الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/05/16

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: القسم3: السِّيرَة المشرِّعة/السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 الجهة الخامسة: فِي بيان الفوارق بين سيرة الْعُقَلاَء وسيرة الْمُتَشَرِّعَة، حيث يظهر من مجموع ما ذكرناه أن هناك فوارق عدة بينهما، لكن قبل التعرض لهذه الفوارق لا بأس بتوضيح المراد من سيرة الْمُتَشَرِّعَة وسيرة الْعُقَلاَء فنقول:
 أَمَّا سيرة الْمُتَشَرِّعَة فلها أحد معنيين:
 المعنى الأَوَّل: سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأخص وهي السِّيرَة الَّتِي جرى عليها الْمُتَشَرِّعَةُ لكونهم مُتَشَرِّعَة (أي: كانت الْحَيْثِيَّة التعليلية لسيرتهم عبارة عن كونهم مُتَشَرِّعَة ومتدينين وملتزمين بالشريعة) من قبيل أن نفرض أن سيرة الْمُتَشَرِّعَة فِي زمن الْمَعْصُوم × انعقدت عَلَىٰ الجهر فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة (لو أحرزنا هكذا سيرة) فمن الواضح أن سببها عبارة عن كونهم مُتَشَرِّعَة، وَإلاَّ فلم يكونوا ليصلوا حتَّى يجهروا أو يخفتوا.
 المعنى الثَّانِي: سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم، وهي السِّيرَة الَّتِي جرى عليها الْمُتَشَرِّعَةُ والمتدينون لا لأنهم مُتَشَرِّعَة بل جروا عليها فِعْلاً، سَوَاء كان ذلك بسبب كونهم مُتَشَرِّعَة أو بِمُقْتَضَىٰ طبعهم الْعُقَلاَئِيّ، من قبيل أن نفرض أن سيرة الْمُتَشَرِّعَة وأصحاب الأئمة ^ انعقدت خارجاً عَلَىٰ الْعَمَل بخبر الثِّقَة لكن مِنْ دُونِ أن نجزم بأن عملهم هذا هل هو من باب كونهم عقلاء (أي: لطبعهم الْعُقَلاَئِيّ) أم لأجل أنهم تلقوا ذلك من الشَّارِع ×، فيحتمل فِي هذه السِّيرَة أَنْ يَكُونَ سببها التَّشَرُّع كما يحتمل أَنْ يَكُونَ السَّبَب فيه هو طبعهم الْعُقَلاَئِيّ.
 وَأَمَّا سيرة الْعُقَلاَء: وفي مقابل سيرة الْمُتَشَرِّعَة بهذين المعنيين توجد سيرة الْعُقَلاَء، ومعناها هو السِّيرَة الَّتِي سلكها الْعُقَلاَء بِمُقْتَضَىٰ طبعهم الْعُقَلاَئِيّ، مِنْ دُونِ أن نحرز أن الْمُتَشَرِّعَة جروا عَلَىٰ وفق هذا الطبع وهذه السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة، وَإلاَّ إذا أحرزنا أن سيرة الْمُتَشَرِّعَة جرت عليها فَسَوْفَ تدخل فِي سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم.
 وكلا المعنيين لسيرة الْمُتَشَرِّعَة حجةٌ وَيَدُلُّ عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ والملاك فِي هذه الْحُجِّيَّة ملاك واحد وهو عبارة عن كشف المعلول عن علته، إلا أن من الواضح أن سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأخص أقوى دلالةً عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ من سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم؛ ذَلِكَ لأَنَّ فِي سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأخص لا يُحتمل أَنْ تَكُونَ هذه السِّيرَة ناشئة من الطبع الْعُقَلاَئِيّ؛ لأَنَّ المفروض فِي سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأخص أن هذه السِّيرَة ناشئة من تشرّعهم وتديّنهم، فَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ ناشئةً من بيان الشَّارِع. نعم يبقى احتمال خطأ الْمُتَشَرِّعَة وقصورهم وغفلتهم موجوداً ولكننا نفيناه سَابِقاً بحساب الاحتمالات، فلا يوجد منشأ آخر لهذه السِّيرَة نحتمله احتمالاً عقلائياً.
 أَمَّا سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم فيوجد بشأنها احتمال آخر وهو احتمال كونها ناشئة من الطبع الْعُقَلاَئِيّ، فمن هنا هذا هو السَّبَب فِي أَنْ تَكُونَ السِّيرَة بالمعنى الأخص أقوى دلالة عَلَىٰ الحكم الشَّرْعِيّ مِنَ السِّيرَةِ بالمعنى الأعم، وعلى أساس هذه الأقوائية فتكون سيرة الْمُتَشَرِّعَة عَلَىٰ الجهر أقوى دلالة عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ من سيرة الْمُتَشَرِّعَة عَلَىٰ الْعَمَل بخبر الثِّقَة مثلاً؛ لأَنَّ فِي الأخير يُحتمل أَنْ يَكُونَ الْعَمَل بخبر الثِّقَة ناشئاً من الطبع الْعُقَلاَئِيّ وليس متلقى من الشَّارِع ×، بينما فِي الجهر فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة لا نحتمل أَنْ يَكُونَ هذا الْعَمَل متأثراً بالطبع الْعُقَلاَئِيّ والنزعة الْعُرْفِيَّة؛ لأَنَّهُ أساساً لا توجد هناك نزعة عُقَلاَئِيَّة تجاه الجهر فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة، وهو واضح.
 فهذا الفارق موجود بين سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأخص وسيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم فِي أقوائية دلالة الأولى منهما عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، لكن رغم وجود هذا الفارق تَدُلُّ كلتا السيرتين عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وتكون حجةٌ والملاك فِي الدِّلاَلَة عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ واحد، فكما أن ملاك دلالة سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأخص عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ هو كشف المعلول عن علته، كذلك سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم دالة عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وكاشفة عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بملاك كشف المعلول عن علته؛ ذَلِكَ لأَنَّنا وإن كنّا نحتمل فِي سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم أَنْ تَكُونَ هذه السِّيرَة بِمُقْتَضَىٰ النزعة الْعُقَلاَئِيَّة والطبع الْعُقَلاَئِيّ، لكن هذه النزعة (وَالَّتِي تقتضي الجري عَلَىٰ وفق هذه السِّيرَة) لا يمكنها أن تُفسر لنا عملَ الْمُتَشَرِّعَة ككلّ؛ فقد نفينا احتمال أَنْ يَكُونَ منشأ سلوكهم الطبع الْعُقَلاَئِيّ (لا نقول إن الْمُتَشَرِّعَة لا يوجد فيهم طبع عقلائي وَإِنَّمَا نقول: لَيْسَ منشأ سلوكهم هو الطبع الْعُقَلاَئِيّ). إذن، نقطع أن نطمئن بأن منشأ سلوكهم وعملهم بخبر الثِّقَة هو أنهم حتما تلقوا ذلك من الشَّارِع، فتكون سيرتهم دالة عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.
 هذا ما أفاده سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & ولكن بالإمكان المناقشة فِي ذلك والمناقشة أَيْضاً نستفيدها من بعض بياناته السابقة &، وهي أن نفس تكوّن سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأخص ووجودها فِي زمان الشَّارِع دليل عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وكاشف عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيّ كما يكشف المعلول عن علته، كما أفاد & ذلك بالبيان المتقدم مفصلاً فِي بحث سيرة الْمُتَشَرِّعَة، إذن سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأخص لا تحتاج فِي حُجِّيَّتُهَا ودلالتها عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إلى ما كانت تحتاج إليه سيرةُ الْعُقَلاَء؛ فإن سيرة الْعُقَلاَء كانت بحاجة إلى ضم قضيتين شرطيتين إليها:
 1)- لو لم يكن الشَّارِع موافقها لها لَرَدَعَ عنها.
 2)- لو رَدَعَ عنها لَوَصَلَ إلينا الرَّدْعُ.
 لكن سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأخص لا تحتاج إلى شيء من هاتين القضيتين الشرطيتين، أي: حتَّى لو لم يؤمن أحدهم بهاتين القضيتين الشرطيتين مع ذلك بِالنِّسْبَةِ لمثل هذا الشخص تَتُِمّ حُجِّيَّة سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأخص؛ لأَنَّ هذه السِّيرَة بغنى عن هاتين القضيتين. أي: أن وجود سيرة الْمُتَشَرِّعَة نفسه فِي زمن الشَّارِع دليل عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، ولا نحتاج أن نَتَمَسَّك القضيتين الشرطيتين؛ لأَنَّنَا فرضنا فِي سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأخص أن سبب سيرتهم عبارة عن التشرع والتدين.
 أَمَّا فِي سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم فليس نفس تكونها وانعقادها ووجودها فِي زمان الشَّارِع دليلاً عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وكاشفاً عن التلقي عن الشَّارِع، فهي ليست بنحو بحيث لا تحتاج حُجِّيَّتُهَا ودلالتها عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إلى ضم شيء آخر إليها؛ لأَنَّ احتمال أَنْ تَكُونَ هذه السِّيرَة معلولة لأمور أخرى غير الشَّرْع موجود؛ فلعل سيرة الْمُتَشَرِّعَة قامت عَلَىٰ هذا الْعَمَل (بطبعهم الْعُقَلاَئِيّ) رغم أن الشَّرْع كان عَلَىٰ خلافها، وقد تَقَدَّمَ من سَيِّدِنَا الأُسْتَاذِ الشَّهِيدِ & فِي البحث عن طرق إثبات المعاصرة لعصر الْمَعْصُوم ×، فِي الطريق الأَوَّل من هذه الطرق فِي إحدى مناقشاته لذاك الطريق( [1] ) أَنَّهُ: قد لا تكون سيرة الْمُتَشَرِّعَة فِي البداية سيرةً لهم بما هم مُتَشَرِّعَة وَإِنَّمَا اتفقوا عليها فِي بداية الأمر فِي أمور أخرى غير الشَّرْع لطبعهم الْعُقَلاَئِيّ مثلاً رغم أن الشَّرْع كان عَلَىٰ خلاف ذلك، فبعضهم عمل بهذه السِّيرَة لأجل الغفلة عن السؤال والاستفسار، وبعضهم عمل بهذه السِّيرَة لأجل النسيان رغم أَنَّهُ ملتفت بشكل عَامّ عَلَىٰ أَنَّهُ يجب عليه أن يستعلم من الشَّارِع، وبعضهم عمل بهذه السِّيرَة جرياً عَلَىٰ الطبع والارتكاز الْعُقَلاَئِيّ وبعضهم عمل بهذه السِّيرَة من باب القصور وآخرون من باب التقصير أو من باب تخيّل أن الشَّارِع يوافقهم وبالنتيجة اتفقوا جميعاً عَلَىٰ هذا الْعَمَل الخارجي، ثُمَّ جاء أبناء هؤلاء ورؤوا أن سيرة آبائهم جرت عَلَىٰ هذا الْعَمَل فتخيّلوا صِحَّةَ هذا الْعَمَل وعملوا عَلَىٰ وفقه واستقرت السِّيرَة عليه، وقد مثّلنا له فِي ذاك الوقت بمسألة معاملة الصبيان.
 إذن، إن احتمال أَنْ تَكُونَ سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم عبارة عن أمور أخرى غير الشَّرْع موجودٌ، وَبِالتَّالِي لا تكون سيرةُ الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم دليلاً عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بنحو كشف المعلول عن علته، وَإِنَّمَا تحتاج هذه السِّيرَةُ إلى أن نضم إليها شيئاً آخر، فهي من هذه الناحية تشبه سيرةَ الْعُقَلاَء، لكن تمتاز عن سيرة الْعُقَلاَء بأن الأخيرة كانت تحتاج إلى ضم قضيتين شرطيتين إليها لكي تَدُلُّ عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ (إحداهما: أن الشَّارِع × لو لم يكن مُوَافِقاً لردع. والثانية: أن الشَّارِع لو كان قد رَدَعَ لَوَصَلَ الردعُ إلينا) بينما سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم لا تحتاج إلى القضية الشَّرْطِيَّة الثَّانية، وَإِنَّمَا تحتاج فقط إلى القضية الشَّرْطِيَّة الأولى، أي: حتَّى لو أن أحداً لم يقبل بالقضية الشَّرْطِيَّة الثَّانية تكفي القضيةُ الأولى فِي تَمَامِيَّة السِّيرَة بالمعنى الأعم؛ لأَنَّنَا نقول حِينَئِذٍ: إن الشَّارِع لو لم يكن رَاضِياً لسيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم لردع عنها، ولو ردع عنها لما كانت هذه السِّيرَة موجودةً بعد ولما كانت تستمر؛ إِذْ المفروض أنهم مُتَشَرِّعَة فكيف يردعهم الشَّارِع عن شيء ويبقون مخالفين للشريعة؟! إذن نفس ثبوتها واستمرارها فِي زمان الشَّارِع دليل عَلَىٰ أن الشَّارِع لم يردع عنها.
 أي: عندنا ثلاث مراتب:
 المرتبة الأولى: مرتبة سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأخص، وهي المرتبة الأقوى؛ لأَنَّهَا لا تحتاج إلى القضية الشَّرْطِيَّة الأولى ولا إلى القضية الشَّرْطِيَّة الثَّانية.
 المرتبة الثَّانية: مرتبة سيرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنى الأعم، فهذه أنزل من الأولى وأقوى من الثَّالثة؛ لأَنَّهَا تحتاج إلى القضية الشَّرْطِيَّة الأولى ولا تحتاج إلى القضية الشَّرْطِيَّة الثَّانية.
 المرتبة الثَّالِثَة: مرتبة سيرة الْعُقَلاَء، وهي الأضعف؛ لكونها بحاجة إلى القضيتين الشرطيتين.
 بعد ذلك سنبين الفوارق - إن شاء الله تعالى - بين سيرة الْمُتَشَرِّعَة وبين سيرة الْعُقَلاَء، والحمد لله رب العالمين.


[1] - راجع الجلسة 53، المناقشة الرَّابِعَة، [ط].