الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/04/20

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: القسم3: السِّيرَة المشرِّعة/السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 انتهينا من الأمور الثَّلاَثة الَّتِي تَتَوَقَّف عَلَىٰ إثباتها حجيةُ السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة ودلالتها عَلَىٰ الحكم الشَّرْعِيّ. ومما ذكرناه تظهر لنا مطالب ثلاثة:
 المطلب الأَوَّل: أن حُجِّيَّةَ السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة مشروطة بشرطين:
 الشَّرْط الأول: أن تكون هذه السِّيرَةُ سيرةً جارية وممتدةً فِي مجال الأحكام الشَّرْعِيَّة، أو عَلَىٰ الأقل تكون فِي معرض الجريان فِي الأحكام الشَّرْعِيَّة، بحيث تُشَكِّلُ خطراً عَلَىٰ أحكام الشَّارِع وأغراضه بِالنَّحْوِ الَّذِي ذكرناه مفصلاً.
 الشَّرْط الثاني: أن هذه السِّيرَة مشروطة بأن لا يصل إلينا الردع عنها أصلاً ولو برواية ضعيفة السند.
 فإذا تَمَّ هذان الشرطان يَتُِمّ الركنُ الثَّانِي من ركني الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ عَلَىٰ الحكم الشَّرْعِيّ والَّذِي أثبتناه من خلال الأمور الثَّلاَثة المتقدمة وهو عبارة عن الملازمة بين السِّيرَة وبين الموقف الشَّرْعِيّ. وهذا الركن خَاصّ بِالسِّيرَةِ الْعُقَلاَئِيَّة الَّتِي تحتاج إلى إمضاء الشَّارِع. وهذا الركن الثَّانِي إِنَّمَا يَتُِمّ إذا تَمَّ هذان الشرطان.
 المطلب الثَّانِي: هو أن العبرة إِنَّمَا هي بِالسِّيرَةِ المعاصرة للشارع وَالَّتِي هي الركن الأَوَّل من ركني الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ وقد تَقَدَّمَ الكلامُ عنها مفصلاً، وهي شرط وركنٌ فِي كُلّ سيرة (خِلاَفاً للركن الثَّانِي الَّذِي كان خاصاً بِالسِّيرَةِ الْعُقَلاَئِيَّة).
 أَمَّا سيرة الْمُتَشَرِّعَة فالسبب فِي اشتراط معاصرتها لزمن الشَّارِع واضح؛ ذلك لأن استكشاف الحكم الشَّرْعِيّ من السِّيرَة الْمُتَشَرِّعَة كان من باب استكشاف العلة من المعلول (ما يشبه برهان الإنّ) حيث قلنا إن الْمُتَشَرِّعَة (بما هم مُتَشَرِّعَة لا بما هم عقلاء) عندما تنعقد سيرتهم عَلَىٰ شيء فإما تكون هذه السِّيرَةُ ناشئةً من الغفلة أو ناشئة من الاستماع من الشَّارِع، فَيَتَعَيَّنُ أن السِّيرَة متلقاة من الشَّارِع.
 إذن السِّيرَة الْمُتَشَرِّعَة المتأخرة عن عصر المعصومين ^ لا يمكن لأصحاب هذه السِّيرَة أن يستمعوا من الإمام - عليه السلام -، وسيرة مماثلة تحتاج إلى أحد التفسيرين (إما الغفلة وَإِمَّا الاستماع من الفقهاء) وكلاهما لا يكشفان عن رأي الشَّارِع.
 إذن، المعاصرة شرط أساسي فِي كُلّ سيرة سَوَاء السِّيرَة الْمُتَشَرِّعَة أم سيرة الْعُقَلاَء.
 لا يقال: لو لم يرض الْمَعْصُوم - عليه السلام - فِي زمن الحضور بهذه السِّيرَة الموجودة اليوم لردع عنها؛ إذ أَنَّهُ يعلم أن هكذا سيرة سوف تحدث بعد ألف سنة، وحيث لم يردع عنها فسكوته وعدم ردعه دليل عَلَىٰ إمضائه لِكُلّ ما يحدث بعده وفي زمان غيبته من السِّيَرِ.
 إذ نقول: صحيح أن الْمَعْصُوم - عليه السلام - يعلم بما يحدث وما يكون لكن الأئمة ^ ليسوا مكلفين بأن يحفظوا أغراض المولى تبارك وتعالى بالطرق غير الاعتيادية، بل ليسوا مكلفين بحفظ أنفسهم بتلك الطرق غير الاعتيادية.
 المطلب الثَّالِث: فِي الفارق بين مسلكنا فِي إثبات حُجِّيَّة السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة وبين مسلك الشيخ المحقق الإِصْفِهَانِيّ - رحمه الله - فِي حاشيته عَلَىٰ الكفاية( [1] ) حيث يظهر من كلامه - رحمه الله - أن حُجِّيَّة السِّيرَة لا تحتاج إلى إحراز عدم الردع عنها مِنْ قِبَلِ الشَّارِع، بل يكفي فِي حُجِّيَّة السِّيرَة عدم إحراز الردع.
 وهذه نقطة مهمة نختلف فيها عن مسلكه - رحمه الله -، ومن هنا كنّا نفتّش عن الطريق الَّذِي نحرز به عدم الردع وهو عبارة عن القضية الشَّرْطِيَّة الثَّانية الَّتِي ذكرناها بأنه «لو ردع لوصل»، والتالي باطل؛ لأنه لم يصلنا فِي رواياتنا، فالمقدَّم أَيْضاً باطل وهو أَنَّهُ ردع. ومن هنا قلنا «لو وصلنا الردع بخبر ضعيف تسقط السِّيرَة عن الْحُجِّيَّة».
 واستدل المحقق الإِصْفِهَانِيّ - رحمه الله - عَلَىٰ ذلك بأن للشارع حيثيتين:
 الْحَيْثِيَّة الأولى: حيثية كونه أحد الْعُقَلاَء بل سيد الْعُقَلاَء ورئيسهم.
 الْحَيْثِيَّة الثَّانية: حيثية كونه شارعاً ومشرِّعاً لدين مُعَيَّنٍ، وهذه ميزة يمتاز بها من الْعُقَلاَء.
 وَحِينَئِذٍ إن انعقدت سيرةٌ عُقَلاَئِيَّة عَلَىٰ أمر من الأمور، فنحن نحرز أن الشَّارِع بلحاظ الْحَيْثِيَّة الأولى حاله ومسلكه حال ومسلك سائر الْعُقَلاَء، وَإلاَّ لزم منه خلف عُقَلاَئِيَّة الشَّارِع أو خلف عُقَلاَئِيَّة السِّيرَة، وكلاهما خطأ.
 يبقى أننا لا ندري أن الشَّارِع بلحاظ حيثيته الثَّانية هل يتطابق حاله مع حاله بلحاظ الْحَيْثِيَّة الأولى أم لا؟
 بعبارة أخرى: حيثية كونه مشرعاً هل تمنع عن أَنْ يَكُونُ مُوَافِقاً للعقلاء فِي مسلكهم وموقفهم أو لا؟ وَحِينَئِذٍ نحتمل أَنَّ له حالة أخرى بلحاظ كونه مشرعاً لدين تنافي حيثيتَهُ الأولى، وهذا مجرد احتمال ولا يمكن رفع اليد عَمَّا أحرزناه من الشَّارِع (وهو الموافقة للعقلاء بلحاظ حيثيته الأولى) لمجرد احتمال أن له حالة أخرى (حالة مشرِّعِيَّتِه) تنافيها. نعم، لو دَلَّ دليل عَلَىٰ هذه الحالة الأخرى (كما إذا دَلَّ دليل عَلَىٰ الردع) فَحِينَئِذٍ نأخذ به.
 هذا هو حاصل كلام المحقق الإِصْفِهَانِيّ - رحمه الله -.
 إلا أن هذا الكلام غير تَامّ وذلك لما أورده عليه سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ - رحمه الله - من إيرادات أربعة:
 أوَّلاً: السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة ليست دائمة مُبْتَنِيَة عَلَىٰ نكتة ثابتة عند الْعُقَلاَء ومدرَكة من قبلهم بقريحتهم العامة، فقد تكون السِّيرَة مبتنية عَلَىٰ غرضٍ شخصي تطابق الْعُقَلاَء فِيه صدفةً، وَحِينَئِذٍ من المحتمل أن لا تكون حالة الشَّارِع مطابقة فِي ذلك لحالتهم، حتَّى فِي حيثيته الأولى.
 توضيح ذلك أن السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة عَلَىٰ قسمين:
 القسم الأَوَّل: أن يتفق الْعُقَلاَء فِي سلوكهم عَلَىٰ شيء إيماناً منهم (ولو ارتكازاً) بنكتة عَامَّة موجودة فِي قريحة جميع الْعُقَلاَء، بحيث يعرف الْعُقَلاَء نكتةَ هذه السِّيرَة ويعتبرون نكتتها واضحةً، والمفروض أَنْ تَكُونَ مدرَكة عند جميع الْعُقَلاَء، بحيث لَوْ شَذَّ أحدُ الْعُقَلاَء عن هذه السِّيرَة كان مورداً للملامة مِنْ قِبَلِ الْعُقَلاَء أو عَلَىٰ أقل تقدير يكون مورداً للاستغراب.
 ومواردها كثيرة فِي الفقه، كسيرة الْعُقَلاَء عَلَىٰ التملك فِي المنقولات بالحيازة، فهذه السِّيرَة قامت عند الْعُقَلاَء عَلَىٰ أن من حاز شَيْئاً من المنقولات فَسَوْفَ يكون مالكاً لها ولا يحق لأحد أن يعارضه فِي سلطنته هذه؛ وذلك لنكتةٍ أدركوها عمومهم وهي نكتة نظامهم الاقتصادي.
 وللكلام تتمة تأتي غداً إن شاء الله تعالى.


[1] - الإِصْفِهَانِيّ، نهاية الدراية: ج3، ص248-251.