الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/03/12

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: تنبيهات مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 التَّنبيه الثَّانِي
 هو أَنَّهُ قد اتضح فِي ضوء ما ذكرناه فِي الأمر الأَوَّل من الأمور الَّتِي ذكرناها فِي التَّنْبِيه الأَوَّل أن الإِطْلاَق لَيْسَ مدلولاً تصوُّريّاً للكلام بل هو مدلول تصديقي للكلام، والآنَ نريد أن نرتب شيئاً عَلَىٰ هذا المطلب وهو أَنَّهُ لطالما الإِطْلاَق مدلول تصديقي للكلام إذن يترتَّب عليه أن الإِطْلاَق لا يجري فِي الجمل الناقصة؛ إذ لَيْسَ لها مدلول تصديقي (مثل المضاف والمضاف إليه) بل مدلولها تصوري بحت، وقد قلنا إن مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ لا تشخّص ما هو المدلول التَّصَوُّرِيّ للكلام، فإن هذا يؤخذ من نظام اللغة والعلاقة اللغوية الثَّابِتَة بين الألفاظ ومعانيها.
 أَمَّا الجمل التَّامَّة فهي مشتملة عَلَىٰ معانٍ اسمية ومعان حرفية؛ فَإِنَّ مثل جملة >أَكْرِمِ الْعَالِمَ< تشتمل عَلَىٰ معنى حَرْفِيّ وهو عبارة عن النِّسْبَة التامة الإِرْسَالِيَّة الَّتِي تَدُلُّ عليها هيئة >أكرم<، وتشتمل عَلَىٰ معنيين اسميين وهما >الإكرام< الَّذِي هو المتعلَّق والَّذِي تَدُلُّ عليه مادة >أكرم< الَّتِي هي اسم جنس، والآخر >العالم< الَّذِي هو الْمَوْضُوع والَّذِي يَدُلّ عليه لفظ >العالم< الَّذِي هو أَيْضاً اسم جنس.
 وهذان المعنيان الاسميان هما فِي الواقع أحد طرفي النِّسْبَة التامة الإِرْسَالِيَّة، وهو المرسل إليه، وَأَمَّا الطَّرف الآخر فهو المرسَل (أي: المخاطب) وهو أَيْضاً معنى اسمي، لكن لا يَدُلّ عليه اسم جنس، بل يَدُلّ عليه الضمير المستتر فِي >أكرم<.
 إذن، فالمعاني الاسمية الَّتِي تشتمل عليها الجملة التامة هي فِي الواقع أطراف المعنى الْحَرْفِيّ الَّذِي تشتمل عليه الجملة، ولا إشكال فِي جريان الإِطْلاَق فِي المعاني الاسمية وأطراف النِّسْبَة التامة إذا كانت مداليل لأسماء الأجناس؛ ذلك طبقا لما تَقَدَّمَ من بحوث فِي نَظَرِيَّة الإِطْلاَق، ففي المثال المذكور يجري الإِطْلاَق فِي كُلّ من >الإكرام< و>العالم<، غاية الأمر أن الإِطْلاَق فِي >الإكرام< بدليّ، وفي >العالم< شمولي كما سيأتي قريباً التعرض له إن شاء الله تعالى.
 وَأَمَّا المعنى الْحَرْفِيّ نفسه (كالنسبة التامة الإِرْسَالِيَّة فِي المثال المتقدم الَّتِي هي مفاد هيئة >إكرام< وَالَّتِي وقع المدلول التَّصْدِيقِيّ والمراد الجدّيّ لِلْمُتَكَلِّمِ بإزائها) فهل يجري فيه الإِطْلاَق أم لا؟ هل الإِطْلاَق يجري فِي المعاني الحرفيَّة والنسب؟ فيه بحث وكلام وخلاف بينهم، حيث يُدعى أن المعنى الْحَرْفِيّ لا يمكن أن يجري الإطلاق فيه، وقد تعرضنا لذلك وأجبنا عنه فِي بحث معاني الحروف والهيئات وكذلك فِي بحث مفهوم الشَّرْط.
 
 التَّنبيه الثَّالِث
 
 إن تقسيم الإِطْلاَق إلى شمولي وبدلي لَيْسَ بلحاظ نفس ما تنتجه مقدماتُ الحكمة، بل لهما مقياس آخر.
 وتوضيحه: أن الإِطْلاَق قد يكون شموليا كما فِي {البيع} من قوله تعالى: {وأحل الله البيع}، كما قد يكون بَدَلِيّاً كما فِي >الرقبة< من قوله: >اعتق رقبة<، بل قد يكون الإِطْلاَق فِي حكم واحد شموليا بلحاظ موضوعه وَبَدَلِيّاً بلحاظ متعلقه، كما فِي قوله: >أَكْرِمِ الْعَالِمَ<، حيث أَنَّهُ بلحاظ أفراد العالم يكون الحكم شموليا، ولكن بلحاظ أفراد الإكرام يكون الحكم بَدَلِيّاً، كما أَنَّهُ قد يكون الإِطْلاَق بلحاظ الْمُتَعَلَّق أَيْضاً شموليا كما فِي >الكذب< من قوله: >لا تكذب<.
 ومن هنا يأتي السؤال عن منشأ الشُّمُولِيَّة والْبَدَلِيَّة مع كون الدَّال عَلَىٰ الإِطْلاَق فِي جميع هذه الموارد شَيْئاً واحداً وهو عبارة عن مقدمات الكمة، فكيف اختلفت النَّتِيجَة مع وحدة الْمُقَدَِّمَة؟
 وقد تعرضنا لهذا البحث مُفَصَّلاً فِي بحث دلالة الأمر عَلَىٰ المرة أو التَّكْرَار، وأيضا فِي بحث دلالة النهي، وقلنا: إن الإِطْلاَق الَّذِي تنتجه مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ لَيْسَ سوى شيء واحد وهو ثبوت الحكم عَلَىٰ ذات الطَّبِيعَة بلا قيد، إلا أن هذه الطَّبِيعَة إذا وقعت موضوعاً للحكم فالأمر يختلف عَمَّا إذا وقعت متعلقاً للحكم، ووقوعها مَوْضُوعاً للحكم مِنْ دُونِ تنوين الوحدة يختلف عن وقوعها موضوعاً للحكم مع تنوين الوحدة، كما أن وقوعها متعلقاً للأمر يختلف عن وقوعهاً متعلقاً للنهي، فعليك بمراجعة البحثين لمعرفة النكات والتفاصيل.
 
 التَّنبيه الرَّابِع
 
 وهو أن الإطلاق أحياناً لا يَتُِمّ ولا ينعقد فِي بعض الموارد بسبب >الانصراف<( [1] ) الَّذِي هو عبارة عن حالة معينة قد تؤدي إلى عدم تَمَامِيَّة مقدمات الحكمة وعدم انعقاد الإِطْلاَق، ويُقصد بـ>الانصراف< أن يتبادر إلى الذِّهْن عند سَمَاع اللَّفظ حصّة خاصّة من حصص الطَّبِيعَة، أو فرد خاصّ من أفراد الطَّبِيعَة الَّتي وُضع اللَّفظُ لها؛ وذلك بسبب أنس ذهني بتلك الحِصَّة أو بذاك الفرد، وهو عَلَىٰ أقسام ثلاثة باعتبار أن سبب الأنس الذهني المذكور أحد أمور ثلاثة والأقسام هي:
 القسم الأَوَّل: هو الانصراف النّاشِئ من كثرة وجود تلك الحصة الخاصة (أو الفرد الخاص) المأنوسة إلى الذِّهْن من بين سائر حصص الطَّبِيعَة وغلبة وجودها فِي الخارج وندرة وجود سائر الحصص، فقد توجب هذه الغلبة فِي الوجود والكثرة الخارجية أنس الذِّهْن بتلك الحصة الغالبة الكثيرة، ويكون هذا الأنس هو السَّبَب فِي انصراف اللَّفْظ عند سماعه إلى تلك الحصة وتبادرها بالخصوص إلى الذِّهْن.
 ومثاله أن نفرض شخصاً يعيش فِي بلد يكثر فِيه الإنسان الأسود، فقد توجب هذه الكثرة أنس ذهنه بخصوص الإنسان الأسود، ويكون هذا الأنس هو السَّبَب فِي انصراف لفظ >إنسان< عند سماعه مِنْ قِبَلِ هذا الشخص إلى خصوص الإنسان الأسود وتبادره إلى ذهنه.
 وكذلك العكس فيما إذا فرضنا شخصاً يعيش فِي بلد يكثر فيه الإنسان الأبيض، فقد توجب هذه الكثرة الأنس بخصوص الأبيض وَبِالتَّالِي انصراف اللَّفْظ إليه وتبادر الأبيض إلى ذهن هذا الشخص عند سَمَاع لفظ >الإنسان<.
 وهذا القسم من الانصراف لا علاقة له بِاللَّفْظِ والدليل أصلاً، بل هو انصراف بدوي لا أثر له فِي فهم المعنى من الدَّلِيل ولا يوجب هدم الإِطْلاَق والمنع عن انعقاده وإعاقة مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ؛ لأَنَّ فهم ذلك المعنى الخاص وتبادر تلك الحصة الخاصة إلى الذِّهْن لَيْسَ مسبَّباً عن اللَّفْظ ومستنداً إليه وليس ظهوراً للكلام بما هو كلام، بل هو فهم مسبّب عن الغلبة والكثرة الخارجية مِنْ دُونِ أَنْ يَكُونَ للكلام دخل فيه.
 إذن، فيبقى اللَّفْظ دالاً عَلَىٰ معناه الَّذِي وضع له وهو الطبيعي ويكون مُقْتَضَىٰ الظُّهُور الْحَالِيّ السِّيَاقِيّ الَّذِي ذكرناه أن الْمُتَكَلِّم قد أراد الإِطْلاَق؛ إذ لو كان قد أراد هذه الحصة الخاصة لم يكن كلامه وافيا ببيانه، فيلزم الخلف، فمقدمات الحكمة تَامَّة.
 أجل، إذا كانت ندرة سائر الحصص الَّتِي انصرف عنها الذِّهْن بالغة إلى درجة بحيث لا تُرى عرفاً أَنَّهَا من أفراد هذه الطَّبِيعَة، ويُرى أن اللَّفْظ لَيْسَ موضوعاً للمقسم الشامل لها فَحِينَئِذٍ ينهدم الإِطْلاَق لعدم تَمَامِيَّة مُقَدَِّمَة الْحِكْمَةِ؛ إذ لو أراد الْمُتَكَلِّم هذه الحصة الخاصة لم يلزم الخلف، لوفاء الكلام ببيانه؛ إذ المفروض ضيق مدلول اللَّفْظ واقتصاره عَلَىٰ هذه الحصة.


[1] - بحث الانصراف بحث مُهِمّ؛ لأَنَّهُ فِي الفقه كَثِيراً ما تُناقَش الإطلاقاتُ بالانصراف.