الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/04/11

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 أَمَّا سيرةُ الْمُتَشَرِّعَة، فإن ثبتت لدينا من خلال أحد الطرق المتقدم ذكرُها فِي البحث عن الركن الأَوَّل × فهي تكشف عَنِ الْحُكْمِ والموقف الشَّرْعِيِّ وَتَدُلُّ عَلَىٰ قبول الشَّارِعِ لمضمونها من بابٍ يُشبه باب البرهان الإنّي وكشف المعلول عن علّته ودلالته عليها.
 توضيح ذلك: أننا نتكلم عن الْمُتَشَرِّعَة المعاصرين للأئمة ^ الَّذِين أُتيح لهم تلقّي الأحكام والمعارف الشَّرْعِيَّة من الأئمة بطريق الحسّ أو بطريق قريب من الحسّ، فمفروض الكلام إذن عبارة عن سيرة أصحاب الأئمة ^ الذين كانت ظروفهم تجعلهم مؤهَّلين لأخذ الحكم من الإمام عليه السلام وكانوا متمكّنين من تحصيل العلم بالحكم الشَّرْعِيّ بشكل حسّي أو قريب من الحسّ وذلك بالسؤال من الإمام ×، وهم جلّ المتفقّهة والفقهاء المعاصرين للأئمة ^ والناقلين لآثارهم.
 وَأَمَّا فقهاء عصر الغيبة الَّذِي كان تلقّيهم للأحكام وعلمهم بها مبنياً عَلَىٰ الحدس وإعمال النَّظَر وكانوا - ولا يزالون - يعتمدون الاجتهاد والاستنباط عادةً فِي فهم الحكم الشَّرْعِيّ دون الحس أو ما هو قريب من الحس؛ فَإِنَّ سيرتهم ليست عبارة عمّا هو محل الكلام من سيرة الْمُتَشَرِّعَة، وَإِنَّمَا سيرتهم وتطابق آرائهم وفتاواهم عَلَىٰ حكمٍ من الأحكام عبارة عمّا نسمّيه بـ>الإجماع< فِي الفتوى القائمة عَلَىٰ أساس الحدس لا الحسّ، وهذا ما سوف يأتي البحث والحديث عنه وعن حجيّته وكاشفيّته عن الدَّلِيل الشَّرْعِيّ بصورة مستقلة فِي غير هذا المقام - إن شاء الله تعالى - وَإِنَّمَا كلامها الآن فِي سيرة الطبقات الذين كانوا قبل هؤلاء وهم الذين كانو يتيسّر لهم معرفة الحكم الشَّرْعِيّ بالرجوع إلى الْمَعْصُوم × مباشرةً أو بواسطة قريبة بحيث تصل إلى درجة يكون الإطلاع فيها عَلَىٰ الحكم حسّيّاً أو قريباً من الحسّ، حيث كانوا يعاشرون الأئمة وأصحابهم ويتكلمون معهم ومع أصحابهم فِي مختلف المسائل؛ فهؤلاء إذا ثبت لنا (بأحد الطرق الَّتِي ذكرناها فِي البحث عن الركن الأَوَّل) أن سيرتهم كانت منعقدة عَلَىٰ شيء معيّن وأنهم كانوا متطابقين عَلَىٰ سلوكٍ خَاصّ بما هم مُتَشَرِّعَةٌ، كالجهر فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة، أو الاكتفاء بالمسح ببعض الْكَفّ فِي الوضوء، فَسَوْفَ يكشف سلوكهم هذا لا محالة عن تلقّيهم حكم ذاك السلوك من الشَّارِع وعن استناد موقفهم الْعَمَلِيّ هذا إلى الإمام ×، كما يكشف المعلول عن علّته؛ وَذَلِكَ لأَنَّ احتمال تلقّيهم هذه السِّيرَة من أذواقٍ اجتماعيةٍ واستناد موقفهم الْعَمَلِيّ هذا إلى نكاتٍ عُقَلاَئِيَّة غير وارد حسب الفرض؛ لأَنَّ المفروض أن السِّيرَة انعقدت فِي مسألة شرعية بحتة وأنهم سلكوا هذا السلوك بما هم مُتَشَرِّعَة لا بما هم عقلاء.
 وَحِينَئِذٍ، فلو فُرض أن سلوكهم هذا لم يكن مستنداً إلى الشَّارِع وموافقاً للشرع وكان مِمَّا لا يرضى به الشَّارِع ولا يقبل به (بأن كان الجهر فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة مثلاً غير جائز واقعاً، أو كان المسح ببعض الْكَفّ فِي الوضوء غير مُجزٍ واقعاً) لكن هؤلاء كانوا متفقين عملاً عَلَىٰ هذا السلوك فيجهرون فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة ويكتفون بالمسح ببعض الْكَفّ فِي الوضوء. فهذا معناه أن عدداً كبيراً من النَّاس أخطئوا أو أغفلوا فِي قَضِيَّة هي حسّية بطبيعتها أو قريبة من الحسّ (حسب الفرض)؛ لأَنَّ هذا المتشرع الَّذِي يجهر مثلاً فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة والحال أن الجهر غير جائز شَرْعاً، أو يكتفي مثلاً بالمسح ببعض الْكَفّ فِي الوضوء والحال أن المسح لاَ بُدَّ من أَنْ يَكُونُ بِتَمَامِ الْكَفِّ، إما أَنْ يَكُونُ قد غفل عن أصل الفحص والسؤال عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي المسألة فأقدم عَلَىٰ الجهر أو عَلَىٰ المسح ببعض الْكَفّ ولو ذهولاً عن أن عمله هذا خلاف الشرع، وَإِمَّا أَنَّهُ قد فَحَص لٰكِنَّ فحصه لم يكن تامّاً وغَفَل هو عن أَنَّهُ لم يستوف الفحص المطلوب فَتَسَرَّع عملاً وأقدم عَلَىٰ الجهر أو عَلَىٰ المسح ببعض الْكَفّ، وَإِمَّا أَنَّهُ قد فحص فحصا تاماً واستوفى الفحص المطلوب وسألَ الإمام × عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي المسألة وأجابه الإمام ×، لٰكِنَّهُ غفل عن فهم ظاهر كلام الإمام × وأخطأ فِي فهمه.
 وكل هذه غفلات، وهي وإن كانت محتملة فِي شخصٍ واحد، فيعقل أن يغفل شخص واحد عن الفحص والسؤال أو عن استيفاء الفحص أو عن فهم الجواب، لكن احتمال وقوع شخصين فِي الغفلة والخطأ أبعد من احتمال وقوع شخص واحد فيها بحسب حساب الاحتمال، فكيف باحتمال وقوع أكثر من شخصين فيها، وكيف باحتمال وقوع الجميع أو جمع غفير فِي الغفلة؟ فإن هذا الاحتمال يصل بحسب حساب الاحتمال إلى درجة الانعدام ويزول من النفس طبقاً لقوانين الاستقراء وأسسه المنطقية.
 ثُمَّ لنفرض أنهم جميعاً قد غفلوا، لكن كيف أصبحت نتيجة كُلّ هذه الغفلات نتيجة واحدة متفقاً عليها متمثّلة بهذا السلوك الجماعي الَّذِي اتفقوا عليه (وهو الجهر والمسح ببعض الْكَفّ)؟ فلماذا أجهر هذا الَّذِي غفل عن الفحص والسؤال، وأجهر أَيْضاً ذاك الثَّانِي الَّذِي غفل هو أَيْضاً عن الفحص والسؤال، وأجهر أَيْضاً ذاك الثَّالِث الَّذِي غَفَل هو أَيْضاً عن الفحص والسؤال؟ وهكذا الرَّابِع و... فلماذا لم يُخفت بعض هؤلاء الغافلين أو لم يسمح بِتَمَامِ الْكَفِّ؟
 إن تطابق هذه الغفلات عَلَىٰ نتيجة واحدة متفق عليها وإنتاج هذه الأخطاء كُلّهَا أمراً واحداً بعيدٌ جِدّاً بحسب حساب الاحتمال.
 إذن، فافتراض اتفاق الْمُتَشَرِّعَة عملا عَلَىٰ شيء خطأً وغفلةً مساوق لافتراض غفلة الجميع أو جمع غفير فِي الحسّ أو فِي ما يقرب من الحسّ، وهذا ما لا نحتمله.
 وعليه، فإذا ثبت لنا انعقاد السِّيرَة مِنْ قِبَلِ هؤلاء الذين يكون خطؤهم فِي الحسّ أو فِي ما يقرب منه، فلا إشكال فِي أن سيرتهم تكشف عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، حيث نجزم بأن سلوكهم هذا ناشئ من تلقّي حكمه من الْمَعْصُوم ×.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّ اتفاق هؤلاء الجماعة عَلَىٰ الغفلة عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لسلوكهم بعيدٌ بحساب الاحتمالات الناتج من ضرب قيمة احتمال ثبوت عامل الغفلة (كالغفلة عن الفحص والسؤال) فِي حق أي وااحد منهم فِي قيمة احتمال ثبوت نفس ذاك العامل فِي الشخص الآخر. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الاحتمال يضعف بالتدريج بسبب الضرب إلى أن يصبح موهوماً؛ لأَنَّ القيم الاحتمالية كسور، والكسور تنزل بالضرب.
 وقد حقق سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فِي بحث المنطق الذاتي فِي كتابه القيم >الأسس المنطقية للاستقراء< أن الاحتمال الموهوم يزول من النفس تلقائياً وفق شروط معينة، فيحص القطع بعدم اجتماعهم عَلَىٰ الغفلة بعد أن كان احتمال اجتماعهم عَلَىٰ الغفلة أوهن من أي احتمال آخر فِي المقام (كاحتمال غفلة واحدٍ فقط وانتباه الآخرين، واحتمال غفلة اثنين فقط وانتباه الآخرين، واحتمال غفلة ثلاثة فقط وانتباه الباقين، وهكذا... إلى أن نصل إلى احتمال انتباه الجميع. وسبب الأوهنية هو أن الغفلات العديدة بحاجة إلى عوامل وعلل عديدة، بينما الانتباهات العديدة تكفي فيها عِلَّة واحدة عَامَّة تقتضي التفات الجميع (كصدور الحكم من الشَّارِع فِي المقام)، فلا يجري فِي جانب الانتباه الحساب الَّذِي أجريناه فِي جانب الغفلة.
 هذا، مُضَافاً إلى أننا حتَّى لو فرضنا عدم زوال هذا الاحتمال الموهوم فلا شك فِي حصول الاطمئنان بخلافه، والاطمئنان حجة.
 لا يقال: إن الاطمئنان لَيْسَ بِحُجَّةٍ بدليل لفظي، وَإِنَّمَا هو حجة بِالسِّيرَةِ الْعُقَلاَئِيَّة.
 فَإِنَّهُ يقال: إن الاطمئنان حجة بحكم العقل الْعَمَلِيّ؛ فَإِنَّ ما كنّا نحتمله فِي باب الظُّهُور من حُجِّيَّتُه الذاتية عقلاً تنجيزاً وتعذيراً قد نقول به بنحو الجزم فِي باب الاطمئنان، كما نقول بذلك فِي باب القطع، بمعنى أن حق الطاعة الثابت عقلاً للمولى علينا كما يشمل حالة القطع بالتكليف، كذلك يشمل حالة الاطمئنان به، وكما لا يشمل حق الطاعة حالة القطع بعدم التكليف، كذلك لا يشمل حالة الاطمئنان بعدمه؛ فَإِنَّ هذه الدعوى إن صحَّت وتمّت لم نكن حِينَئِذٍ بحاجة إلى تعبد شرعي للعمل بالاطمئنان كي نحتاج إلى إثبات هذا التعبد من خلال السِّيرَة؛ لأَنَّ الاطمئنان بناءً عَلَىٰ هذه الدعوى حجة ذاتاً، بمعنى عدم حاجته إلى جعل الْحُجِّيَّة له تعبّداً مِنْ قِبَلِ الشَّارِع، فهو كالقطع، مع فارق واحد وهو >إمكان الردع عن الْعَمَل بالاطمئنان مع عدم إمكانه فِي القطع< كما تَقَدَّمَ فِي مباحث القطع.