الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/04/07

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 ولا بأس بأن نشير (قبل الدخول فِي البحث عن الركن الثَّانِي) إلى مدى إمكان الاعتماد (فِي حُجِّيَّة الأمارات) عَلَىٰ هذه الدعوى القائلة بإرجاع السِّيرَة فِي باب الأمارات إلى حكم العقل الْعَمَلِيّ، فنقول: إن تمّت هذه الدعوى وخلت عَمَّا سيأتي - إن شاء الله - من شائبة الإشكال، يبقى الكلام فِي كفايتها لإثبات المقصود (أي: الْحُجِّيَّة فِي باب الأمارات)؛ وذلك لأننا لو سلمنا أن العقل الْعَمَلِيّ أدرك أن من حق المولى عَلَىٰ العبد أن يعمل بمقاصده ويمتثل أحكامه الَّتِي تصل إليه من خلال الأمارة (كظهور كلام المولى أو خَبَر الثِّقَةِ مثلاً) ما لم يردع المولى عن ذلك، لكن مع ذلك نقول: إنَّ هذا الحكم مِنْ قِبَلِ العقل لا يصلح لأن يكون حاكماً عَلَىٰ أدلة الأُصُول أو مخصّصاً لها؛ إذ لَيْسَ حكماً مجعولاً مِنْ قِبَلِ الشَّارِع، فهو لَيْسَ كما لو جعل المولى الظُّهُورَ أو خَبَر الثِّقَةِ حجةً كي يقال: إِنَّهُ حاكم أو مخصّص لدليل أصالة البراءة (مثل حديث الرفع: «رُفع ما لا يعملون

») أو لدليل أصالة الحل (مثل قوله عليه السلام: «كُلّ شيء لك حلال حتَّى تعلم أَنَّهُ حرام

» وَإِنَّمَا هو حكم مِنْ قِبَلِ العقل الْعَمَلِيّ الَّذِي أدرك حُجِّيَّة الظُّهُور أو حُجِّيَّة خَبَر الثِّقَةِ. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ إطلاق مثل دليل أصالة البراءة من قبيل حديث الرفع بنفسه ظهور مشمول لهذا الحكم العقلي، وهذا الإِطْلاَق يَدُلّ عَلَىٰ عدم اهتمام الْمَوْلَى بأغراضه المشكوكة الَّتِي تَدُلُّ عليها كلماتُه أو الَّتِي تَدُلُّ عليها أخبارُ الثقات. أَيْ: أَن هذا الإِطْلاَق يَدُلّ عَلَىٰ نفي حُجِّيَّة تلك الظَّوَاهِر والأخبارِ، فلم يثبت المقصود وهو الْحُجِّيَّة فِي باب الأمارات (أي: الظواهر وأخبار الآحاد)؛ لأَنَّ إطلاق أدلة الأُصُول كأصالة البراءة ونحوها يَدُلّ عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة هذه الأمارات.
 نعم، هذا الإشكال إِنَّمَا يكون فيما إذا لم يكن هناك مانع عن جريان الأُصُول مثل أصالة البراءة ونحوها، كالعلم الإجمالي بوجود الأحكام مثلاً؛ فَإِنَّهُ مع فرض وجود هذا العلم الإجمالي لا تجري الأُصُول المؤمّنة، فلا بد من فرض الكلام فيه بعد فرض انحلال العلم الإجمالي المذكور بشكل من الأشكال.
 ويمكن دفع هذا الإشكال فِي خصوص باب الظواهر بدعوى أن ظاهر قوله «رُفع ما لا يعلمون

» بحسب الفهم العرفيّ هو رفع ما لا يُعلم من ظواهر خطاب المولى، فيكون وصول كلام المولى الظاهر فِي حكم إلزامي داخلاً فِي مصاديق الغاية (أي: «ما يعلمون

») عُرْفاً.
 لكن هذه الدعوى لا مجال لها بِالنِّسْبَةِ إلى خَبَر الثِّقَةِ بأن يقال: إن الغاية تشمل عُرْفاً وصول خَبَر الثِّقَةِ الدَّال عَلَىٰ حكم إلزامي.
 نعم، لا يبعد القول( [1] ) بأن وضوح بطلان هذه الدعوى فِي خَبَر الثِّقَةِ نابع من وضوح بطلان أصل دعوى الْحُجِّيَّة الذاتية لخبر الثِّقَة بالمعنى الَّذِي ذكرناه للحجية الذاتية، وَإلاَّ فبقدر ما يميل الإنسان إلى دعوى الْحُجِّيَّة الذاتية لطريق من طرق إيصال مقاصد المولى وأحكامه (كالظهور وخبر الثِّقَة وغيرهما من الأمارات) ويميل إلى دعوى شدّة رسوخ الْحُجِّيَّة الْعُقَلاَئِيَّة لطريق من هذه الطرق، تقوى الذِّهْن دعوى انصراف الغاية فِي «رُفع ما لا يعلمون

» إلى ما يشمل العلم بذاك الطريق؛ فَإِنَّ نكتة الانصراف إِنَّمَا هي كون هذا الطريق طَرِيقاً ذاتياً إلى مقاصد المولى وأحكامه، أو كونه طَرِيقاً عُقَلاَئِيّاً راسخاً فِي غاية الوضوح والرسوخ.
 إذن، فالفرق الأصلي بين باب الظُّهُور وباب خَبَر الثِّقَةِ لَيْسَ هو فِي دعوى كون وصوله مِصْدَاقاً للغاية وعدمه، وَإِنَّمَا هو فِي مدى وضوح دعوى الْحُجِّيَّة الذاتية، فلو افترضنا أن دعوى الْحُجِّيَّة الذاتية لخبر الثِّقَة واضحة كوضوح دعوى الْحُجِّيَّة الذاتية للظهور، لم يبق فرق بين الظُّهُور وخبر الثِّقَة، فَتَتُِمُّ دعوى انصراف الغاية فِي «رُفع ما لا يعلمون

» إلى ما يشمل وصول خَبَر الثِّقَةِ الدَّال عَلَىٰ حكم إلزامي، كما تَتُِمّ دعوى انصرافها إلى ما يشمل وصول كلام المولى الظاهر فِي حكم إلزامي.
 والواقع أن أصل دعوى حكم العقل الْعَمَلِيّ بالحجية الذاتية لظهور كلام المولى وبشكل عَامّ الدعوى القائلة بإرجاع السِّيرَة فِي باب الأمارات إلى حكم العقل الْعَمَلِيّ لا تخلو من شائبة الإشكال (الَّتِي وعدنا قبل قليل بذكرها)، ووجه الإشكال فِي كُلّ دعوى من هذا القبيل هو أننا وإن كنّا ندرك مثل هذا الحكم ونحس به بشكل واضح، وهو أن الإنسان الَّذِي يخالف ظهور كلام المولى ولا يعمل به يستحق العقاب، والَّذِي يعمل بظاهر كلام المولى يكون قد أدّى إليه حقه، ولكن لا سبيل لنا إلى إثبات أن هذا من مدركات العقل الْعَمَلِيّ المجرد عن الشوائب والخصوصيات؛ إذ نحتمل أن ما جعلنا نشعر بقبح مخالفة ظاهر كلام المولى عبارة عن قوة العقل الْعَمَلِيّ منضمّة إلى ارتكاز حُجِّيَّة الظُّهُور فِي أذهان الْعُقَلاَء ارتكازاً عميقاً طويلاً فِي تأريخ البشرية وقيام سيرتهم عَلَىٰ ذلك.
 نعم، هذه الدعوى (أي: دعوى رجوع ذلك إلى حكم العقل الْعَمَلِيّ) تؤيّد وتؤكّد حُجِّيَّة الظُّهُور.
 وإن شئت قلت: إن هذا الحكم إما عَقْلِيّ صرف أو لا، فإن كان الأَوَّل فقد ثبتت حُجِّيَّة الظُّهُور، وَإلاَّ فهو من نتائج ارتكاز جعل الْحُجِّيَّة فِي أذهان الْعُقَلاَء، الَّذِي أصبح بدرجة من الوضوح بحيث يتخيّل كونه عقليّاً صرفاً.
 هذا تمام الكلام فِي الركن الأَوَّل من ركني الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وهو إثبات معاصرة السِّيرَة لحضور الْمَعْصُوم عليه السلام.
 وبعبارة أخرى: كيف نستكشف الموقف الملائم المتخذ مِنْ قِبَلِ الشَّارِع تجاهها والكاشف عن الإمضاء والتقرير؟
 والجواب هو أن هذه الْكَاشِفِيَّة يختلفُ برهانُها فِي سيرةِ الْمُتَشَرِّعَةِ عنه فِي سيرةِ الْعُقَلاَء؛ فصيغةُ استكشافِ رأيِ الشَّارِعِ وموقفهِ الملائمِ الكاشفِ عن الإمضاءِ والتقريرِ تختلفُ فِي سيرةِ أصحابِ الأئمةِ عليهم السلام والمتشرعة المعاصرين لهم عنها فِي سيرة الْعُقَلاَء؛ وَذَلِكَ لأَنَّ أصحاب الأئمة عليهم السلام والمتشرعين المعاصرين لهم توجد فيهم حيثيتان:
 الأولى: حيثية كونهم من العرف والعقلاء وتتحكّم فيهم أذواق العرف والعقلاء وارتكازاتهم ومواقفهم.
 الثَّانية: حيثية كونهم مُتَشَرِّعَةً يأخذونَ الشرعَ والأحكامَ الدينيةَ من الشَّارِعِ ويطبّقونَ هذه الأحكامِ فِي حياتهم، فيما لا ربطَ له بالعقلاء ومواقفهم.
 وَحِينَئِذٍ فإذا صدر منهم سلوك لا ربط له بالأذواق الْعُقَلاَئِيَّة، بل هو مربوط بالجانب التَّعَبُّدِيّ الشَّرْعِيّ، فهذا معناه أن هذا السلوك صادر منهم بما هم متشرعة، كما إذا انعقدت سيرتهم مثلاً عَلَىٰ الجهر فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة؛ فَإِنَّ هذا السلوك سلوك تَعَبُّدِيّ لا ربط له بالعقلاء ومواقفهم وأذواقهم؛ لأَنَّ الْعُقَلاَء لا بشرطٍ من هذه الناحية. إذن، فهذا السلوك صدر منهم بما هم متشرعة، ويستندون فِي انعقاد سيرتهم عليه إلى الشَّارِع.
 أَمَّا إذا صَدَرَ منهم سلوكٌ له ربطٌ بالارتكازِ الْعُقَلاَئِيِّ، فهذا معناه أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُم بما هم عقلاء [أي: بالحيثية الأولى]، كما إذا انعقدت سيرتُهم واستقر بناؤُهم عَلَىٰ أن مَن يستخرج معدِناً يملكه؛ فَإِنَّ هذا البناء له جذور ونكات عُقَلاَئِيَّة.
 وعليه، فيحتمل أَنْ تَكُونَ سيرة الْمُتَشَرِّعَة عَلَىٰ ذلك متأثّرة بتلك النكات الْعُقَلاَئِيَّة وليست مستندة إلى الشَّارِع.
 إذن، فللمتشرعة سيرتان:
 الأولى: سيرة لهم بما هم متشرعة فِي القضايا الَّتِي لا يكون للعقلاء فيها موقفٌ، بل هم لا بشرطٍ فيها.
 الثَّانية: وسيرة لهم بما هم عقلاء فِي القضايا الَّتِي يكون للعقلاءِ فيها موقفٌ وملاك ونكتة وليسوا لا بشرطٍ فيها.
 ومن هنا توجد عندنا «سيرةٌ مُتَشَرِّعِيَّة» و«سيرةٌ عُقَلاَئِيَّة»، وَحَيْثُ أَنَّ ملاكَ كاشفيةِ كُلٍّ من السيرتين عن إمضاء الشَّارِعِ لها وقبوله لمضمونها يختلف عن ملاكِ الْكَاشِفِيَّةِ فِي الأخرى، إذن فلابد من البحث تَارَةً بلحاظِ سيرةِ الْمُتَشَرِّعَة، وأخرى بلحاظ سيرة الْعُقَلاَء:
 أَمَّا سيرةُ الْمُتَشَرِّعَة، فإن ثبتت لدينا من خلال أحد الطرق المتقدم ذكرُها فِي البحث عن الركن الأَوَّل عليه السلام فهي تكشف عَنِ الْحُكْمِ والموقف الشَّرْعِيِّ وَتَدُلُّ عَلَىٰ قبول الشَّارِعِ لمضمونها من بابٍ يُشبه باب البرهان الإنّي وكشف المعلول عن علّته ودلالته عليها.


[1] - القائل به هو السيد الحائري حفظه الله فِي هامش تقريراته: ج2، ق2، ص120.