الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/02/16

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: مقدّمات الحكمة/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 وأَمَّا الصيغة الثَّانية: فمن الطَّبِيعِيّ أن لا يرد عليها الإشكال النقضي الْمُوَجَّه إلى الصيغة الأولى؛ لأَنَّ بإمكاننا أن نتمسك بإطلاق الكلام قبل مجيء القرينة حتّى مع احتمال مجيئها فِي المستقبل ولا نتوقف عن العمل به إلى حين مجيء القرينة فِي المستقبل.
 فمثلاً لو قال فِي يوم السبت: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» ولم يردف كلامه بقرينة متصلة، ينعقد لكلامه إطلاق فِي يوم السبت. وحيث أن هذا الإطلاق مشروط بعدم القرينة المنفصلة والمفروض أَنَّهُ لا توجد قرينة منفصلة يوم السَّبت، فيستمرّ الإِطْلاَق إلى يوم الأحد. واستمرار الإطلاق إلى يوم الأحد منوط بعدم قرينة منفصلة إلى يوم الأحد. وهكذا يوم الاثنين وباقي الأيام.
 بينما بناءًا عَلَىٰ الصيغة الأولى كان الإطلاق فِي يوم السبت مَنُوطاً بعدم القرينة يوم الأحد، حيث كُنَّا نستكشف عدم انعقاد الإطلاق منذ يوم الأحد بمجيء القرينة يوم الأحد. وهذا ينتج مقصودَ الْمُحقق النائيني؛ فإن مقصوده هو أَنَّهُ متى ما تأتي القرينة فِي المستقبل ينهدم الإِطْلاَق من حين مجيئها، وبذلك يمكن التخلّص من النقض الوارد عَلَىٰ الصيغة الأولى مع التَّحَفُّظ عَلَىٰ أصل المبنى، إلاَّ أن هذه الصيغة الثَّانية كالصيغة الأولى لا تسلم من الإشكال والاعتراض، لا حلاًّ ولا نقضاً:
 أَمَّا الإشكال الحلي عَلَىٰ الصيغة الثَّانية: فَلأَنَّها وإن لم يرد عليها الوجدانُ الَّذي ادّعيناه فِي الصيغة الأولى (لأَنَّ الصيغة الثَّانية لا تنافي عملَ العقلاء بإطلاق الكلام قبل مجيء القرينة المنفصلة مستقبلاً) إلاَّ أنَّها غير معقولة ثبوتاً؛ لأَنَّ أصل هذا الشرط الَّذي أضافه الميرزا (وهو اشتراط عدم القرينة المنفصلة) لَم يشترطه الميرزا جزافا؛ وإنَّما اشترطه لعدم تكوّن الدِّلاَلَة عَلَىٰ الإِطْلاَق لكلام الْمُتِكَلِّم مِنْ دُونِ هذا الشَّرْط. فكأنه يرى أن الظُّهُور الْحَالِيّ (الَّذي هو أساس الإِطْلاَق) هو الَّذي يفرض علينا أن نشترط هذا الشَّرْط لكي يلزم الإِطْلاَق من ذاك الظُّهُور، وإلاَّ فمِنْ دُونِ هذا الشَّرْط لا يكون لازم ذاك الظُّهُور الإِطْلاَق. فإذا كان الأمر هكذا فلا بُدَّ لنا من مراجعة هذا الظُّهُور الْحَالِيّ لكي نعرف مقتضى هذا الظُّهُور! فهل يقتضي حقّاً مثل هذا الشَّرْط الَّذي اشترطه الميرزا أم لا؟
 ولدى مراجعتنا لهذا الظُّهُور الْحَالِيّ نجد أن فيه احتمالات ثلاثة:
 الاحتمال الأوّل: أَنْ يَكُونَ هذا الظُّهُور عبارة عن ظهور حال الْمُتِكَلِّم فِي أَنَّهُ بصدد بيان تمام مرامه بشخص كلامه.
 الاحتمال الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هذا الظُّهُور عبارة عن ظهور حال الْمُتِكَلِّم فِي أَنَّهُ بصدد بيان تمام مرامه بجموع كلامه الْفِعْلِيّ والاستقبالي.
 الاحتمال الثَّالث: أَنْ يَكُونَ هذا الظُّهُور عبارة عن ظهور حال الْمُتِكَلِّم فِي أَنَّهُ بصدد بيان تمام مرامه بجموع ما هو فعلاً من كلامه، أي: بمجموع ما صدر عنه لحد الآنَ من الكلمات. أو قل: ظهور حال الْمُتِكَلِّم فِي أَنَّهُ بصدد بيان تمام مرامه فِي كُلّ آنٍ، بمجموع ما يصدر منه إلى ذلك الآنَ. فلو قال يوم الجمعة: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» ولم يصدر منه تقييد في يوم السبت، سوف يكون كلامه الْفِعْلِيّ فِي يوم الجمعة ويوم السبت واحداً، فمقتضى ظهوره الْحَالِيّ أَنَّهُ أراد الإطلاق فِي هذين اليومين. وحينئِذٍ لو صدر منه القيدُ فِي يوم الأحد أصبح مجموع الكلامين هو الْفِعْلِيّ من كلامه، أحدهما الكلام الَّذي قاله يوم الجمعة وهو كان مطلقاً، والآخر كلامه فِي يوم الأحد وهو الكلام الدَّالّ عَلَىٰ التقييد. فَيَكُونُ مقتضى ظهور حاله أَنَّهُ أراد التَّقْيِيد يوم الأحد حين صدوره. فيرتفع هذا الظُّهُور الْحَالِيّ حين صدور القرينة يومَ الأحد. فلا يكون ظاهر حاله فِي يوم الأحد فما بعد أَنَّهُ أراد الإِطْلاَق. لكن قبل يوم الأحد يكون ظاهر حاله أَنَّهُ يريد الإِطْلاَق.
 يتمخض عن الاحتمال الأوّل أن الْمُتِكَلِّم ما إن أكمل كلامه وسكت ولم ينصب قرينة متصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد حتّى يفي كلامه بتمام مرامه، فَيَدُلُّ الظُّهُور الْحَالِيّ بِالدِّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِيَّة عَلَىٰ الإِطْلاَق، سواء وُجدت القرينةُ المنفصلة أم فُقِدت؛ فَإِنَّه لو أراد المقيَّدَ لزم الخلف؛ لأَنَّ ظهور حاله كان عبارة عن أن يكون شخصُ كلامه وافياً بتمام مراده. بينما هو يريد المقيَّد هنا، فشخص الكلام لم يف بتمام المراد، بل وفى بجزء من الكلام والجزء الآخر وفتْ به القرينةُ المنفصلة، وهذا خلاف ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ.
 إذن بناءًا عَلَىٰ الاحتمال الأوّل (الَّذي هو الصَّحيح عندنا وجداناً كما سبق) فِي تفسير هذا الظُّهُور الْحَالِيّ، لا يشترط فِي الإِطْلاَق عدمُ القرينة المنفصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد أصلاً، لا بنحو القرينة المتأخرة ولا بِنَحْوِ الشَّرْطِ المقارن.
 ويُنتج عن الاحتمال الثَّانِي أن يَدُلّ هذا الظُّهُور الْحَالِيّ بِالدِّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِيَّة عَلَىٰ الإطلاق فيما إذا لم ينصب الْمُتِكَلِّم قرينةً عَلَىٰ التَّقْيِيد أصلاً، لا متصلة ولا منفصلة، بحيث ما لم نتأكد من انْتِفَاء القرينتين ولم نحرز انتفاءهما لا نستطيع التَّمسُّك بالإطلاق؛ لأَنَّ الإِطْلاَق فرض لزوم الخلف من إرادة المقيَّد؛ وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ مع وجود القرينة المتَّصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد لا يلزم الخلفُ من إرادة المقيَّد؛ لأَنَّ مجموع كلامه (الْفِعْلِيّ والاستقبالي) قد وفى بتمام مراده. فَيَكُونُ الإِطْلاَق - بناءًا عَلَىٰ هذا الاحتمال - مشروطاً بعدم القرينة المنفصلة بِنَحْوِ الشَّرْطِ المتأخر. أي: إطلاق الكلام اليومَ مشروط بعدم مجيء قرينة ولو بعد سنة؛ إذ لو أتت قرينة بعد سنة تكون مجموع كلامه (مع القرينة المنفصلة بعد سنة) وافياً بتمام مرامه، وهذا يرجع إلى الصيغة الأولى الَّتي تقدمت بالأَمْسِ وناقشناها.
 ويتمخض عن الاحتمال الثَّالث أن هذا الظُّهُور الْحَالِيّ إِنَّمَا يَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِيَّة عَلَىٰ الإِطْلاَق ما لم ينصب قرينة عَلَىٰ التَّقْيِيد، وترتفع تلك الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِيَّة بمجرد صدور القرينة عَلَىٰ التَّقْيِيد. هذا هو الَّذي تقتضيه الصيغة الثَّانية (أي: بِنَحْوِ الشَّرْطِ المقارن).
 وحينئِذٍ بعد أن أفادنا الاحتمال الأوّل ولم يفد الميرزا أبداً، وبعد أن أرجعنا الاحتمال الثَّانِي إلى الصيغة الأولى (الشَّرْط المتأخر)، وارتفعت هذه الصيغة الثَّانية بالشكل الثَّالث، نريد أن نقول إن الاحتمال الثَّالث غير معقول ثبوتاً؛ لأنَّ معناه أن الظهور الْحَالِيّ (فِي كلام الْمُتِكَلِّم) يقتضي أَنَّهُ أراد الإِطْلاَق فِي يوم الجمعة ويوم السبت وأراد التَّقْيِيد فِي يوم السبت, وهذا واضح البطلان؛ لأَنَّ هناك كَلاَماً واحد هو «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» وله معنى واحد، بينما يلزم منه أن يكون للكلام الواحد مفادان ومرادان من كلام واحد، وهذان المرادان (الإِطْلاَق والتقييد) متهافتان، ولا يمكن أن يكون هناك مرادان ومقصودان متهافتان من كلام واحد. إذن، هذه الصيغة غير معقولة؛
 هذا هو الجواب والاعتراض الحلي عَلَىٰ هذه الصيغة.
 الإشكال النقضي: هو عَلَىٰ فرض التَّسْلِيم بتعقّل هذه الصيغة (أي: تنزلنا عن الإشكال الحلي) نتساءل عن المقصود من قولكم: «الإِطْلاَق مشروط بعدم مجيء القرينة المنفصلة بِنَحْوِ الشَّرْطِ المقارن»، فهل المقصود أن الإِطْلاَق مشروط بعدم صدور القرينة المنفصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد؟ أم هو مشروط بعدم وصول القرينة المنفصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد؟
 فعلى الأوّل يلزم عدمُ صحَّة التَّمسُّك بالإطلاق عند احتمال صدور القرينة المنفصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد من الْمُتِكَلِّم؛ إذ مع عدم إحراز الشَّرْط (وهو عدم صدور القرينة المنفصلة) لا يمكننا إحراز المشروط (وهو الإِطْلاَق)، بينما من الواضح لدى كل أحد أَنَّهُ يصحّ التَّمسُّك بالإطلاق فِي موارد احتمال صدور ووجود قرينة منفصلة (عَلَىٰ التَّقْيِيد) لم تصل إلينا.
 وعلى الثَّانِي يلزم باطل واضح آخر؛ لأَنَّ وصول كلام آخر لا دخل له بظهور الكلام الأوّل (المطلق) فِي تشخيص ظهور هذا الكلام وتشخيص مرام الْمُتِكَلِّم منه (وهو التَّقْيِيد)؛ إذ قد يصل التَّقْيِيد إلى شخص ولا يصل إلى الآخر، ولكن ينعقد للكلام الأوّل (المطلق) ظهوره الثَّابِت عند كليهما، فلا يختلف معنى «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» من سامع إلى آخر. فلا يكون وصول التَّقْيِيد إلى شخص دخيلاً فِي تشخيص ظهور الكلام الأوّل (= المراد الْجِدِّيّ من الإطلاق).
 نعم «وصول كلام آخر وعدم وصوله» له دخل فِي مُنَجَّزِيَّة الكلام الأوّل ومعذريته، أي: حينما يصل التَّقْيِيد إلى الشخص الأوّل تسقط حجية الكلام الأوّل لديه، أَمَّا الشخص الآخر الَّذي لم يصله التَّقْيِيد يبقى الكلام المطلق حجّةً عليه. إذن، الصيغة الثَّانية باطلة أيضاً.
 وعليه، فقد اتَّضَحَ أن الإِطْلاَق غير مشروط بعدم القرينة المنفصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد لا بنحو الشَّرْط المتأخر ولا بِنَحْوِ الشَّرْطِ المقارن، فما اختارته مدرسة النائيني غير تامّ؛ فَالصَّحِيحُ فِي المقدّمة الثَّانية من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ ما قاله الخُراسانيّ، وهو أَنَّهُ المقدّمة الثَّانية عبارة عن عدم نصب قرينة متصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد.
 هذا تمام الكلام فِي المقدّمة الثَّانية من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ الثَّلاث الَّتي ذكرها الخُراسانيّ.
 المقدّمة الثَّالثة: هي عدم وجود قدر متيقن فِي مقام التخاطب.
 وقد اتَّضَحَ لنا مفصَّلاً أَنَّهُ لا أساس لهذه المقدّمة، وأن وجود القدر المتقين فِي مقام التخاطب لا يضرّ بانعقاد الإطلاق وتمامية مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ، فنحن لا نقبل هذه المقدّمة الثَّالثة.
 هذا تمام الكلام فِي مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ وقد اتَّضَحَ أن الصَّحيح فِي مقدّمة الحِكْمَة أَمْرَانِ:
 المقدّمة الأولى: كون الْمُتِكَلِّم فِي مقام بيان تمام مرامه بشخص كلامه.
 المقدّمة الثانية: عدم نصب قرينة متصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد.
 بقيت فِي ختام البحث فِي هذه الجهة الثَّانية (المعقودة لبحث مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ) عدّةُ أمور ينبغي التَّعَرُّض لها ضمن خطوات نسميها بتنبيهات مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ.