الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/03/29

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 الطريق الثَّانِي: إثبات السِّيرَة المعاصرة للمعصومين عليهم السلام عن طريق النقل التأريخي والشهادات، سَوَاء فِي ذلك نطاق التأريخ الْعَامّ أو نطاق الروايات والأحاديث الفقهية، ولهذا الطريق أمثلة عديدة نذكر ثلاث منها تباعاً:
 المثال الأَوَّل: ما ينقله الشيخ الطوسي رحمه اللَه فِي «العُدَّة» ويشهد به من استقرار بناء أصحاب الأئمة عليهم السلام وثبوت سيرة المتشرعة فِي عهدهم عليهم السلام جيلاً بعد جيل عَلَىٰ الْعَمَل بخبر الثقة فِي مقام أخذ معالم دينهم.
 المثال الثَّانِي: ما تعكسه (من الناحية التأريخية) الروايات والأحاديث الواردة فِي باب الزكاة من ثبوت سيرة المتشرعة فِي زمان الإمام عليه السلام عَلَىٰ جواز التعامل بالنقد الأجنبي، حيث كثر السؤال فِي الروايات عن ثبوت الزكاة فِي النقد الأجنبي وعدمه، وعن ثبوتها فِي الدرهم المغشوش وعدمه [1] ؛ فَإِنَّ هذا يَدُلّ عَلَىٰ أنهم كانوا يتعاملون بالنقد الأجنبي.
 المثال الثَّالِث: ما ينقله التأريخ الْعَامّ من ثبوت السِّيرَة آنذاك عَلَىٰ استخراج الفرد بعض أقسام المعدِن كالعقيق والملح، وتملّكه إياه بذلك.
 وكما يمكن الاستفادة فِي هذا المجال من الروايات والأحاديث الفقهية باعتبار أنها تعكس ضمناً جوانب من حياة الرواة والناس فِي ذلك الزمان (كما مثّلنا له آنفاً)، كذلك يمكن الاستفادة أَيْضاً فِي هذا المجال من فتاوى الجمهور والعامّة فِي باب المعاملات مثلاً، باعتبار أنها مأخوذة ومنتزعة أحياناً عن الوضع الْعَامّ المرتكز عُقَلاَئِيّاً.
 وهذا الطريق يتوقف اعتباره عَلَىٰ أحد شرطين؛ فَإِنَّ النقل لاَ بُدَّ من أَنْ يَكُونُ بأحد نحوين كي يمكننا الاعتماد عليه فِي إثبات السِّيرَة المعاصرة للمعصومين عليهم السلام:
 الشَّرْط الأَوَّل: أَنْ يَكُونُ النقل التَّأْرِيخِيُّ والشهادة من الناحية الْكَمِّيَّة وَالْكَيْفِيَّة بِالنَّحْوِ الَّذِي يوجب العلم أو الاطمئنان عَلَىٰ أقل التقدير بكون السِّيرَة معاصرةً للمعصوم عليه السلام؛ فمن ناحية الكمّ لاَ بُدَّ من أَنْ يَكُونُ النقل كثيراً ومستفيضاً , أن توجد هناك شهادات عديدة بثبوت السِّيرَة فِي زَمَن الْمَعْصُوم عليه السلام، ومن نَاحِيَة الكيف لاَ بُدَّ وأن يكون النقل مقترناً بخصوصيات وشواهد لصدقه وأن لا يكون مقروناً بما يضعفه ويكسره، فلو نقل التأريخ لنا مثلاً استخراج الفرد للنفط وتملّكه فِي زمن النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم نصدّقه؛ لأَنَّ هناك نَقْلاً تَأْرِيخِيّاً أدقّ منه يَدُلّ عَلَىٰ أن اكتشاف النفط أساساً كان فِي زمن متأخر عن زمان النَّبِيّ الأَعْظَم صلى الله عليه وآله وسلم وأن معرفة النَّاس بعين النفط كانت متأخرة عن عهده صلى الله عليه وآله وسلم [2] .
 الشَّرْط الثَّانِي: أَنْ يَكُونُ جامعاً لشروط الحجية التَّعَبُّدِيَّة فِيمَا إذا لم يكن موجباً للعلم ولا للاطمئنان، كما إذا كان النقل مِنْ قِبَلِ ناقل واحد ثقة وبنينا عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الواحد الثقة بدليل آخر غير هذه السِّيرَة الَّتِي يُرَاد إثباتها بشهادة الثقة، كما لو فرضنا أن الشيخ الطوسي رحمه اللَه نقل لنا أن سيرةَ أصحاب الأئمة والمتشرعة كانت عَلَىٰ ترك صلاة الجمعة؛ فهذا نقل للسيرة بخبر الثقة الَّذِي هو حجة، وبه نثبت تَعَبُّداً سيرة أصحاب الْمَعْصُوم × عَلَىٰ ترك الجمعة.
 فإذا فرض أن هذا كان مشمولاً لدليل الحجية؛ فَإِنَّ حِينَئِذٍ تثبت السِّيرَة ويثبت بذلك لوازم هذه السِّيرَة الَّتِي منها إمضاء الْمَعْصُوم عليه السلام لها عَلَىٰ ما سيأتي الحديث عنه فِي الركن الثَّانِي - إن شاء اللَه تعالى - فيكون لكلام الشيخ الطوسي رحمه اللَه (فِي المثال) مدلول مطابقي وهو السِّيرَة المعاصرة للمعصوم عليه السلام، ومدلول التزامي وهو إمضاء الشَّارِع لها وثبوت الحكم الشَّرْعِيّ.
 تنبيه: وينبغي هنا أن ننبّه عَلَىٰ نقطة هي أن حُجِّيَّة خبر الثقة الناقل للسيرة المعاصرة للمعصوم عليه السلام لا علاقة لها بمسألة حُجِّيَّة خبر الثقة فِي الموضوعات وليست متوقفة عَلَىٰ القول بالحجية فِي تلك المسألة رغم أن الخبر هنا خبر عن موضوع خارجي (وهو السِّيرَة المعاصرة للمعصوم)، بل إن الخبر (فِي المقام وفي كُلّ موضوع آخر مماثل لما نحن فيه، أي: كُلّ خبر عن موضوع يكون لازمه ثبوتُ الحكم الشَّرْعِيّ) لاَ بُدَّ من الفراغ عن حُجِّيَّتُه فِي مقام إِثْبَات الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الملازم لذاك الْمَوْضُوع، سَوَاء قلنا فِي تلك المسألة بحجية خبر الواحد فِي الموضوعات أم لم نقل.
 توضيح ذلك أن الخبر فِي الموضوعات عَلَىٰ ثلاثة أقسام:
 القسم الأَوَّل: أَنْ يَكُونُ الخبرُ خبراً عن المَوْضُوع الَّذِي هو مصداق لموضوع الحكم الكُلِّيّ، ويترتب عَلَىٰ هذا الخبر حكمٌ جُزْئِيّ وفرعي وليس حُكْماً كُلّيّاً، كالإخبار عن خمرية سائلٍ، أو الإخبار عن طهارة سائل؛ فَإِنَّ خميّرةَ هذا السائل أو طهارته من مصاديق الخمريّة والطهارة وهما موضوعان للحكم الكلي الَّذِي هو عبارة عن حرمة شرب الخمر وجواز شرب السائل الطاهر، ويَتَرَتَّبُ عَلَىٰ هذا الإخبار حكم جُزْئِيّ وفرعي هو حرمة شرب هذا أو جواز شرب ذاك.
 القسم الثَّانِي: أَنْ يَكُونُ الخبر خبراً عن الْمَوْضُوع الَّذِي هو مصداق لمَوْضُوعِ الحكم الكُلِّيِّ، ويترتب عَلَىٰ هذا الخبر حكمٌ جُزْئِيّ، لكن تنتهي حُجِّيَّتُه إلى إثبات حكم كُلِّيّ، كما إذا أخبر الشيخ أو النجاشي أو المفيد أو الآخرون من الأجلة (الَّذِي يوثّقون لنا الرواةَ) أن فلانا من الرواة ثقةٌ؛ فَإِنَّ وثاقة هذا الراوي مصداق من مصاديق الوثاقة الَّتِي هي موضوع للحكم الكلي وهو عبارة عن حُجِّيَّة خبر الثقة، ويَتَرَتَّبُ عَلَىٰ هذا الإِخْبَار حكم جُزْئِيّ وفرعي وهو حُجِّيَّة خبر هذا الراوي الَّذِي وثَّقه النجاشي، لكن تنتهي حُجِّيَّتُه إلى إثبات حكم كُلِّيّ وهو الحكم الَّذِي رواه ذاك الراوي كما لو نقل لنا حُكْماً كُلّيّاً عن الإمام الصادق عليه السلام مثل: «فِي المعدن الخمس».
 القسم الثالث: أَنْ يَكُونُ الخبر خبراً عن مَوْضُوع يلازم الحكم الكلي (وليس خبراً عن مِصْدَاق لموضوع كُلِّيّ كما فِي القسمين الأولين)، كالإخبار عن السِّيرَة المعاصرة للمعصوم والتي هي ملازمة للحكم الشَّرْعِيّ الكلي وهو مورد كلامنا الآن.
 وَحِينَئِذٍ إن افترضنا أن هناك إطلاقاً فِي دليل حُجِّيَّة خبر الثقة يشمل الإخبار عن الموضوعات، بحيث لم يكن دليل الحجية مختصاً بخبر الثقة فِي الأحكام، أو افترضنا وجود سيرةٍ تَدُلُّ عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الثقة فِي الموضوعات، ثبتت حُجِّيَّة خبر الثقة فِي الموضوعات مُطْلَقاً، فتكون الأقسام الثَّلاَثة كُلّهَا حجة.
 أَمَّا إذا لم يكن هناك إطلاق فِي دليل الحجية أو سيرة من هذا القبيل؛ فَإِنَّ كان لدليل حُجِّيَّة خبر الثقة فِي الأحكام إطلاق يشمل الخبر عن ا لموضوع الَّذِي يؤدي إلى حكم كُلِّيّ، ثبتت حُجِّيَّة خصوص القسمين الأخيرين دون الأَوَّل، وكذلك الأمر لو كانت هناك سيرة قائمة عَلَىٰ حُجِّيَّة الإخبار عن الْمَوْضُوع المؤدي إلى حكم كُلِّيّ.
 أَمَّا إذا لم يكن هناك شيء من هذا القبيل أَيْضاً، فَحِينَئِذٍ لا يبقى دليل عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الثقة فِي الموضوعات، ولا يمكن ترتيب الآثار والأحكام الشَّرْعِيَّة المترتبة عَلَىٰ الْمَوْضُوع الَّذِي أخبر به الثقة، فلا يبقى مجال لحجية القسمين الأولين.
 وَأَمَّا القسم الثَّالِث فهو يختلف سنخاً وجوهراً عنهما فِي أن الخبر فِي هذا القسم لَيْسَ خبراً عن مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، بل هو خبر عن ملازم الحكم الشَّرْعِيّ، فلا يوجد هنا أثر وحكم شرعي يَتَرَتَّبُ عَلَىٰ الْمَوْضُوع الَّذِي أخبر به الثقة حتَّى يدخل هذا القسم فِي مسألة حُجِّيَّة خبر الثقة فِي الموضوعات؛ فَإِنَّ تلك المسألة تعني بالبحث عن خبر الثقة فِي موضوعات الأحكام الشَّرْعِيَّة، بينما الخبر فِي الْقِسْمِ الثَّالِث لَيْسَ كذلك، فلا نحتاج فيه إلى القول بحجية خبر الثقة فِي الْمَوْضُوعات؛ لأَنَّ الحكم الشَّرْعِيّ فيه لَيْسَ أثرا مترتباً عَلَىٰ الْمَوْضُوع المخبَر به، بل هو من لوازم هذا الْمَوْضُوع؛ ضرورةَ أن إمضاء الشَّارِع لَيْسَ من الآثار الشَّرْعِيَّة المترتبة عَلَىٰ السِّيرَة المعاصرة، وليست السِّيرَة مَوْضُوعاً للحكم الشَّرْعِيّ وإمضاء الشَّارِع, وَإِنَّمَا الحكم والإمضاء من لوازم السِّيرَة.
 وعليه، فحجية الخبر فِي الْقِسْمِ الثَّالِث ليست مبنية عَلَىٰ حُجِّيَّة الخبر فِي موضوعات الأحكام الشَّرْعِيَّة، وَإِنَّمَا حُجِّيَّتُه مستفادة من دليل حُجِّيَّة الخبر نفسه فِي الأحكام الشَّرْعِيّ، وإن لم يكن له إطلاق يشمل الخبر عن موضوعات الأحكام؛ ذلك لأن العرف لا يحتمل الْفَرْق بين نقل الثقة للحكم الشَّرْعِيّ الكلي بالمطابقة، وبين نقله لذلك بالملازمة، عَلَىٰ حد عدم احتماله الْفَرْق فِي الحجية في باب الأمارات بين الدِّلاَلَة الْمُطَابَِقِيَّة والدلالة الاِلْتِزَامِيَّة. وهذا يعني حُجِّيَّة خبر الثقة فِي الْقِسْمِ الثَّالِث (أي: فِي الخبر عن الْمَوْضُوع الملازم للحكم) وحجيّته هذه ليست لأجل إثبات الْمَوْضُوع المخبَر به، كيف وقد فرضنا أننا نستفيد هذه الحجية من الدَّلِيل الدَّال عَلَىٰ حُجِّيَّة الخبر عن الحكم الشَّرْعِيّ، والخبر للموضوع المخبر به.
 وبعبارة أخرى: الحجية هنا إِنَّمَا هي للدلالة الاِلْتِزَامِيَّة لهذا الخبر، حيث أن الدِّلاَلَة الْمُطَابَِقِيَّة له عبارة عن الإخبار عن السِّيرَة المعاصرة للمعصوم، والدلالة الاِلْتِزَامِيَّة له عبارة عن الإخبار عن الحكم الشَّرْعِيّ وإمضاء الشَّارِع.


[1] - العاملي، وسائل الشيعة: ج6، ب7، زكاة النقدين.
[2] - الظاهر أن الإمام الصادق عليه السلام هو أول من كشف الغطاء عن وجود النفط وبشّر بخروج الزيت (النفط)، حيث ينقل أَنَّهُ عليه السلام عندما جث عَلَىٰ ركبته في بعض مناطق الجزيرة العربية قال: إن تحت هذه الأرض أشياء يشبه الزيت لو أخرجته لأغنيت العرب جميعاً. الطهراني عفي عنه.