الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/03/11

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: تنبيهات مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 تنبيهات مقدّمات الحكمة
 بعد أن انتهينا قبل العطلة من الحديث حول الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة بقيت فِي المقام عدّة تنبيهات بها تكتمل نَظَرِيَّة الإِطْلاَق:
 
 التَّنبيه الأوّل
 هو أَنَّهُ فِي ضوء ما ذكرناه فِي صياغة الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة وتفسير الإِطْلاَق تتضح عدّة أمور كثيراً مّا تتردد عَلَىٰ الألسن وكُنَّا نحيل تحقيقها عَلَىٰ بحث دلالة المطلق، فقد آن الأوان لذكرها وَفقاً للتفسير الَّذي قدّمناه للإطلاق ومقدّمات الحِكْمَة:
 الأمر الأوّل: هو أن الإِطْلاَق مدلول تصديقي للكلام وليس مدلولاً تصوُّراً، ووجه ذلك واضح فِي ضوء ما تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ ملاك الإطلاق وأساس دلالة الكلام عليه كما عرفت هو الظُّهُور الْحَالِيّ السِّيَاقِيّ لِلْمُتِكَلِّمِ فِي كونه بصدد بيان تمام ما هو دخيل فِي مراده الْجِدِّيّ (وهو الجعل والحكم) وهذا لا ينتج أكثر من إثبات ما هو المدلول التَّصْدِيقِيّ (أي: الحكم وحدوده)؛ فقرينة الحكمة الدالة عَلَىٰ الإِطْلاَق ناظرة إلى المدلول التَّصْدِيقِيّ للكلام ابتداءً ولا تدخل فِي تكوين المدلول التصوري للكلام، خِلاَفاً لما إذا قيل بأن الدِّلاَلَة عَلَىٰ الإِطْلاَق وَضْعِيَّة، باعتباره قَيْداً مَأْخُوذاً فِي المعنى الَّذِي وضع له اللَّفْظ؛ فَإِنَّ الدِّلاَلَة الإِطْلاَقِيَّة تدخل حِينَئِذٍ فِي تكوين المدلول التَّصَوُّرِيّ.
 الأمر الثَّانِي: (وَالَّذِي أيضاً تكررت الإشارةُ إليه فِي البحوث السَّابِقَة) هو أن الإِطْلاَقَ لا يُثبت الحكمَ عَلَىٰ الأفراد، وإنَّما يُثبته عَلَىٰ ذات الطَّبِيعَة خِلاَفاً للعموم، وقد اتضح وجه هذا الفرق فِي ضوء ما تقدّم قبل العطلة؛ فَإِنَّ الإِطْلاَق عبارة عن عدم دخل القيد فِي مَوْضُوع الحكم زَائِداً عَلَىٰ الطَّبِيعَة، وهذا غاية ما يقتضيه إثبات الطَّبِيعَة المطلقة، والطبيعة المطلقة ليست غير لحاظ الماهية وعدم لحاظ القيد، وَبِالتَّالِي لا نظر لها إلى الأفراد، وَإِنَّمَا المستفاد فِي هذه المرحلة هو ثبوت الحكم للطبيعي، وَأَمَّا ثبوت الحكم للأفراد وسرايته إلى كُلّ فرد فردٍ فليس مدلولاً لِلدَّلِيلِ المطلق نفسه، وَإِنَّمَا هو بحكم العقل القائل بانحلال الحكم فِي مرحلة التطبيق والفعلية بعدد الأفراد، وهذا بخلاف باب العموم حيث أن الدَّلِيل الْعَامّ ناظر إلى الأفراد مباشرة؛ فالأفراد متصوَّرة ومدلولة له ولو إجمالاً.
 فلو قال: {أحل اللٰه البيع}، الإِطْلاَق يقول: قيد >البلوغ< لَيْسَ دخيلاً فِي الحكم بحلية البيع وصحته ونفوذه، أو قيد >الإسلام< لَيْسَ دخيلاً، أو أي قيد آخر يُشك فيه. وهذا معناه أن مَوْضُوع الحكم ذات طبيعة البيع. فالإطلاق لا يثبت أكثر من هذا المقدار وهو أن الحكم منصب عَلَىٰ ذات الطَّبِيعَة، أَمَّا سراية الحكم من الطَّبِيعَة إلى الأفراد ليست بموجب الإطلاق ومقدّمات الحِكْمَة، بل هو بموجب عامل آخر. الإطلاق بنفسه لا يقتضي ثبوت الحكم عَلَىٰ الأفراد. بل يقتضي ثبوت الحكم عَلَىٰ الطَّبِيعَة. فتدل {أحل اللٰه البيع} بإطلاقها عَلَىٰ أن الحلية والنفوذ ثابت لذات البيع وطبيعته، أَمَّا سراية هذا الحكم إلى هذا البيع وذاك البيع فهذا لا يثبت بهذا الدَّلِيل المطلق، وإنَّما بحكم عقلي، كما ذكرناه فِي مورده ومحله. فالعقل يقول: إذا انصب الحكم فِي مرحلة الجعل عَلَىٰ ذات الطَّبِيعَة إذن يَنْحَلُّ هذا الحكم فِي مرحلة المجعول إلى مجعولات عديدة بعدد الأفراد. فهذا انحلال فِي مرحلة الفعليّة والتطبيق والمجعول.
 الأمر الثَّالث: هو أن الإِطْلاَق عبارة عن رفض القيود لا جمعها، وقد تبين وجه هذا أَيْضاً من خلال ما تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ الإِطْلاَق هو استشكاف عدم دخل القيد فِي المرام ثبوتاً من عدم ذكره فِي مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِثْبَاتاً، فهو انتقال من عدم القيد إِثْبَاتاً إلى عدم دخله ثُبُوتاً، لا إلى دخل القيود جميعا فِي الْحُكْمِ؛ فَإِنَّ هذا أمر زائد لا تقتضيه مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ بوجهٍ كما لا يخفى.
 وبعبارة أخرى: إن ثبوت الحكم لواجد القيد ولفاقده لَيْسَ بلحاظ أن هذا واجد للقيد وذاك فاقد له، بل ثبوته لهما إِنَّمَا هو بلحاظ الحقيقة المشتركة المحفوظة فيهما معاً، فلا الوجدان قيد دخيل فِي ثبوت الحكم ولا الفقدان له؛ لأَنَّ مُقْتَضَىٰ التطابق بين مدلول الكلام وتمام المرام هو أن تمام المرام لا يزيد عَلَىٰ مدلول الكلام، ووجود القيد لَيْسَ داخلاً فِي مدلول الكلام، وَحِينَئِذٍ يخرج عن المرام.
 إذن، فالإطلاق هو إخراج القيد ورفضه عن المرام تبعاً لخروجه ورفضه عن مدلول الكلام.
 الأمر الرَّابِع: هو أن الإِطْلاَق والتقييد الإثباتيين متقابلان تقابل العدم والملكة، بخلاف الإِطْلاَق والتقييد الثبوتيين فِي عالم الجعل فهما متقابلان تقابل النقيضين (أي: تقابل السَّلْب والإيجاب). وقد اتضح وجه هذا مِمَّا تَقَدَّمَ أَيْضاً؛ فَإِنَّ عدم نصب القرينة عَلَىٰ القيد إِنَّمَا ينتج الإِطْلاَق ويكشف عنه فِي مورد يكون الْمُتَكَلِّم فيه قادراً عَلَىٰ ذكر القيد ولا يكون ممنوعاً عنه لتقيةٍ أو عجزٍ أو ضيق وقت أو غير ذلك من الأسباب، وَإلاَّ فلا تنشأ الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِيَّة للظهور الْحَالِيّ وعدم ذكر القيد عَلَىٰ إرادة الإِطْلاَق كما هو واضح.
 وبعبارة أخرى: إن الإِطْلاَق الحَكَمِيّ المنصبّ عَلَىٰ الطَّبِيعَة رهين لمُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ الَّتِي من جملتها عدم نصب قرينة عَلَىٰ القيد، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ ترك نصب القرينة عَلَىٰ القيد:
 تَارَةً: يكون لعدم قدرة الْمُتَكَلِّم لساناً عن نصبها وذكرها لأمثال الموانع الَّتِي أشير إليها آنفاً.
 وأخرى: يكون عدم ذكر القيد رغم تمام الاقتدار عَلَىٰ ذكره إثباتاً.
 وعلى الثَّانِي يلزم من إرادة الْمُقَيَّد الخلف لذاك الظُّهُور الْحَالِيّ السِّيَاقِيّ لِلْمُتَكَلِّمِ؛ لأَنَّهُ فِي مقام بيان تمام مراده بشخص كلامه، فلو كان مراده الْمُقَيَّد وهو قادر عَلَىٰ ذكر القيد ومع هذا لم يذكره فهو مخالف للظهور الْحَالِيّ المذكور، وببرهان استحالة الخلف يثبت الإِطْلاَق، وَبِالتَّالِي هو يريد الإطلاق.
 وَأَمَّا إن فرض الشق الأَوَّل وهو أن الْمُتَكَلِّم غير قادر عَلَىٰ ذكر القيد إِثْبَاتاً تَكْوِيناً، فَحِينَئِذٍ لا يكون إرادة الْمُقَيَّد خُلفاً؛ إذ قد يكون تمام مراده الْمُقَيَّد وهو فِي مقام بيان تمام المرام، لٰكِنَّهُ حيل ما بينه وبين ذكر القيد لعارض العجز فِي اللسان أو ما شابه ذلك، فَحِينَئِذٍ لا يلزم الخلف من إرادة الْمُقَيَّد ومعه لا يتعين كون المطلق هو المرام، وَبِالتَّالِي لا ينعقد الإِطْلاَق ولا يكون الكلام حِينَئِذٍ مُطْلَقاً كما أَنَّهُ لَيْسَ مُقَيَّداً أيضاً لعدم ذكر القيد ففي موارد عدم إمكان ذكر القيد ينتفي كُلّ من الإِطْلاَق وَالتَّقْيِيد الإثباتيين؛ لأَنَّ الإِطْلاَق الإِثْبَاتِيّ هو عدم ذكر التقييد إِثْبَاتاً عند إمكانه.
 وهذا بخلاف الإِطْلاَق الثبوتي الَّذِي معناه عدم لحاظ القيد؛ فَإِنَّهُ يقابل التقييد الثبوتي الَّذِي معناه لحاظ القيد تقابل السلب والإيجاب؛ ففي موارد عدم إمكان لحاظ القيد (نظير ما يذكر فِي بحث التَّعَبُّدِيّ وَالتَّوَصُّلِيّ من عدم إمكان لحاظ القيود الَّتِي هي من التقسيمات الثَّانَوِيَّة للحكم كقيد >قصد امتثال الأمر< فِي مُتَعَلَّق الأمر فِي مقام الجعل) حيث أن التقييد الثبوتي غير ممكن، فيتعيّن الإِطْلاَق الثبوتي؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين.
 ونلخص النقاط المذكورة فِي التَّنْبِيه الأَوَّل فِي أربعة أمور كالتالي:
 1)_ الإِطْلاَق مدلول تصديقي وليس تصوُّريّاً.
 2)- الإِطْلاَق عبارة عن كون الحكم مُنْصَبّاً عَلَىٰ الطَّبِيعَة وليس عَلَىٰ الأفراد.
 3)- الإِطْلاَق هو رفض القيود وليس جمعاً للقيود.
 4)- الإِطْلاَق وَالتَّقْيِيد الإثباتيان متقابلان تقابل العدم والملكة بخلاف الإِطْلاَق وَالتَّقْيِيد الثبوتيين فإِنَّ تقابلهما تقابل السلب والإيجاب (أو قل التناقض).