الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/02/15

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: مقدّمات الحكمة/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 اتَّضَحَ مِمَّا تقدّم صحَّةُ المقدّمة الثَّانية من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ الَّتي كانت تشترط فِي انعقاد الإِطْلاَق عدمَ وجود قرينة متصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد. وعليه فقد اتَّضَحَ لنا - إلى الآنَ - مقدمتان من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ هما:
 المقدّمة الأولى: كون الْمُتِكَلِّم فِي مقام بيان تمام مراده بكلامه، وقد سلمنا بهذه المقدّمة وَقُلْنَا: إِنَّ هذا هو ظاهر حال كل متكلم.
 المقدّمة الثَّانية: هي عدم نصب قرينة متصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد.
 نكتة: من خلال ما ذكرناه تتضح نكتة أخرى لدينا وهي أن هذه المقدّمة الثَّانية - بالشرح الَّذي قدّمناه - تساهِمُ فِي تكوين الإطلاق وانعقاده وتتميم المقتضي للإطلاق؛ فإنَّ عَدم وجود قرينة متصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد فِي الكلام جزء من المقتضي للإطلاق؛ لأَنَّ المقدّمة الثَّانية بيانٌ لعدم المانع، وليست بَيَاناً لوجود المقتضي؛ فَإِنَّ المقتضي للإطلاق إِنَّمَا هو بالمقدّمة الأولى من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ الَّتي تقول: إن الْمُتِكَلِّم بصدد بيان تمام مراده بكلامه. أَمَّا المقتضي فيعطي مفعوله إذا انعدم المانع الَّذي هو وجود قرينة متصلة فِي داخل الكلام عَلَىٰ التَّقْيِيد. فالواقع أنَّ المقدمة الثَّانية تمثِّل عدمَ المانع، ولا تمثل المقتضي. فإذا بيّن الْمُتِكَلِّم التَّقْيِيد فِي الكلام (أي: نصب قرينة متصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد) فلا يؤثر المقتضي أثرَه. فإذا لم يُبَيِّن معناه عدم وجود مانعٍ من أن يؤثر المقتضي أثره وتتم دلالة الكلام عَلَىٰ الإِطْلاَق فعلاً.
 فقد اتَّضَحَ بطلان هذا التوهّم من خلال شرحنا لواقع المقدّمة الثَّانية؛ فإِنَّهُ قد اتَّضَحَ مِمَّا قدمناه أن هناك لاَزِماً وملزوماً :
 1)- الملزوم هو ظهور حال الْمُتِكَلِّم فِي كونه بصدد بيان تمام مرامه بكلامه.
 2)- اللاَّزِم هو أن ما ذكره الْمُتِكَلِّم (من كلامٍ مَوْضُوعٍ فِي اللُّغَة لذات الطَّبِيعَة بلا أي قيد، ولم ينصب قرينةً متصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد) يشكّل تمامَ مرامه. والإطلاق إِنَّمَا يثبت لكونه لاَزِماً لذاك الظُّهُور الْحَالِيّ. إذن، إن دلالة الكلام عَلَىٰ الإِطْلاَق دلالةٌ عَلَىٰ لازم ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ.
 وعليه، إذا أراد شيئاً زائداً عَلَىٰ ذات الطَّبِيعَة ولم يذكره فِي كلامه، لا يكون قد بيَّن تمام مراده فِي كلامه، والحال أن ظاهر حاله أَنَّهُ بصدد بيان تمام مراده بكلامه. فإنما يَدُلّ الكلام عَلَىٰ الإطلاق بوصفه لاَزِماً لذاك الظُّهُور الْحَالِيّ، ولا تَتُِمّ الدِّلاَلَة عَلَىٰ اللاَّزِم إلاَّ إذا توفر مجموع أَمْرَيْنِ: أحدهما ثبوت الملزوم والآخر ثبوت الملازمة بين الملزوم واللازم. ولا تَتُِمّ الدِّلاَلَة عَلَىٰ اللاَّزِم بصرف إثبات الملزوم مِنْ دُونِ إثبات الملازمة. وحينئِذٍ نَقُول: لا تحدث الملازمة بين هذا الظُّهُور الْحَالِيّ وبين إرادة الإطلاق بمجرّد أن يذكر الْمُتِكَلِّم فِي كلامه قرينةً عَلَىٰ التَّقْيِيد.
 وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: إذا كان مراده الواقعي فِي «أَكْرِمِ الْعَالِمَ العادل» (أي: فِي حال ذكر قرينة عَلَىٰ التَّقْيِيد) خصوص «العالم العادل» (وهو المقيَّد)، لا تنافي هذه الإرادةُ ظاهر حاله؛ فَإِنَّه بيّن تمام مرامه بكلامه حينما قال: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ العادلَ». ومعنى ذلك أن ذاك الظُّهُور لا يقتضي الإِطْلاَقَ فِي هَذَا الْفَرْضِ (أي: لا يقتضي القول بأن المراد من العالم فِي هَذَا الْفَرْضِ مطلق العالم). ومعنى ذلك أن لا ملازمة بين الظُّهُور الْحَالِيّ وبين إرادة الإِطْلاَق
 الإِطْلاَقَ فِي هَذَا الْفَرْضِ (أي: لا يقتضي القول بأن المراد من العالم فِي هَذَا الْفَرْضِ مطلق العالم). ومعنى ذلك أن لا ملازمة بين الظُّهُور الْحَالِيّ وبين إرادة الإِطْلاَق، وبانتفاء الملازمة لا يمكن إثبات اللاَّزِم (وهو الإِطْلاَق) بالملزوم وحده مِنْ دُونِ الملازمة. إذن، إن هذه المقدّمة تحقّق أصلَ الملازمة بين الملزوم واللاَّزم.
 والخلاصة أن هَاتَيْنِ المقدمتين بمجموعهما دخيلان فِي تكوين المقتضي للإطلاق وليس الأمر كما تَوَهُّمه المتوهِّم من أن المقدّمة الثَّانية تعبر عن عدم المانع، بينما المقتضي بالمقدّمة الأولى نفسها، بل الصَّحِيح أن المقتضي لا يَتُِمّ إلاَّ بمجموع الأَمْرَيْنِ؛ لأَنَّ المقتضي للإطلاق لا يَتُِمّ إلاَّ إذا ثبت الملزوم وثبتت الملازمة، كما هو شأن سائر الملزومات ولوازمها، غاية الأمر قد تكون الملازمة عَقْلِيَّة فالعقل هو الَّذي يسعفنا ببيان الملازمة، وَقَدْ تَكُونُ عُرْفِيَّةً كما نحن فيه، فلا تَتُِمّ هذه الملازمة الْعُرْفِيَّة - فِي المقام - إلاَّ إذا لم يذكر الْمُتِكَلِّم فِي كلامه ما يكون قرينة عَلَىٰ التَّقْيِيد.
 إلى هنا تناولنا الحديث عن ما به الاشتراك بين الصِّيَاغَة الآخوندية والصياغة المرزائية فِي المقدّمة الثَّانية، بعد ذلك يصل الدّور إلى ما به امتياز الصياغتين، حيث اشترطت مدرسة الميرزا النائيني (بالإضافة إلى ما قلناه من كون الْمُتِكَلِّم فِي مقام البيان وعدم نصب قرينة متصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد) عدم نصب قرينة منفصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد. ويُتَصَوَّر لهذا الشَّرْط صيغتان:
 الصيغة الأولى لِلشَّرْطِ: هي صيغة الشَّرْط المتأخر، بأن يتوقَّف انعقاد الإِطْلاَق وتكوّن الظُّهُور لكلام الْمُتِكَلِّم (من حين صدور الكلام) عَلَىٰ أن لا يَنصبَ الْمُتِكَلِّم بعد ذلك قرينة عَلَىٰ التَّقْيِيد (ولو بعد حين، سنة أو سنين)، بحيث لو نَصَبَ قرينةً منفصلةً عَلَىٰ التَّقْيِيد فَسَوْفَ تكشف هذه القرينة (فِي أي وقت جاءت) أَنَّهُ لم ينعقد لكلامه إطلاق من أوَّل الأمر.
 والصيغة الثَّانية لِلشَّرْطِ: هي صيغة الشَّرْطِ المقارن، بأن ينعقد إطلاق كلامه من حين صدوره ويستمر إلى حين مجيء القرينة عَلَىٰ التَّقْيِيد. ومعنى ذلك أن يكون الإِطْلاَق فِي كُلّ يومٍ (يلي صدورَ الكلام من الْمُتِكَلِّم) مشروطاً بعدم توفر القرينة إلى اليوم التالي، بحيث إن جاءت القرينة عَلَىٰ التَّقْيِيد بعد خمسة أيام من صدور الكلام، لا تكون هذه القرينة كاشفةً (خلافاً للصياغة الأولى) عن أَنَّهُ من اليوم الأوّل لم ينعقد الإِطْلاَق فِي كلامه، بل تقوم هذه القرينة بارتفاع الإِطْلاَق ابتداء من اليوم الخامس فصاعداً.
 ولكن الواقع أن كلتا الصياغتين باطلتان، وقد تقدّم الوجهُ (أو بعض الوجه) فِي بطلانهما عند دراسة المسألة الخلافية الأولى، حيث كانت عبارةً عن أَنَّهُ هل أن القرينة المنفصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد كالقرينة المتَّصلة تمنع عن الإِطْلاَق أو لا؟ فقد ذكرنا هناك رأيَ الميرزا القائل بأنها كالقرينة المتَّصلة تمنع عن الإطلاق، فِي مقابلِ الرَّأْي الآخر القائل بأنها لا ترفع ولا تزيل الإِطْلاَق فِي الكلام وإنَّما ترفع حجّيّة ذاك الإِطْلاَق وتكذّبه؛ فإن الإِطْلاَق يبقى موجوداً ولكن لا يبقى لوجوده مفعول ولا طائل، ولا يكشف هذا الإِطْلاَق عن المراد الْجِدِّيّ لِلْمُتِكَلِّمِ. وقد سجلّنا هناك إِشْكَالاَت عَلَىٰ رأي الميرزا بكلتا صيغتيه، ولا بأس أن نبيّن المطلب هنا بشكل كامل وذلك بالإشكال على كلتا الصياغتين:
 أَمَّا الصيغة الأولى فيرد عليها إشكالان حلي ونقضي:
 أَمَّا الإشكال الحلي عَلَىٰ الصيغة الأولى: فهو أَنَّهُ مخالف للوجدان اللُّغَوِيّ وَالْعُرْفِيّ؛ إذ لا نرى العرف يتعامل هكذا فِي باب المحاورات، فإن الوجدان الْعُرْفِيّ يقضي بأن الظُّهُور الْحَالِيّ الَّذي تحدثنا عنه (وهو أن ظاهر حال كل متكلم هو أَنَّهُ بصدد بيان تمام مراده بكلامه) يَدُلّ بالالتزام عَلَىٰ الإطلاق منذ البداية ومن حيث صدور الكلام، إذا لم ينصب الْمُتِكَلِّم فِي ذلك الكلام قرينة عَلَىٰ التَّقْيِيد، ويتمسك العقلاء بهذا الإِطْلاَق ولا ينتظرون المجيءَ المحتملَ للقرينة المنفصلة مستقبلاً.
 وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: لا بُدَّ أن الميرزا لا يشترط جزافاً عدم القرينة المنفصلة بِنَحْوِ الشَّرْطِ المتأخر فِي انعقاد الإِطْلاَق من أوَّل الأوّل، بل يشترطه بنكتةٍ كعدمِ تكوّنِ الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِيَّة عَلَىٰ الإِطْلاَق لكلام الْمُتِكَلِّم مِنْ دُونِ هذا الشَّرْط. أي: يُرجع هذا الشَّرْط الإِضَافِيّ الَّذي ذكره إلى مسألة أن ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ يقتضي هذا الشَّرْط.
 ولكي يحصحص الحق لا بُدَّ لنا أن نراجع هذا الظُّهُور الْحَالِيّ بوصفنا أفراداً من العرف لنرى هل أَنَّهُ يقتضي هذا الشَّرْط؟ أي: هل أن ظهور حال الْمُتِكَلِّم أَنَّهُ بصدد بيان مراده فِي شخص كلامه أو فِي مجموع كلماته فِي حياته؟!
 فعلى الثَّانِي يجب علينا بعد سَمَاع قوله: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» أن نصبر حتّى نسمع كلماته الأخرى الَّتي سوف يقولها فِي حياته، لنرى هل أنَّها تحتوي عَلَىٰ قرينة لكي يكون مراده المقيَّد، أم أَنَّهُ لا يأتي بالقرينة ليكون مراده المطلق؟!
 وعلى الأوّل ينعقد الإِطْلاَق للكلام ولا يجب علينا أن ننتظر لنرى ماذا يصدر منه فِي المستقبل؟
 وقد قلنا: لا شكّ بأن ظاهر حال الْمُتِكَلِّم هو الأوّل؛ لأَنَّ الوجدان يرى أَنَّهُ ما إن يَتُِمّ الكلام (الَّذي يصحّ السُّكوت عليه) حتّى ينعقد له ظهوره. أي: ظاهر حال الْمُتِكَلِّم الْعُرْفِيّ أَنَّهُ بصدد بيان تمام مرامه فِي شخص كلامه. فلطالما لا توجد قرينة متصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد لا نشترط عدم القرينة المنفصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد أيضاً، لانعقاد الإِطْلاَق.
 أَمَّا الإشكال النقضي عَلَىٰ الصيغة الأولى: فقد أردفنا سابقاً أَنَّهُ يلزم من هذا الكلام (أي: اشتراط عدم القرينة المنفصلة بِنَحْوِ الشَّرْطِ المتأخر فِي الإِطْلاَق) عدمُ التَّمسُّك بالإطلاق ما إذا احتملنا عدم مجيء القرينة المنفصلة (عَلَىٰ التَّقْيِيد) فِي المستقبل، أو احتملنا مجيئها ولكنها لم تصلنا؛ لأَنَّ الإِطْلاَق - بناءًا عَلَىٰ هذه الصيغة - فرعُ عدم مجيء القرينة المنفصلة مستقبلاً، فيتم إحراز الإطلاق بعد أن أحرزنا عدم مجيء القرينة. أَمَّا ما لم نحرز عدم مجيء القرينة فِي المستقبَل أو عدم وصولها إلينا، لا نكون قد أحرزنا الشَّرْط وبالتَّالي لم نحرز المشروط.
 والخلاصة أنَّ مع الشَّكّ فِي مجيء القرينة نشك فِي تكوّن الإِطْلاَق وحدوثه، ومعنى ذلك أن احتمال المقيِّد المنفصل كاحتمال المقيِّد المتصل يمنع عن التَّمسُّك بالإطلاق. وهذا فِي الحقيقة نسف لنظرية الإطلاق وتعطيل له من أساسه. هذا هو اللاَّزِم الباطل الَّذي يطويه هذا الكلام.
 لا يقال: إِنَّنّا نتمسك بأصالة عدم القرينة فِي موارد القرينة المنفصلة.
 لأَنَّنَا نَقُول: إِنْ قصدتم بأصالة عدم القرينة الأصلَ الْعُقَلاَئِيّ، فمن الواضح أنهم إِنَّمَا يبنون عَلَىٰ عدم القرينة المنفصلة فيما إذا كان لديهم فعلاً ظهور فعلي ناجز مستقر ويرون أن تلك القرينة المنفصلة المحتَملة مكذِّبة لهذا الظُّهُور، فيتمسكون بحجية هذا الظُّهُور ليسقطوا ذاك الظُّهُور عن الْحُجِّيَّة. ولكن بناءًا عَلَىٰ كلام الميرزا لا يوجد ظهور فعليّ؛ لأَنَّ ظهور الكلام فِي الإِطْلاَق فرعُ عدم القرينة المنفصلة، ولا نحرز عدم القرينة المنفصلة، وبالتَّالي لا نحرز وجود ظهور فعليّ فِي الإِطْلاَق. فلا معنى لأصالة عدم القرينة.
 وإن قصدتم بأصالة عدم القرينة الاستصحابَ فقد تقدّم سابقاً بأَنَّهُ أصل مثبت (أي: التَّمسُّك باستصحاب عدم القرينة المنفصلة لإِثْبَاتِ أن لهذا الكلام ظهور فِي الإِطْلاَق، لازم عقلي وعرفي، والاستصحاب لا يثبت إلاَّ اللوازم الشَّرعيَّة). هذا تمام الكلام فِي الصيغة الأولى، يبقى الحديث عن الصيغة الثَّانية وهو ما نتناوله غداً إن شاء اللٰه تعالى. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه. 1476 كلمة.