الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/03/26

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: السِّيرَة/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 كان الكلام فِي الْقِسْمِ الأَوَّل من أقسام السِّيرَة وهو عبارة عن السِّيرَة الَّتِي تُنَقِّحُ مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، بكلا نحويها سَوَاء الَّتِي توجد الْمَوْضُوع أو الَّتِي تكشف عن وجود الْمَوْضُوع. وقلنا: يَتَرَتَّبُ عَلَىٰ هذا القسم الأَوَّل مِنَ السِّيرَةِ:
 أوَّلاً: أن حُجِّيَّة هذه السِّيرَة عَلَىٰ القاعدة ولا تحتاج حُجِّيَّتُهَا إلى بحث؛ فَإِنَّ المفروض أن هذه السِّيرَة تُحرز لِلْمُكَلَّفِ الموضوعَ الشَّرْعِيَّ (أي: توجب له القطع والقطع بموضوع الحكم الشَّرْعِيّ حجةٌ كما تَقَدَّمَ فِي بحث القطع)، فلا يوجد بحث آخر هنا.
 وَثَانِياً: أَنَّهُ لا يشترط فيها أَنْ تَكُونَ معاصرةً لعصر حضور الْمَعْصُوم عليه السلام، بل حتَّى لو كانت هذه السِّيرَةُ حادثةً بعد عصر الْمَعْصُوم تكون حجةً، وكونها معاصرة لعصر الْمَعْصُوم الحاضر لَيْسَ له دخل فِي حُجِّيَّة هذه السِّيرَة؛ وَذَلِكَ لأَنَّ وظيفةَ هذه السِّيرَة ليست هي الكشف عن أصل الحكم الكليّ الشَّرْعِيّ كي يقال: إن سيرة الْعُقَلاَء المتأخرين عن عصر حضور الْمَعْصُوم عليه السلام كيف يستكشف بها الحكم الشَّرْعِيّ، بل يُراد بها تنقيح مَوْضُوعِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كما عرفتم. إذن، اللازم فِي هذه السِّيرَة هو ملاحظةُ وجودها فِي الزمان الَّذِي يُراد إِثْبَات الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فيه (أي: زمان الْمُكَلَّف).
 بل نقول أكثر من ذلك: لو ثبتت سيرةٌ تُنَقِّحُ مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وكانت معاصرةً لزمان الْمَعْصُوم ثُمَّ انتفت وزالت تلك السِّيرَة وانتهى أثرها وسقطت ولم تعد موجودة اليوم، فتلك السِّيرَة الموجودة فِي زمن الْمَعْصُوم سقطت عن مجال الاستنباط؛ لأنها لم تعد حِينَئِذٍ منقِّحة ومحرِزةً للموضوع فِي زماننا. إذن، فالحجة هي السِّيرَة الفعلية فِي الْقِسْمِ الأَوَّل.
 هذا تمام الكلام فِي الْقِسْمِ الأَوَّل.
 وأَمَّا القسم الثَّانِي مِنَ السِّيرَةِ فهو السِّيرَة الَّتِي تُنَقِّحُ ظهورَ الدَّلِيلِ وفهمَنا لِلدَّلِيلِ (فليس دورها إِثْبَات الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ولا إثبات الْمَوْضُوع) وذلك من قبيل المناسبات الْعُرْفِيَّة والبناءات والارتكازات العُقلائية الَّتِي تُنَقِّحُ فهمَنا للأدلة والنصوص الشَّرْعِيَّة؛ فإننا سوف نُبَيِّن فِي بحث حُجِّيَّة الظُّهُور إن شاء الله تعالى أن المرتكزات الْعُرْفِيَّة والبناءات الْعُقَلاَئِيَّة كثيراً مّا تَتَدَخَّلُ فِي تكوين الظُّهُور لِلدَّلِيلِ وَتَتَصَرَّفُ فِي تحقيق دَلاَلَةِ الدَّلِيل عَلَىٰ معنى مُعَيَّنٍ وتُشَكِّلُ قرائنَ لُبِّيَّةٍ مكتنفة بِالدَّلِيلِ (أي: غير متصلة بالخطاب) كالقرائن اللَّفْظِيَّة الْمُتَّصِلَة بِالدَّلِيلِ الَّتِي تَتَصَرَّفُ فِي ظهور الدَّلِيل وَتُحَدِّدُ ظهورَ الدَّلِيل وَتُحَدِّد المراد من الدَّلِيل، وتوسِّعُ الدَّلِيل أو تضيق الدَّلِيل، أو تغير الدَّلِيل من معنى إلى معنى آخر، كما سوف تأتي الأمثلة لها.
 وحجية هذا القسم مِنَ السِّيرَةِ أَيْضاً كالقسم الأَوَّل ثابتةٌ عَلَىٰ القاعدة ولا تحتاج إلى البحث، وذلك بعد الفراغ عن أصل حُجِّيَّة الظُّهُور؛ لأَنَّ هذه السِّيرَة تُنَقِّحُ الظُّهُورَ وحجية الظُّهُور تثبت فِي بحث حُجِّيَّة الظُّهُور، فلا نحتاج إلى بحث آخر لإثبات حُجِّيَّة هذه السِّيرَة.
 إذن، مع تَمَامِيَّة الدَّلِيل عَلَىٰ حُجِّيَّة الظُّهُور لاَ بُدَّ من أخذ هذا القسم مِنَ السِّيرَةِ بعين الاعتبار.
 مثال هذه السِّيرَة: لنفرض أن الدَّلِيل دَلَّ عَلَىٰ أن «المشتري إذا جاء بالثمن خلال ثلاثة أيام فله، وَإلاَّ فلا بيع بينهما»، فهذا الدَّلِيل إن لم نضمّه إلى ارتكاز عرفي عقلائي وجمدنا عَلَىٰ حاق هذا اللَّفْظ فَسَوْفَ نفهم من هذا الدَّلِيل انفساخ البيع بعد ثلاثة أيام، فلا يبقى بينهما لا بيع لازم ولا بيع متزلزلٌ، فيكون البيع بعد الثَّلاَثة باطلاً.
 أَمَّا إذا أخذنا بالارتكاز العرفيّ وأَعْمَلْنَا هذه المناسبةَ الْعُرْفِيَّة عَلَىٰ أن معنى هذه الجملة هو أن «لا بيع لازم بينهما»، وليس معناه «بطلان البيع وانفساخه»، فَحِينَئِذٍ بإمكانه أن يفسخ البيع باعتبار خيار التأخير؛ لأَنَّهُ تأخر فِي دفع الثمن، كما له أن يستمر فِي بيعه. فبحسب مرتبة اللزوم لا يوجد بيع بينهما، لا بحسب الصِّحَّة والاقتضاء.
 إذن، يُجعل الارتكازُ العرفيّ قرينةً عَلَىٰ أن البيع المنفي فِي قوله «فلا بيع بينهما» إِنَّمَا هو البيع اللازم، وليس هو البيع الصَّحِيح الجائز.
 وهذا القسم مِنَ السِّيرَةِ يختلف عن القسم الأَوَّل مِنَ السِّيرَةِ، وهو أن هذه السِّيرَة بحاجة إلى إثبات معاصرته لزمن التشريع وزمان صدور الدَّلِيل وحضور الْمَعْصُوم عليه السلام (بخلاف القسم الأَوَّل مِنَ السِّيرَةِ) كي تُؤَثِّر عَلَىٰ ظهور الدَّلِيل آنذاك؛ فَإِنَّ ظهور الدَّلِيل حجة فِي زمن التشريع، فيجب علينا أن نعرف معنى ذاك الدَّلِيل فِي ذاك الوقت، وَإلاَّ فلا تُشَكِّلُ هذه السِّيرَة قرينةً لُبِّيَّةً كَالْمُتَّصِلَةِ بالنص، وَبِالتَّالِي لا تؤثر عَلَىٰ ظهور الدَّلِيل فِي عصر صدوره؛ لأنها لم تكن موجودة فِي ذاك العصر ولم تكن معاصرةً لعصر النص، فلا تؤثر عَلَىٰ ظهور الدَّلِيل آنذاك، مع أن الحجية إِنَّمَا هي لظهور النص فِي عصر صدوره وليس فِي يومنا هذا.
 وَحِينَئِذٍ توجد عندنا صور ثلاث:
 الصُّورَة الأولى: أن نقطع بأن هذه السِّيرَة كانت موجودة فِي عصر صدور الدَّلِيل، فتكون حجة بلا خلاف من باب حُجِّيَّة الظُّهُور.
 الصُّورَة الثَّانية: أن نقطع بأن هذه السِّيرَة لم تكن موجودة فِي عصر صدور النص، وَحِينَئِذٍ لا كلام أَيْضاً؛ لأنها سوف لا تعود حجةً من باب حُجِّيَّة الظُّهُور؛ لأنها لم تكن موجودة آنذاك حتَّى تُحدد ظهورَ الدَّلِيل.
 الصُّورَة الثَّالثة: أن نَشُكُّ فِي أن هذه السِّيرَة الموجودة فِي زماننا هل كانت موجودة فِي عصر التشريع أَيْضاً لكي تؤثر فِي ظهور الدَّلِيل أم لم تكن موجودة آنذاك؟ فهنا لا يوجد عندنا إلا احتمال وجود هذه السِّيرَة آنذاك.
 أقول: هذا الاحتمال أَيْضاً كاف فِي المقام ويمكن الاعتماد عليه؛ وذلك لأننا نعتبر السِّيرَة الموجودة اليوم قرينةً وذلك لوجوه ثلاثة:
 الوجه الأَوَّل: أن نقول بأن احتمال وجود هذه السِّيرَة واحتمال ثبوتها فِي عصر التشريع يُشَكِّل احتمالَ وجود القرينة الْمُتَّصِلَة، وفي الموارد المماثلة لا يمكن التَّمَسُّك بالمدلول اللغوي لِلدَّلِيلِ.
 الوجه الثَّانِي: أن نُدخلَ المسألةَ تحت كبرى أصالة عدم النقل وأصالة الثُّبات فِي اللغة والتي هي حجة فِي باب دلالات الألفاظ؛ فإن هذه السِّيرَة وهذا الارتكاز - كما قلنا - دخيلٌ فِي ظهور الكلام، وهذا معناه أن هذا الكلام لو صدر الآن لكان معناه هذا الشيء المعين، وَأَمَّا لو صدر قبل هذا (فِي عصر النص) فلا ندري ماذا كان معناه؟ لأننا لا ندري هل أن هذه السِّيرَة كانت موجدة آنذاك أم لا؟ فتجري حِينَئِذٍ أصالة عدم النقل ويثبت أن ما هو الظاهر من الكلام اليوم هو منه سابقاً.
 الوجه الثَّالِث: أن نغض الطَّرف عن الوجهين السابقين ونقول: بما أن السِّيرَة موجودة لدينا اليوم ونشك أنها كانت موجودة فِي عصر الْمَعْصُوم أو لا، فهناك طرق لإثبات معاصرة السِّيرَة الموجودة اليوم فِي عصر التشريع والنصوص، وسوف نذكرها فِي الجهة الثَّانية من جهات البحث عن السِّيرَة.
 أَمَّا القسم الثَّالِث مِنَ السِّيرَةِ (وهو المهم) فهو السِّيرَة الَّتِي يُراد بها إثبات نفس الحكم الشَّرْعِيّ، لا تنقيحَ موضوعِ الحكم الشَّرْعِيّ ولا تنقيحَ فهمِنا لِلدَّلِيلِ الدَّال عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. وبالإمكان تقسيم هذا القسم إلى نحوين:
 النَّحْو الأَوَّل: السِّيرَة بلحاظ مرحلة الواقع، ونقصد بها السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة القائمة عَلَىٰ تصرفٍ مُعَيَّن وسلوك مُعَيَّن مِنْ قِبَلِ الْعُقَلاَء، وهذا السلوك يتخذه الْعُقَلاَءُ كموقفٍ ينبغي اتخاذه فِي مثل هذا المورد.
 وبعبارة أخرى: السِّيرَة الَّتِي يُرَاد بها إِثْبَاتُ وتنقيحُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْوَاقِعِيِّ.
 وهذه السِّيرَة هي الَّتِي يقع الاستدلال بها فِي الفقه عَادَةً، سَوَاء كان هذا الحكم الْوَاقِعِيِّ الَّذِي يُرَاد إثباته بِالسِّيرَةِ حُكْماً تَكْلِيفِيّاً أم حُكْماً وَضْعِيّاً.
 مثال الأَوَّل (الحكم التَّكْلِيفِيّ): السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة القائمة عَلَىٰ أن التصرف فِي مال الغير منوطٌ ومشروطٌ بأن يكون بطيب نفسه، وإن لم يأذن لفظاً بالتصرف، فالإذن اللَّفْظِيّ لَيْسَ دخيلاً فِي جواز التصرف فِي مال الغير، والحكم الشَّرْعِيّ الْوَاقِعِيِّ الَّذِي يُراد إثباته بهذه السِّيرَة عبارة عن جواز التصرف فِي مال الغير عند إحراز طيب نفسه.
 مثال الثَّانِي (السِّيرَة الَّتِي يُرَاد بها إِثْبَات الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْوَاقِعِيِّ الوضعي): له أمثلة عديدة كالسِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة القائمة عَلَىٰ التملك بالحيازة فِي المنقولات؛ فَإِنَّ الحكم الشَّرْعِيّ الْوَاقِعِيِّ الَّذِي يُراد إثباته عن طريق هذه السِّيرَة لَيْسَ حُكْماً تَكْلِيفِيّاً وَإِنَّمَا هو حكم وضعي (أي: الملكية)، فَيُقَالُ: إن السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة قائمة عَلَىٰ أن من يحوز شَيْئاً من الأموال المنقولة المباحة يكون مالكاً لذاك المال الَّذِي حازَه. فُيستدل بهذه السِّيرَة عَلَىٰ أن من حاز ملك شَرْعاً.
 مثال آخر: السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة القائمة عَلَىٰ أن انفساخ المعاملة بسبب تلف المبيع والمُثمن قبل القبض، فيُرَاد بها إثبات الحكمِ الشَّرْعِيّ الْوَاقِعِيِّ الوضعي (الوضعي عبارة عن انفساخ البيع)، فيتمسك بِالسِّيرَةِ لإثبات أن التلف قبل القبض يوجب انفساخ المعاملة وبطلانها شَرْعاً.
 ومثال ثالث: السِّيرَة القائمة عَلَىٰ ثبوت خيار الْغَبْن للمغبون (والَّذِي تَحَدَّثْنَا عنه فِي الْقِسْمِ الأَوَّل مِنَ السِّيرَةِ)، فيراد بها إِثْبَات الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْوَاقِعِيِّ ولٰكِنَّهُ لَيْسَ حُكْماً تَكْلِيفِيّاً وَإِنَّمَا هو حكم وضعي وهو عبارة عن خيار الْغَبْن. فهذه السِّيرَة قائمة عَلَىٰ أن المغبون (بائعاً كان أم مشترياً) له خيار الفسخ (بحيث لا نرجع خيار الْغَبْن إلى خيار الشَّرْط، بل رأساً نثبت خيار الْغَبْن عن طريق القول بأن سيرة الْعُقَلاَء قائمة عَلَىٰ أن كُلّ مغبون فِي المعاملة له خيار الفسخ، وَإلاَّ رجعنا إلى القسم الأَوَّل) حتَّى لو لم يشترط عدم الغبن.
 هذا هو النَّحْو الأَوَّل من القسم الثَّالِث مِنَ السِّيرَةِ.
 النَّحْو الثَّانِي من هذه السِّيرَة هي السِّيرَة بلحاظ مرحلة الظاهر (لا بلحاظ مرحلة الواقع)، أي: نقصد بها السِّيرَة القائمة عَلَىٰ تصرف مُعَيَّن مِنْ قِبَلِ الْعُقَلاَء عندما يشكّون فِي أمر مُعَيَّن، فَيُراد بهذه السِّيرَة إِثْبَات الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الظَّاهِرِيّ. وهذه السِّيرَة هي الَّتِي يقع الاستدلال بها عَادَةً فِي الأُصُول:
 المثال الأَوَّل: من قبيل السِّيرَة القائمة عَلَىٰ الرجوع إلى قول اللغوي عند الشَّكّ في معنى الكلمة، وإن لم يفد كلامُ اللغوي لهم أكثر من الظن.
 المثال الثَّانِي: السِّيرَة القائمة عَلَىٰ رجوع كُلّ مأمور إلى الثقة للتعرف عَلَىٰ أمر المولى، وإن لم يفد خبر الثقة هذا له أكثر من الظن.
 المثال الثَّالِث: السِّيرَة القائمة عَلَىٰ رجوع غير أهل الخبرة إلى أهل الخبرة، أو رجوع غير الأخصائي إلى الأخصائي، أو رجوع الجاهل إلى العالم وأهل الخبرة (كالتقليد).
 المثال الرَّابِع: السِّيرَة القائمة عَلَىٰ حُجِّيَّة الظُّهُور؛ فَإِنَّ الْعُقَلاَء يرجعون إلى ظاهر كلام الْمُتَكَلِّم ويكتشفون مراده من خلال ظاهر كلامه، وإن لم يفد ظاهر كلامه إلا الظن.
 إذن، هذان نحوان مِنَ السِّيرَةِ فِي الْقِسْمِ الثَّالِث.