الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/03/20

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: دلالةُ تقريرِ الْمَعْصُومِ عليه السلام/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 دلالة تقرير الْمَعْصُوم عليه السلام
 
 وَأَمَّا التقرير فهو عبارة عن إمضاء الْمَعْصُوم عليه السلام لموقفٍ يتّخذه غيرُه بمرأى منه ومَسْمعٍ، سَوَاء كان الموقف فَرْدِيّاً مُتَمَثَّلاً فِي سلوك شخصيّ كما إذا مسح امرئٌ في الوضوء رأسه منكوساً (من مقدَّم الرأس إلى مؤخّره) مقابل الْمَعْصُوم عليه السلام، أم كان الموقف اِجْتِمَاعِيّاً مُتَمَثّلاً فِي سلوك عَامّ يُسَمَّىٰ ببناء العقلاء أو السيرة الْعُقَلاَئِيَّة كسيرة العقلاء عَلَىٰ التصرف فِي مال الغير بطيب نفسه ولو لم يأذن لَفْظِيّاً، وكسيرة العقلاء عَلَىٰ التملك بالحيازة فِي المنقولات، وسواء كان الموقف متجسّداً فِي سلوك خارجيّ، كما لاحظنا فِي الأمثلة، أم لم يتجسّد فِي سلوك خارجي وَإِنَّمَا كان مرتكزاً عُقلائيّاً وإن لم يصدر من العقلاء بالفعل سلوك خارجي عَلَىٰ طبقه لعدم تَحَقُّق موضوعه بعدُ، كما إذا كان من المرتكز عند كُلّ عاقل أَنَّهُ إذا قُدِّر له أن يمارس حالة الْمَوْلَوِيَّة ويتقمّص قميصها فَسَوْفَ يجعل خبر الثقة حجةً بينه وبين عبده.
 وإمضاء الْمَعْصُوم عليه السلام للموقف الَّذِي يواجهه قد يكون من خلال لفظ وكلام صادر منه ودال عَلَىٰ الإمضاء، فهذا خارج عن محل البحث وداخل فِي الدَّلِيل الشَّرْعِيّ اللَّفْظِيّ الَّذِي تحدّثنا عن دلالاته فِي البحث السابق.
 وأخرى يكون من خلال فعلٍ أو تركٍ صادر من الْمَعْصُوم عليه السلام ودال عَلَىٰ الإمضاء، فهو أَيْضاً خارج عن محل البحث وداخل فِي الْفِعْل أو التَّرْك الصادر من الْمَعْصُوم وقد فرغنا عن بحثه آنفاً.
 وثالثة: يكون من خلال سكوت الشَّارِع وعدم ردعه عن الموقف الَّذِي واجهه، وهذا هو الَّذِي نريد البحث عنه وهو المراد بـ«التقرير» فِي المصطلح الأُصُولِيّ، فالتقرير إذن هو الإمضاء المكتشف من سكوت الْمَعْصُوم عن الردع عن الموقف الاجتماعي المتمسك فِي السلوك الْعَامّ العقلائي أو المتمثل فِي الارتكاز الْعَامّ العقلائي. ومنه يتضح الحال فِي إمضائه للموقف الفردي المتمثل فِي السلوك الشخصي؛ إذ لَيْسَ فيه نكتة إضافية كما سنرى.
 وعليه فبحثنا الآن إِنَّمَا هو عن «المواقف الْعُقَلاَئِيَّة» سَوَاء تجسّدت فِي سلوك عقلائي خارجي أم كانت عبارة عن ارتكاز عقلائي ولنطلق عَلَىٰ الجميع اسم «السيرة»، ولا توفرت الشروط اللازمة الَّتِي سوف تتضح من خلال البحث إن شاء تعالى تكون السِّيرَةُ دليلا عَلَىٰ الحكم الشَّرْعِيِّ ولكن لا بذاتها، بل باعتبار تقرير الشَّارِع لها وإمضائه المكتشف من سكوت الْمَعْصُوم عن الردع عنها.
 وبالرغم من أن الاِسْتِدْلاَلَ بالسيرة موجود فِي كلمات الأصحاب فِي بعض الموارد، لكنهم لم ينقّحوا بحث «السِّيرَة» عَلَىٰ حدّ تنقيحهم لسائر الأبحاث كبحث حجية خبر الواحد، وبحث الحكم الظَّاهِرِيّ والجمع بينه وبين الحكم الْوَاقِعِيِّ وغيرهما، بينما موارد الحاجة إلى الاِسْتِدْلاَل بالسيرة كثيرة، سَوَاء فِي علم الأُصُول وفي علم الفقه؛ ففي علم الأُصُول نلاحظ أن من أهم الأَدِلَّة الَّتِي يستدل بها عَلَىٰ حُجِّيَّةِ أهمّ الأمارات (كالظهور وخبر الثقة وهما أهم أمارتين فِي الفقه) إِنَّمَا هو السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة كما يستدل بها عَلَىٰ أمارات أخرى أَيْضاً، وفي الفقه أَيْضاً شاع الاستدلال بالسيرة فِي كثير من الفروع والمسائل الفقهية، خُصُوصاً فِي مثل أبواب المعاملات الَّتِي يكون للعقلاء تقنين فيها، فيتمسك بالسيرة لإثبات كثير من النكات، بل الملحوظ هو اتّساع دائرة الاستدلال بالسيرة بالتدريج كلما تقلّصت دائرة الاستدلال بالأدلة الَّتِي كان يُعوّل عليها سابقا فِي الفقه لإثبات المسلّمات والمرتكزات الفقهية، ثُمَّ بطلت بعد ذلك فِي علم الأُصُول تلك الأدلةُ والمدارك الَّتِي كان يُعتمد عليها فِي الفقه. فعلى سبيل المثال كان يُعوَّل سابقا عَلَىٰ «الإجماع المنقول» وعلى «الشهرة» وعلى «إعراض المشهور عن الْعَمَل بخبر صحيح» وعلى «عمل المشهور بخبر ضعيف» ونحوها. فكانت هذه القواعد تكفي وتفي للفقيه بإثبات ما أفتى به القدماء من الأصحاب وما هو المسلّم أو المشهور فِي كلماتهم، وكانت تدفع عنه محذور الوقوع فِي ما يتحرّج الفقيهُ نفسيّاً من الوقوع فيه وهو مخالفة ما هو المسلّم فِي كلمات الأصحاب والَّذِي يُعد خلافه غريبا، حيث أن هناك حالة نفسانية ثابتة فِي نفس الفقيه تمنعه عن مخالفة المسلمات عند الأصحاب، ولذا ترى أَنَّهُ كثيراً ما يذكر فِي الفقه بِالنِّسْبَةِ إلى أمرٍ من الأمور أَنَّهُ يلزم منه تأسيس فقه جديد، ويُجعل هذا دليلا عَلَىٰ بطلان ذاك الأمر، فيقال مثلاً: «لو كانت نتيجة المعاطاة الإباحةُ يلزم منه تأسيس فقه جديد» أو يقال مثلاً: «لو أخذنا بقاعدة لا ضرر فِي المورد الفلاني تأسيس فقه جديد» والَّذِي يظهر من القرائن المحفوفة بكلماتهم ومن سوابق هذا الكلام ولواحقه فِي الموارد المختلفة أَنَّهُ لَيْسَ المقصود بذلك إبطال ذاك الأمر بعمومٍ أو إطلاقٍ أو إجماعٍ، وَإلاَّ لقالوا: إن هذا الأمر ينافي العموم الوارد فِي النصّ الفلاني، أو ينافي إطلاق النص الفلاني، أو ينافي الإجماع، بل الظاهر أن مقصودهم بذلك دعوى ما هو أقوى من الإجماع، وهو أن الالتزام بذاك الأمر عَلَىٰ أساس الدَّلِيل الفلاني يستلزم الالتزام بعدّة أمور يكون الالتزام بمجموعها خلاف الضرورة الفقهية وما هو المسلّم عند الأصحاب، وخلاف ما هو مقطوع به لغاية وضوحه، ولا يمكن التفصيل بين بعض تلك الأمور والبعض الآخر؛ لأن كُلّهَا من وادٍ واحد، ونسبة الدَّلِيل الفلاني إلى كُلّ هذه الأمور عَلَىٰ حد سَوَاء، فنستكشف من ذلك إجمالاً بطلان ذاك الدَّلِيل الفلاني وظهور خلافه عند الأصحاب بنحو يُعدّ ذلك الأمر فقهاً جديداً عَلَىٰ الأصحاب لم يعهدوه.
 وكأنَّ هذه الحالة (أعني حالة رفض مخالفة المسلّمات عند الأصحاب) موجودة فِي نفوس علماء فقهاء الْعَامّة أَيْضاً بِالنِّسْبَةِ إلى مسلمات عصر الصحابة مثلاً، فيرون مخالفة ما كان مسلّماً فِي عصر الصحابة شيئا لا يقبله الطبع.
 ومن هنا يقع الفقيه فِي حرج عندما يصل بحسب مُقْتَضَىٰ الأَدِلَّة والقواعد إلى خلاف ما هو المسلّم عند الأصحاب، فتقع المنافاة عنده بين تلك الحالة النفسية وهي حالة التحرّج من مخالفة المسلّمات عند الأصحاب وبين الأَدِلَّة والقواعد؛ فالحالةُ تزجره وتمنعه عن الإفتاء بالأمر الَّذِي توصّل إليه فِي ضوء الأَدِلَّة والقواعد، نظراً إلى أَنَّهُ يخالف المسلّمات عند الأصحاب، بينما الأَدِلَّة والقواعد تبعثه نحو الإفتاء بذاك الأمر.
 وكأنَّ ما صدر من الْعَامّة من سدّ باب الاجتهاد وحصره فِي الدائرة الرباعيّة وبعض تلامذتهم كان الدافع لهم إليه فِي الواقع هذه الحالة النفسية الكامنة فِي نفوسهم، حيث أن سدّ باب الاجتهاد وحصره فِي تلك الدائرة يعالج لهم تلك المشكلة؛ إذ لا تقع مخالفة بعد هذا بين الأَدِلَّة وبين تلك الحالة النفسيّة؛ لأن الأَدِلَّة هي أدلة الفقهاء الأربعة عَلَىٰ الأحكام، والفقهاء الأربعة لم يخالفوا مسلّمات الصحابة مثلاً، فأراحهم هذا الْعَمَل (أي: سد باب الاجتهاد) عن لزوم تأسيس فقه جديدٍ وحكم غريب عَلَىٰ الصحابة انطلاقاً من الأَدِلَّة والقواعد، كما أن هذا الْعَمَل (أي: سد باب الاجتهاد) أراحهم أَيْضاً عن لزوم تأسيس فقه جديد وحكم غريب عَلَىٰ الصحابة، انطلاقاً من حالة عدم المبالاة بالدين؛ إذ كان كثير منهم لا يبالون بدينهم ولا يتحرّجون من الإفتاء برأيهم وجعل الحكم عند أنفسهم، ولو كان عَلَىٰ خلاف ما هو المسلّم فِي نظرهم عند الصحابة مثلاً.
 وَأَمَّا أصحابنا فقهاء الإمامية رضوان الله عليهم فهو ولله الحمد بعيدون كُلَّ البعد عن هذه الناحية الثَّانية (أعني: تأسيس فقه جديد وحكم غريبٍ مخالفٍ للمسلّمات عند الأصحاب) انطلاقاً من حالة عدم المبالاة بالدين؛ إذ لَيْسَ فِي فقهاء الإمامية عَلَىٰ الإِطْلاَق مَن يجعل الحكم من عند نفسه، وهذه من نِعَم الله تعالى عليهم ومن بركات أهل البيت عليهم أفضل الصَّلاَة والسلام.
 وَأَمَّا الناحية الأولى (تأسيس فقه جديد وحكم غريبٍ مخالفٍ للمسلّمات عند الأصحاب انطلاقاً من الأَدِلَّة والقواعد) فقد كانوا أَيْضاً بعيدين عنها سابقا؛ لأن أدلّتهم وقواعدهم كانت بنحوٍ يتّسق مع المسلّمات والمشهورات بين الأصحاب وذلك لأن جملةً منهم كان يقول بحجية الإجماع المنقول، وجملة منهم كان يقول بحجية الشهرة أَيْضاً، وجملة منهم كان يقول بجبر ضعف سند الخبر بعمل الأصحاب وبوهن الخبر الصَّحِيح سنداً بإعراض الأصحاب، بل تعمّقوا فِي هذا المضمار أكثر من ذلك، فقال بعضهم بانجبار الدِّلاَلَة أَيْضاً بعمل الأصحاب، ويوجد مثل ذلك فِي كلمات الشيخ الأَعْظَم الأنصاري قده (مع أَنَّهُ يقال أَنَّهُ مؤسس صناعة الأُصُول الموجودة بأيدينا اليوم وإن كان الصَّحِيح أن مؤسس الأُصُول بمرحلته المألوفة اليوم هو الوحيد البهبهانيّ &( [1] )) فَإِنَّهُ عَلَىٰ سبيل المثال قد يقول: لعل هذا الحديث دلالته منجبرة بعمل الأصحاب، وقد يقال: إن إطلاق دليل القرعة إِنَّمَا نعمل به فِي موردٍ عَمِلَ به الأصحاب فيه، ونحو ذلك مِمَّا يوجد فِي كلماتهم.
 وهذه المباني والأدلة والقواعد كانت تدفع عنهم محذور الوقوع فِي مخالفة تلك الحالة النفسية وتأسيس فقهٍ جديد وحكم غريب مخالفٍ للمسلّمات عند الأصحاب انطلاقاً من الأَدِلَّة والقواعد.
 ولكنَّ المتأخرين من الأصحاب رحمهم الله أخذوا يهدمون هذه المباني والقواعد شيئاً فشيئاً، فقد كان هدم بعضها من قِبَل الوحيد البهبهاني ومن بعده الشيخ الأنصاري رحمهما الله سُلَّماً لوصول مَن تأخّر عنهما من الأصحاب إلى نهاية ما يقتضيه هذا المسلك من هدم كُلّ تلك المباني والقواعد؛ إذ كان التفطّن إلى بطلان بعضها مستدعياً للتفطّن بالتدريج إلى بطلان ما يشابهه، وكأّنَّ السَّيِّدَ الأُسْتَاذَ الْخُوئِيَّ رحمه الله من أوائل مَن بَنى عَلَىٰ عدم انجبار ضعف السَّنَدِ (فضلاً عن الدِّلاَلَة) بعمل الأصحاب، وعدم وهن صحّة السند بإعراضهم.
 وقد كانوا فِي أوائل أيام الشروع فِي إبطال هذه المباني والقواعد يبطلونها فِي «الأُصُول» ولكن يتمسّكون بها فِي «الفقه»، ولذا كان يُشكَل عليهم بأن «الإجماع المنقول» مثلاً أصبح فِي «الأُصُول» فيرجحه ولٰكِنَّهُ فِي «الفقه» حجة وترى الشيخ الأَعْظَم الأنصاري رحمه الله يجعل لمثل الإجماع المنقول أثراً مهمّاً فِي الفقه والإفتاء مع إبطاله إيّاه فِي الأُصُول.
 وواقع المطلب هو أن الدافع لهم فِي الحقيقة إلى الإفتاء بعدّة من الفتاوى والأحكام الَّتِي يتراءى أنهم استندوا فيها إلى أدلّةٍ من قبيل «الإجماع المنقول» و«الشهرة» ونحوها إِنَّمَا هو عبارة عن تلك الحالة النفسية المذكورة الَّتِي كانت تمنعهم عن مخالفة المسلّمات عند الأصحاب، ولكنّ التزامهم بالفنّ كان مانعاً عن ظهور ذلك لهم بوضوح وموجباً للاستنكاف من الإفتاء بشيءٍ رغم اعترافهم بعدم اقتضاء الأدلّة والقواعد له، فكان أثر تلك الحالة النفسية يبرز لهم فِي شكل دليلٍ من قبيل «الإجماع المنقول» و«الشهرة» ونحو ذلك كي لا يكون إفتاؤهم بتلك الفتاوى والأحكام خروجا عن الفنّ وإفتاءًا بما لا تقتضيه القواعد والأدلة، بينما الدَّلِيل الحقيقي الْوَاقِعِيِّ لهم عَلَىٰ تلك الفتاوى إِنَّمَا هو تلك الحالة النفسية دون هذه الأَدِلَّة الَّتِي استندوا إليها (مثل الإجماع المنقول والشهرة ونحوهما) ولذا تراهم ينكرون هذه الأَدِلَّة فِي الأُصُول ويعملون بها ويستندون إليها فِي الفقه؛ لوجود نفس الدافع السابق والَّذِي كان موجوداً عند مَن تقدّم عليهم ونفس الدَّلِيل الحقيقي الكامن فِي النفس، فكأن واقع الدَّلِيل لم يبطل ولا زال باقيا فِي النفس، وإن بطلت الأدلّةُ الصورية الَّتِي كانت فِي الحقيقة وليدةً لواقع الدَّلِيل ولتلك الحالة النفسية.
 إلى أن انتهى الأمر بالتدريج إلى جعل ما فِي علم الأُصُول الجديد من إبطال هذه المباني مؤثّراً عَلَىٰ الفقه، فترى السَّيِّدَ الأُسْتَاذَ الْخُوئِيَّ رحمه الله يبني فتاواه فِي الفقه عَلَىٰ ما يقتضيه إنكار الجبر بالعمل وإنكار الوهن بالعمل ونحو ذلك مِمَّا تنقّح فِي الأُصُول.
 ولأجل هذه التطوّرات بدأت تلك الحالة النفسية تظهر فِي مظهر آخر وهو حُجِّيَّة «السِّيرَة» ولذا ترى الاستدلال بالسيرة فِي ألسنة المتأخرين عن الشيخ الأَعْظَم رحمه الله كثيراً، بينما هو فِي لسان الشيخ قليلٌ، ناهيك عَمَّا قبله.
 هذا هو معنى ما قلناه من اتّساع دائرة الاستدلال بالسيرة بالتدريج كلّما تقلّصت دائرة الاِسْتِدْلاَل بالأدلة الَّتِي كان يعوّل عليها سابقاً فِي الفقه لإثبات المسلّمات والمرتكزات الفقهية ثُمَّ بطلت بعد ذلك فِي علم الأُصُول مثل الإجماع المنقول والشهرة والجبر بالعمل والوهن بالإعراض ونحو ذلك.
 ومن هنا فقد اشتدّت الحاجة إلى بحث «السِّيرَة» بعد أن بطلت تلك المدارك الفقهية، وَأَمَّا الإجماع المحصّل واتفاق الكلّ، فدعوى القطع به ليست بأهون من دعوى القطع بالحكم ابتداءً.
 ومن هنا أصبحنا بحاجة ماسة اليوم إلى بحث وافٍ فِي نفس دليليّة «السِّيرَة» قبل استعمالها كدليل لإثبات غيرها بها، وفي شروط هذه الدليلية ونكاتها حتَّى نكون عَلَىٰ بصيرة ورؤية واضحة منها من حيث كيفية الاستدلال بها، وأنه متى يكون الاستدلال بها صحيحاً؟ ومتى لا يكون؟
 ومن أجل ذلك رأى سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ رحمه الله أن من الضروري عقد بحث مستقل فِي علم الأُصُول عن «السِّيرَة» بعنوانها، وهذا هو الصَّحِيح، وهو الَّذِي قام به رحمه الله فِعْلاً؛ فقد عقد بحثاً رائعاً عن السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة والمتشرعية أبرز فيه الأسس والقوانين والنكات الَّتِي يبتني الاِسْتِدْلاَل بالسيرة عَلَىٰ أساسها كما سوف نرى ذلك إن شاء الله تعالى.
 فحطّت «السِّيرَة» بفضل هذا البحث البديع الرفيع قوائمها عَلَىٰ أسس متينة وقوانين رصينة ونكات جمّة، فهو بحث جديد تماماً عَلَىٰ علم الأُصُول، لا تجد أصوليّاً طرقه من قبل، وكم له رحمه الله فِي «الأُصُول» من مثل ذلك من الأبحاث القيّمة والجواهر الثمينة والدرر المضيئة الَّتِي تبهر العقول، مَلأَ بها مدرستَه الأصولية الفريدة.
 ولا غرو، فهو ذاك الأُصُولِيّ العملاق الَّذِي أسّس هذه المدرسة الأصولية الرصينة وهذا البنيان الأُصُولِيّ الشامخ والمرصوص الَّذِي فاق المدارسَ الأصولية الأخرى دقّةً واستيعاباً وإبداعاً مِمَّا يجعلنا نعتبر المرحلة الَّتِي وصل إليها مستوى هذا العلم عَلَىٰ يديه رحمه الله طفرةً حقيقيةً وقفزةً نوعية متميّزة فِي هويّتها عَلَىٰ من المراحل السابقة لهذا العلم.
 فلَئِن كان عصر الوحيد البهبهاني ومن بعده الشيخ الأنصاري رحمه الله هو عصر كمال علم الأُصُول، فالعصر الَّذِي دخل فيه علم الأُصُول عَلَىٰ يد سَيِّدِنَا الأُسْتَاذِ الشَّهِيدِ رحمه الله هو عصر قمّة كماله وذروة تمامه. فلله درّه وعليه أجره.
 ولندخل الآن فِي بحث «السِّيرَة» والكلام حولها يقع فِي جهات عديدة:
 الجهة الأولى: فِي أقسام السِّيرَة.
 الجهة الثَّانية: فِي كيفية الاستدلال بها عَلَىٰ الحكم الشَّرْعِيّ.
 الجهة الثَّالثة: فِي تخصيص الحكم الشَّرْعِيّ الَّذِي يثبت بسيرة المتشرعة.
 الجهة الرابعة: فِي حدود إمضاء الشَّارِع عليه السلام لسيرة العقلاء.
 الجهة الخامسة: فِي الفوارق بين «سيرة العقلاء» و«سيرة المتشرّعة».
 وفيما يلي نَتَحَدَّثُ عن هذه الجهات تباعاً.


[1] - راجع فِي ذلك >المعالم الجديدة<.