الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/04/17

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: القسم3: السِّيرَة المشرِّعة/السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 الإشكال هو أن ما قلتموه من أن سكوت الْمَعْصُوم يَدُلّ عَلَىٰ الإمضاء عَلَىٰ أساس العقل أو عَلَىٰ أساس ظاهر الحال، لا يَتُِمّ ولا ينطبق عَلَىٰ هذا النَّحْو مِنَ السِّيرَةِ (= الأصولية)؛ ذلك لأن سيرة الْعُقَلاَء عَلَىٰ أمارةٍ معينة كقول اللغوي مثلاً لها مجالان أو حقلان:
 الحقل الأَوَّل: مجال الأغراض التكوينية الشخصية.
 الحقل الثَّانِي: مجال الأغراض التشريعية.
 أَمَّا الحقل الأَوَّل فمعناه أن سيرة الْعُقَلاَء قائمة عَلَىٰ أن يعملوا بقول اللغوي فِي مقام تحصيل الشخص لأغراضه الشخصية التكوينية، أي: الأغراض الَّتِي هو شخصياً يسعى لتكوينها؛ فَإِنَّ العاقل إذا كان لديه غرض عقلائي كما إذا كان لديه غرض فِي فهم كلمةٍ معينة حين تأليفه لكتابٍ مثلاً، فيرجع إلى قول اللغوي لتحديد معنى الكلمة فِي سبيل تحصيل غرضه الشخصي التكويني وهو تأليف هذا الكتاب. فالعاقل يعمل بقول اللغوي فِي هذا المجال، ويرتِّب الأثرَ عَلَىٰ الظن الحاصل لديه من قول اللغوي. ومعنى ترتب الأثر هو أَنَّهُ يستخدم هذه الكلمة فِي كُلّ مورد يريد فيه ذاك المعنى فِي كتابه.
 أَمَّا الحقل الثَّانِي فهو مجال تحصيل الأغراض التشريعية؛ وذلك بأن يأمر الإنسانُ شخصاً آخر بأن يقوم بتحصيل غرضه. هنا أَيْضاً توجد سيرة عند الْعُقَلاَء عَلَىٰ الْعَمَل بقول اللغوي مثلاً، بأن العبد العرفيّ حينما يسمع من مولاه «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» ولا يعرف هل أن كلمة «العالم» يشمل من انقضى عنه العلم أو لا، فيراجع اللُّغَوِيَّ ليرى أن كلمة «العالم» تشمل الإنسانَ الَّذِي انقضى عنه المبدأ أم لا؟ فتكون شهادة اللغوي حجةً عليه. أَيْ: أَن هذه الشهادة تُنجِّزُ وجوبَ الإكرامِ عَلَىٰ هذا العالم الَّذِي كان عالماً ونسي علمَه، وهذا معناه أَنَّهُ عوَّل عَلَىٰ قول اللغوي فِي مقام تحصيل غرضه التشريعي الَّذِي كُلِّف به.
 والْحَاصِلُ أَنَّ الحقل الثَّانِي هو حقل تحصيل الْعُقَلاَء أغراضَهم التشريعية الَّتِي يُكلفون الآخرين بتحقيقها وتحصيلها، أي: المجال الَّذِي يوجد فيها آمر ومأمور وحجة ومنجز ومعذِّر. فهذان مجالان وحقلان لسيرة الْعُقَلاَء عَلَىٰ الْعَمَل بأي أمارة من الأمارات.
 وَحِينَئِذٍ يقول صاحب الإشكال: إنكم تريدون الاِسْتِدْلاِلَ بسيرة الْعُقَلاَء فِي المجال الأَوَّل أو فِي المجال الثَّانِي؟ فإن أردتم الاِسْتِدْلاِل بها فِي المجال الأَوَّل (بأن تقولوا: بما أن الْعُقَلاَء يعملون بالأمارة فِي سبيل تحصيل أغراضهم التكوينية والشارع سكت ولم يردع فهذا معناه حُجِّيَّة الأمارة شَرْعاً) فهذا الكلام غير تَامّ؛ لأَنَّ سيرة الْعُقَلاَء القائمة عَلَىٰ الْعَمَل بخبر الثِّقَة أو بقول اللغوي أو بأية أمارة من تلك الأمارات فِي مجال الأغراض الشخصية التكوينية ليس سيرةً عَلَىٰ الْحُجِّيَّة بمعناها الأُصُولِيّ؛ فَإِنَّ معنى الْحُجِّيَّةِ أصولياً هو الْمُنَجِّزِيَّة وَالْمُعَذِّرِيَّة، ولا توجد الْحُجِّيَّة بهذا المعنى فِي الحقل الأَوَّل، بل يوجد ترتب الأثر عَلَىٰ القول اللغوي وذلك إذا كان هناك غرض عقلائي مترتب عليه لفهم معنى الكلمة الفلانية؛ فترتيب الأثر عَلَىٰ قول اللغوي لَيْسَ حُجِّيَّةً لقول اللغوي بمعناها الأُصُولِيّ، كما تَقَدَّمَ فِي القطع حيث قلنا إن العطشان إذا قطع بوجود الماء فِي مكان مّا يرتِّب الأثرَ عَلَىٰ قطعه بالذهاب إلى الماء ليرتوي منه. ولَيْسَ معنى ذلك حُجِّيَّة القطع بمعناها الأُصُولِيّ.
 وإن كان المقصود هو الثَّانِي (فِي مجال تحصيل الأغراض التشريعية) فمعنى الْحُجِّيَّة متطابق مع ما نريده، لكنَّ سكوتَ الْمَعْصُوم هنا لا يَدُلّ عَلَىٰ إمضائه لِلسِّيرَةِ، لا عَلَىٰ أساس العقل ولا عَلَىٰ أساس الاستظهار؛ فَإِنَّ جعلَ الْعُقَلاَء الأمارةَ حجةً بينهم وبين مأموريهم لا يفرض عَلَىٰ الشَّارِع (إذا كان لا يرتضي ولا يقرّ بهذا السلوك) أن يجعلها حجةً بينه وبين مأموريه؛ فَإِنَّ الشَّارِع إذا لم يكن راضياً فعليه أن يردع عن سيرةٍ يراها وتمسّه، أَمَّا هذه السِّيرَةُ فلا تمس الشَّارِعَ (كالقياس الَّذِي يمس الشَّارِع أو كالاستحسان)؛ فإن الْعُقَلاَء لم يقرروا أَنْ يَكُونُ خَبَر الثِّقَةِ حُجةً بين الشَّارِع وببين مأموريه، وَإِنَّمَا جعلوه حجةً بينهم وبين مأموريهم، لا أَنْ تَكُونَ سيرة الْعُقَلاَء منعقدة فِي أن خَبَر الثِّقَةِ حجة بين الشَّارِع وبين مأموريه.
 إن قلت: لماذا تفترضون أن ضيق سيرة الْعُقَلاَء فِي أن كُلّ آمرٍ يجعل الأمارة حجةً بينه وبين مأموريه؟ فإن بإمكاننا أن نفترضها واسعةً تشمل كُلَّ آمر ومأمور بما فيهم الشَّارِع، وَحِينَئِذٍ إذا لم يردع الشَّارِع عنها (لأن المفروض به أن يردع عنها إن لم يكن يرتضي بها) فَسَوْفَ يَدُلّ سكوته عَلَىٰ الإمضاء عَلَىٰ الأساسين.
 قلت: لا معنى لأَنْ نفترضَ أَنَّ سيرة الْعُقَلاَء انعقدت عَلَىٰ أَنْ يَكُونُ شيئاً ما كخبر الثِّقَة أو قول اللغوي أو أية أمارة أخرى حجةً بين كُلّ آمر مع مأموريه؛ فَإِنَّ كون شيءٍ حجةً بالمعنى الأُصُولِيّ (أي: مُعَذِّراً وَمُنَجِّزاً) هذا قرار يتخذهُ الآمر، ولا يُعقل لغير الآمر أن يتخذ هكذا قرار.
 هذا حاصل هذا الإشكال فِي تطبيق ما قلناه عَلَىٰ السِّيرَة الأصولية ويأتي الجواب عنه - إن شاء الله تعالى - غداً.