدِلَّة الَّتِي اصطنعت عَلَىٰ هذا الأساس (أساس الملائمة مع الحالة النَّفْسِيَّة الموجودة) السِّيرَة والارتكاز، ولذلك نجد أَنَّهُ كلما تقلصت دائرة الأَدِلَّة السابقة الَّتِي كان الفقهاء يتمسكون بها وأصبح الفقهاء يبتعدون عنها توسعوا فِي دائرة الارتكاز والسيرة لكي يفي هذا الدَّلِيل بتلك الحالة النَّفْسِيَّة ويقوم مقام تلك الأَدِلَّة. فعلى سبيل المثال كثر التَّمَسُّك سَابِقاً بمسألة الإجماع المنقول أو الإجماع المنقول أو جبر السند بعمل الأصحاب أو وهن الخبر الصَّحِيح بإعراض الأصحاب، ولكن شَيْئاً فشيئاً تقلصت دائرة التَّمَسُّك بهذه الأَدِلَّة نتيجة بحوث الفقهاء عن هذه الأَدِلَّة فِي الأُصُول وإبطالها، فكلما تقلصت دائرة التَّمَسُّك بتلك الأَدِلَّة توسعت دائرة التَّمَسُّك بِالسِّيرَةِ.
 وعلى كُلّ حال يقع الكلام هنا:
 تَارَةً فِي أصل هذه الحالة التحرجية ونشوئها وأنه هل لها منشأ صحيح؟ وبعبارة أخرى: ما هي نكتة هذه الحالة.
 وأخرى فِي الاتجاه نحو أدلة تلائم هذه الحالة، ما هو وجهه وما هو مبرر أن ينزعها الفقيه ويتجه إلى أدلة تلائم هذه الحالة.
 أَمَّا الأمر الأَوَّل: وهو توجيه حالة التحرج عن الإفتاء بالحكم الشَّرْعِيّ الَّذِي تقتضيه الصناعة والقواعد، فنقول: إن هذه الحالة يمكن أن تنشأ من أحد عوامل وأسباب عديدة، أي: لهذه الحالة نكات ومبررات عديدة نقتصر عَلَىٰ وجهين منها:
 الوجه الأَوَّل: أو يكون تحرج الفقيه نَفْسِيّاً عن الإفتاء بالحكم الإلزامي الَّذِي تقتضيه القواعدُ والصناعة، يكون ناشئاً من اطمئنانه الشخصي أو علمه الشخصي ببطلان هذا الحكم، رغم أن القواعد تقتضي هذا الحكم الإلزامي، فَحِينَئِذٍ تحصل تلك الحالة التحرجية.
 وهو لا يتمكن من أن ينقل هذه الحالة النَّفْسِيَّة الموجودة عنده تكويناً إلى الآخرين فمن هنا يفتش عن دليل عَلَىٰ وفق مذاقه، حتَّى يصبح الدَّلِيل غطاء لهذا الفقيه لإثبات مقصوده للآخرين، ويوجب لهم الاطمئنان بذلك، وهذا الوجه صحيح.


[1] - راجع عن ذلك الجلسة 62.