الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/03/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: أقسام السِّيرَةِ/السِّيرَة/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 السِّيرَة
 
 الجهة الأولى من الجهات الَّتِي لا بد من البحث عنها فِي باب السِّيرَة عبارة عن البحث عن أقسام السِّيرَة؛ فَإِنَّ السِّيرَة يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
 القسم الأَوَّل: السِّيرَةُ الَّتِي تُنَقِّحُ مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وصغراه، فلا يُراد بها إِثْبَات الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ نفسِهِ، ولا يُرَاد بها تنقيح ظُهُور الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ فِي الْحُكْمِ.
 القسم الثَّانِي: السِّيرَةُ الَّتِي تُنَقِّحُ فهمَنا للدليل الدَّال عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ والظهورَ الدَّالَ عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، ولا يُرَاد به إثبات مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، ولا يُرَاد به أَيْضاً إِثْبَات الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ نفسه؛ فَإِنَّ للدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ دليلُه، وَإِنَّمَا فهمنا لذاك الدَّلِيل يُثبت بِالسِّيرَةِ.
 القسم الثَّالِث: السِّيرَةُ الَّتِي يُراد بها إِثْبَات الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ نفسه، أي: هي الدَّلِيل عَلَىٰ الحكم الشَّرْعِيّ.
 فنلاحظ أنَّ هذه الأقسامَ الثَّلاَثةَ تختلف عن بعضها تماماً، ولكل واحد منها نحو أو أنحاء نبدأ فيما يلي بشرحها وتوضيحها:
 أَمَّا القسم الأَوَّل: فهو عَلَىٰ نحوين:
 النَّحْوُ الأَوَّل: أَنْ تَكُونَ السِّيرَةُ موجِدةً ثُبُوتاً للموضوع؛ أي: تُحَقِّق الْمَوْضُوعَ ثُبُوتاً.
 النحو الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ السَّيْرةُ كاشفةً إِثْبَاتاً عن وجود الْمَوْضُوع.
 أَمَّا النحو الأَوَّل: فَالسِّيرَةُ فِي هذا النَّحْو تَتَصَرَّفُ وَتَتَدَخَّلُ فِي الْمَفْهُومِ والعنوانِ الَّذِي أُخِذ مَوْضُوعاً للحكم الشَّرْعِيِّ،كالسِّيرَةِ القائمةِ عَلَىٰ الإنفاق عَلَىٰ الزَّوْجَةِ بمستوىً مُعَيَّنٍ، بحيث لو أنفق الزوجُ عليها بأقل من هذا المستوى لم يكن مصداقاً لِلإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ فِي الآية الكريمة {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ

}( [1] ) أو مِصْدَاقاً لِلْمَعْرُوفِ فِي الآية {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ

}( [2] )؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَىٰ وجوبِ النَّفَقَةِ عَلَىٰ الزَّوْجَةِ لَمْ يُبَيِّن مقدارَ النَّفَقَةِ ولا نوعَها ولا حدودَها، وَإِنَّمَا دَلَّ القرآنُ الكريمُ عَلَىٰ وُجُوبِ إمساكِ الزَّوْجَةِ بِالْمَعْرُوفِ أو تسريحها بإحسان. فكيف يتحقق مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الَّذِي هو «الإمساك بِالْمَعْرُوفِ»؟ ومتى يكون الإنفاق عليها إنفاقاً يتحقق به المقدار الواجب؟ فهل يتحقق «الإمساك بِالْمَعْرُوفِ» فِي المأكل برغيف من الخبز والفجل؟ أم هل يتحقق ذلك فِي المسكن بحجرة داخل مضيف أو فندق؟ أم عَلَىٰ عكس ذلك يتحقق «الإمساك بِالْمَعْرُوفِ» فِي المأكل باللحم والرز والفواكه، وفي المسكن بأن يأخذ الزَّوْجُ لها مسكناً خاصاً؟
 للإجابة عن هذا السؤال نأتي إلى الدَّلِيل الشَّرْعِيِّ ونرى أَنَّهُ لم يُحَدِّدْ مقدارَ هذا الإنفاق وحدودَه، وبذلك يُفسح المجال أمام السِّيرَةِ لتُشخِّصَ وتُحدِّدَ أنَّ هذا المعروف عبارة عَمَّا هو المتعارف بين النَّاس. فإذا كانت السِّيرَة المتعارفة في «الإمساك بالمعروف» فِي المسكن قبل قرونٍ شَيْئاً بسيطاً يقتصر فِي إسكان الزَّوْجَةِ فِي حجرةٍ واحدةٍ للظروف الاقتصادية أو لظروف أخرى، لكن شَيْئاً فشيئاً تغيرت الأزمنة ومن فيها وباتت السِّيرَةُ المتعارفة بين الناس عَلَىٰ أن «الإمساك بالمعروف» فِي المسكن عبارة عن بيت وبعض الكماليات، ولا ننسى أن الأماكن لها دخل فِي السِّيرَة، فالقرية عَلَىٰ سبيل المثال أبسط من المدينة من ناحية الإمكانيات و..
 إذن، فالمهمّ أنّ السِّيرَةَ هنا نَقَّحَتْ مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وإذا تَنَقَّحَ الْمَوْضُوعُ يثبت الحكمُ الشَّرْعِيُّ؛ فإِنَّ الحكمَ يتبع الْمَوْضُوعَ (أي: الشَّارِع أوكلَ الحكمَ إلى الْمَوْضُوع وَالْمَوْضُوعُ مَوْضُوعٌ يمكن للعرف أن يتدخَّل فِي تشخيص مصداقه).
 وَأَمَّا النحو الثَّانِي (أَنْ تكشف السِّيرَةُ إِثْبَاتاً عن وجود الموضوع وثبوته): فمعنى السِّيرَة فيه أنها لا تَتَصَرَّفُ ولا تَتَدَخَّل فِي الْمَوْضُوع والعنوان المأخوذ مَوْضُوعاً فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ولا تدخل فِي تكوينه وإيجاد فردٍ ومصداقٍ له، وَإِنَّمَا تكشف السِّيرَةُ عن وجود هذا الْمَوْضُوع. وإلى هذا النَّحْوِ من السِّيرَةِ يرجع أغلب البناءاتِ الْعُقَلاَئِيَّةِ الَّتِي يُراد بها تحليل مرتكزات المتعاملين ومقاصدهم النَّوْعِيَّة فِي المعاملات. ونذكر كمثال عَلَىٰ ذلك تلك السِّيرَةَ القائمةَ عَلَىٰ اشتراط عدم الْغَبْن فِي المعاملة بحيث يكون هذا الاشتراط مَفْهُوماً ضمناً (وإن لم يُصرَّح فِي العقد مِنْ قِبَلِ المتعاملين ولٰكِنَّ هذا الشَّرْطَ موجود فِي ارتكاز الطرفين)، وهذه سيرةٌ تُنَقِّحُ مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِثْبَاتاً (وليس ثُبُوتاً كما فِي النَّحْو الأَوَّل)، أي: يكشف عن أن مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ثابت؛ لأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ الَّذِي ثبت بِالدَّلِيلِ هو النبوي صلى الله عليه وآله وسلم «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وهذا مَا نُسَمِّيهِ فِي كتاب المكاسب بـ«خيار الشَّرْطِ»( [3] ). فإذا فرضنا أن البناء الْعَامّ لدى الْعُقَلاَء هو أنهم لا يرضون بأن تَفُوتَهُمْ ماليةُ مالٍ، بل يرضون بأن يُعَوَّضَ شَخْصُ المالِ بمال آخر مساوٍ له فِي الْمَالِيَّةِ أو إذا اختلف عنه فِي الْمَالِيَّةِ يكون الاختلاف والفارقُ بَسِيطاً جِدّاً. إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه. إذن، المساواة بين الماليتين شرطٌ ضمنيٌّ فِي المعاملات، وإن لم يصرح بها العقلاءُ.
 هنا نقول: إِنَّ هذا البِناءَ الْعُقَلاَئِيَّ يوجب ظُهُوراً حَالِيّاً وَنَوْعِيّاً فِي أنهما قد اشترطا ضمناً المساواةَ فِي الماليتين عُرْفاً (أي: اشترط أحدهما عَلَىٰ الآخر أن لا يكون الاختلاف فاحشاً، أي: اشترطا عدم الْغَبْن)، فَالسِّيرَةُ كشفت هنا عن أن شرط «عدم الْغَبْن» موجودٌ فِي المعاملة، والدليل دَلَّ عَلَىٰ أَنَّهُ متى ما اشترط «عدم الْغَبْن» فالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (أي: نَقَّحَتْ وأثبتت السِّيرَةُ مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، بِمَعْنَى أَنَّهَا كشفت عَنْ أَنَّ مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ (اشتراط الخيار) موجود فِي هذا الحكم الشَّرْعِيّ (وهو ثبوت الخيار).
 ويترتب عَلَىٰ ما ذكرناه من الفرق بين هذين النحوين من السِّيرَة أثرٌ مهمٌّ فِي مقام استنباط الفقيه الحكمَ الشَّرْعِيَّ فِي حق الإنسان الَّذِي يشذُّ عن هذه السِّيرَة ويخالف الآخرين فِي مورد مُعَيَّنٍ؛ فَإِنَّ موقف الفقيه فِي حق هذا الإنسان فِي النَّحْو الأَوَّل يختلف عن موقفه تجاهه فِي النَّحْو الثَّانِي، أي: يختلف حكم الشذوذ عن النَّحْو الأَوَّل عن حكم الشذوذ عن النَّحْو الثَّانِي؛ فَإِنَّ بالإمكان أن يشذ بعض النَّاس عن النَّحْو الأَوَّل كما يمكن أن يشذ بعض النَّاس عن النَّحْوِ الثَّانِي (بأن يقول: إنني أوفِّر للزوجة هذا المستوى الأدنى من وسائل الراحة وإن كان هذا المستوى مخالفاً لسيرة النَّاس والمتعارف بينهم). هنا يظهر الفارق بين النحوين حيث أن موقف الفقيه تجاه الإنسان الأَوَّل (الَّذِي شذ عن السِّيرَة بالنحو الأَوَّل) يختلف عن موقفه تجاه الإنسان الثَّانِي (الَّذِي شذ عن السِّيرَة بالنحوِ الثَّانِي)؛ فَإِنَّ شذوذَ الإنسان الأَوَّل (الَّذِي شذ عن السِّيرَة الموجِدة للموضوع) لا يُؤَثِّرُ فقهيّاً فِي فاعليّةِ هذه السِّيرَةِ؛ لأننا قلنا: إن السِّيرَة توجِد فرداً حقيقياً للموضوع. إذن يجب عَلَىٰ الزَّوْجِ الَّذِي يريد امتثال الحكمِ الشَّرْعِيِّ حقيقةً أن يُنفق عَلَىٰ زوجته بهذا المستوى المتعارف اليوم، فلو أنفق عليها بالمقدار الأقل لم يمتثل الحكم (وهو الإمساك بِالْمَعْرُوفِ) حتَّى وإن كان شاذاً ويخالف الآخرين فِي هذه السِّيرَة، ولكن هذه السِّيرَة عَلَىٰ أي حال حققت الفردَ الحقيقيَّ لموضوع الإنفاق؛ إذ يجب عليه أن يوجِدَ الفردَ الحقيقيَّ للإنفاق، وليس الفرد الادّعائيّ الشاذ الَّذِي يدّعيه.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّ شذوذَ الإنسان الأَوَّل لا يؤثر فِي فاعلية هذه السِّيرَة وَإِنَّمَا تؤثر هذه السِّيرَة أثَرَها وتوجِد فرداً حقيقياً لموضوعِ الحكمِ الشَّرْعِيِّ. فعلى هذا الإنسان الشاذ (إذا كان ملتزماً بالشَّريعة) أن يمتثل الحكمَ الشَّرْعِيَّ امتثالا بهذا النَّحْو فقط وليس أقل من ذلك، ولو كان هو من المخالفين لهذه السِّيرَة؛ فَإِنَّ مخالفتَه لا تغيِّر الحكمَ الشَّرْعِيَّ، وهذا بخلاف النحو الثَّانِي، فإن الشذوذ والمخالفة يؤثر فِي حكم هذا الشخص، كما سوف نرى ذلك إن شاء الله غداً. إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه.


[1] - سورة البقرة (2): الآية 229.
[2] - سورة النساء (4): الآية 19.
[3] - فالحكم هنا هو ثبوت الخيار وَالْمَوْضُوع هو اشتراط الخيار. أي: إذا اشترطتَ خيار الْغَبْن فِي العقد فَسَوْفَ يثبت لك هذا الخيار، أي:هذا الحكم يثبت عَلَىٰ هذا الموضوع.