الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/02/08

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 تقدّم أن الخُراسانيّ ذهب إلى أن «وجود القدر المتيقَّن فِي مقام التخاطب يمنع من انعقاد الإِطْلاَق»، وهذا الكلام راجع بروحه إلى التَّصَوُّر الآنف الذّكر عن المطلق والْمُقَيَّد وَالَّذِي كان ينتج أنّ المطلق هو الأكثر والأوسع والأزيد، والْمُقَيَّدُ هو الأَقَلّ؛ لأَنَّهُ يُراد بِالْمُطْلَقِ الأفراد والمصاديق الخارجية لموضوع الحكم. فعلى سبيل المثال إن كان عدد الفقراء مائة، فالمطلق يعني كل المائة، بينما المقيَّد يعني الفقراء الهاشميون الخمسون، والخمسون بِالنِّسْبَةِ إلى المائة أقل، وهذا واضح.
 وتقدم أيضاً أن هناك محاذير تُوجَّه إلى هذا التَّصَوُّر، أسلفنا المحذور الأوّل منها وإليك:
 المحذور الثَّانِي: أن يلزم منه عدم انعقاد الإطلاق حتّى فِي موارد وجود القدر المتيقَّن من خارج الخطاب، مثلما إذا قال المولى: «أكرم الفقير» مِنْ دُونِ أن يلفّ الخطابَ قدرٌ متيقن، ولكِنَّنََا علمنا من الخارج أن الفقير المجاهد أولى من غيره لجهاده، أو أن الفقير العادل أولى من غيره لعدالته. فحينئذٍ يُفترض أن لا ينعقد للكلام إطلاق - بناءًا عَلَىٰ هذا التَّصَوُّر - مع أَنَّهُ قال: «أكرم الفقير»؛ لأَنَّ وجود القَدْر المتيَقَّن من خارج الخطاب يضرّ بهذا الإِطْلاَق بنفس النُّكتة الموجودة فِي القدر المتيقَّن فِي مقام التخاطب؛ لأَنَّ ظهور حال الْمُتِكَلِّم (وَفقاً للتصور الآخوندي) عبارة عن أَنَّهُ فِي مقام بيان تمام مراده فِي كلامه، وتمام مراده (وَفقاً لهذا التَّصَوُّر) هو تمام الأفراد الخارجية الَّتي يريدهم (أي: يريد وجوبَ إكرامهم)، فإن كان مراد المتكلم بقوله: «أكرم الفقير» خصوص الفقراء المجاهدين، يكون قَدْ بَيَّنَه بكلامه ولو فِي ضمن العبارة المطلقة؛ لأَنَّ الظُّهُور الْحَالِيّ هو أساس الدِّلاَلَة عَلَىٰ الإِطْلاَق وقد تصوّره الآخوند بهذا التَّصَوُّر. فلا يكون كلامه مخالفاً لظهور حاله فيما لو أراد المقيَّد، فلا يقتضي ظهوره الْحَالِيّ أن يكون مراده المطلقُ؛ لأَنَّهُ لو أراد المقيَّد كان ماشياً عَلَىٰ وفق الظُّهُور الْحَالِيّ. فكيف نتمسّك بإطلاق كلامه؟
 فإن قلتم: لو سَلَّمنا بهذا المحذور يجب أن نسلم به حتّى فِي موارد عدم القَدْر المتيَقَّن أساساً (لا فِي داخل الخطاب ولا خارج الخطاب)؛ لأَنَّ النُّكتة فيه ما ذكرتموها من أن تصوّر الآخوند يفترض أن يكون الْمُتِكَلِّم فِي مقام بيان تمام مرامه، وتمام المرام عبارة عن تمام الأفراد الَّذين يريد ثبوت الحكم لهم. وعليه لا ينعقد الإِطْلاَق فِي موارد وجود القَدْر المتيَقَّن فِي خارج الخطاب فقط، بل لا ينعقد حتّى فِي موارد عدم وجود القَدْر المتيَقَّن أساساً. فلنفترض عَلَىٰ سبيل المثال أَنَّهُ قال: «تصدق عَلَىٰ الفقير»، ولم يكن هناك سؤال ولا جواب حتّى يكون لدينا قدر متيقن ولم تكن هناك أولوية خارجيّة لبعض الفقراء عَلَىٰ بعضهم (أي: أن يحتمل اختصاص الحكم للفقير الهاشمي دون غيره إلى جانب احتمال اختصاص الحكم للفقير غير الهاشمي دون الهاشمي، مع احتمال أن يكون الحكم ثابتاً لهما معاً) وكان كل أفراد الفقير متكافئة فِي احتمال اختصاص الحكم لها وفي شمول الحكم لها.
 هنا يقول المستشكل: حينئذٍ لا شكّ بأنكم تتمسكون بالإطلاق، بينما يفترض بكم من منطلق الإشكال الَّذي أوردتموه عَلَىٰ الآخوند أن لا تتمسكوا بالإطلاق؛ لأَنَّ النُّكتة الَّتي ذكرتموها تأتي هنا، فقد قلتم فِي الإشكال عَلَىٰ الآخوند: «يقتضي الظُّهُور الْحَالِيّ لِلْمُتِكَلِّمِ أن يكون فِي مقام بيان تمام مراده بكلامه، وتمام المراد يعني تمام الأفراد الَّذين يريد ثبوت الحكم لهم، إذن، فلو أراد المقيَّد لم يلزم الخلف». هنا أيضاً نقول: «لو أن الْمُتِكَلِّم أراد بقوله "تصدق عَلَىٰ الفقير" الفقيرَ الهاشميَّ (أي: أراد المقيَّدَ)، كان كلامه وافياً ببيان تمام الأفراد الخارجيّة الَّذين يريد ثبوت الحكم لهم، فلا يحق لنا أن نقول: لم يرد المقيَّد وأراد المطلق؛ لأَنَّهُ إِنَّمَا يحق لنا أن نقول ذلك فيما إذا لزم الخلفُ (خلاف ظاهر حاله) من إرادته المقيَّد، بينما هنا لا يلزم الخلف إن أراد المقيَّد. فلا يمكننا أن نقول: إِنَّه أراد المطلق. إذن، ينسد باب الإِطْلاَق نهائيّاً. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَن لا أحد يلتزم بهذا اللاَّزِم الباطل!!
 قلت: إن ما ذكرناه من الإشكال والمحذور عَلَىٰ كلام الآخوند فِي فرض وجود القدر المتيقَّن من خارج الخطاب، لا يأتي فِي هَذَا الْفَرْضِ (فرض عدم وجود القَدْر المتيَقَّن أبداً)؛ فإِنَّهُ عندما يوجد قدر متيقن ولو من خارج الخطاب يصحّ أن نَقُول: إن أراد الْمُتِكَلِّم المقيَّدَ لم يخالف ظاهر حاله؛ لأَنَّ كلامه وافٍ ببيان المقيَّد. أَمَّا فِي هذا المورد الَّذي ذكرتموه فِي الإشكال وهو مورد عدم وجود القَدْر المتيَقَّن أبداً فلا يصحّ أن نَقُول: إِنَّ الْمُتِكَلِّم لو أراد المقيَّد لكان قَدْ بَيَّنَ ذلك؛ فإِنَّهُ إن قلتم بأَنَّهُ بيَّن المقيَّد فِي ضمن المطلق، نجيب بأَنَّهُ لم يُبَيِّن وجوب التصدق عَلَىٰ تمام الأفراد الَّذين يريدهم (كالهاشميين)؛ لأَنَّنا افترضنا أن كل الفقراء متساوون، فَكَمَا نحتمل أن الحكم ثابت للهاشمي دون غيره، نحتمل العكس أيضاً: نحتمل أن يكون الحكم لغير الهاشمي دون الهاشمي. أي: لا يوجد فقير أولى من غيره فِي ثبوت هذا الحكم له. فهناك احتمالات متعارضة، فكيف نقول: لو أراد المقيَّد لكان مبيَّناً ذلك فِي كلامه؟ كيف يُبَيِّن المتناقضات فِي هذا الكلام؟ إذن، يقتضي الظُّهُور الْحَالِيّ أن ننفي احتمالات إرادة المقيَّدات ونتمسك بالإطلاق كسائر الموارد.
 وحاصل المحذور المترتّب عَلَىٰ كلام الخُراسانيّ هو أَنَّهُ بناءًا عَلَىٰ تصوّره عن المطلق والْمُقَيَّد يلزم عدم انعقاد الإِطْلاَق فِي موارد وجود القَدْر المتيَقَّن من خارج الخطاب، فلا تختصّ الْقَضِيَّة بوجود القَدْر المتيَقَّن فِي داخل الخطاب.
 المحذور الثَّالث: هو أَنَّهُ يلزم من التَّصَوُّر الخُراسانيّ عن المطلق والْمُقَيَّد سدّ باب الإِطْلاَق وغلق بابه نهائيّاً؛ لأَنَّ جوهر مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ والإطلاق هو أن يقال: إن كلام الْمُتِكَلِّم دائر أمره بين المطلق والْمُقَيَّد ولا يمكن أن يكون الْمُتِكَلِّم قد أراد المقيَّد؛ لاستلزامه خلف الظُّهُور الْحَالِيّ لديه، فيَتَعَيَّنُ الإطلاق.
 فهناك جملتان بمجموعهما تُشكّلان مُقَدَِّمَاتِ الْحِكْمَةِ:
 الجملة الأولى هي أن الْمُتِكَلِّم لو أراد الإِطْلاَق يكون كلامه وافياً به، بينما لو أراد المقيَّد لا يكون كلامه وافياً به. وبما أن ظاهر حاله أن كلامه يجب أن يفي بتمام مراده، إذن فهو أراد المطلق.
 أَمَّا الجملة الأولى: فتَتُِمّ بناء عَلَىٰ تصورنا نحن عن المطلق والْمُقَيَّد (وَالَّذِي تقدّم شرحه فِي البحث الماضي). أي: أَنَّهُ بناء عَلَىٰ تصورنا يصحّ فِي مثل هذه الجملة (مثل: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» فِي الموارد الاعتيادية وليس فِي موارد القَدْر المتيَقَّن) أن نقول: لو أراد المطلق لكان كلامه وافياً به؛ لأَنَّ تصورنا عن المطلق كان عبارة عن ما هو تمام الْمَوْضُوع الكلّي للحكم فِي عالم الجعل، لا تمام الأفراد والمصاديق لموضوع الحكم. فتصبح العبارة: «هل أن الْمُتِكَلِّم عندما قال: أَكْرِمِ الْعَالِمَ، وكان مراده أن يكون مَوْضُوع حكمه عبارة عن المطلق (أي: ذات الفقير مِنْ دُونِ أي قيد) يكون كلامه قد وفى بذلك أم لا»؟ نعم؛ لأَنَّ كلامه كان عبارة عن لفظ «العالم» وهو اسم جنس يَدُلّ عَلَىٰ ذات العالم. فلو كان قد أراد المطلق. أي: أراد أن يكون مَوْضُوع حكمه فِي عالم الجعل عبارة عن ذات الفقير، لكان كلامه وافياً به؛ لأَنَّهُ جعل اسم الجنس فِي كلامه واسم الجنس يَدُلّ عَلَىٰ ذات الفقير. فلو أراد المطلق (حسب تصورنا) كان كلامه وافياً. بينما إن انتقلنا إلى تصوّر الآخوند نرى أن المطلق عنده عبارة عن الأفراد والمصاديق الخارجية للحكم، فلا يصحّ - بناءًا عليه - أن نقول: لو أراد المطلق لكان كلامه وافياً ببيانه؛ لأَنَّ كلامه كان عبارة عن اسم الجنس (= أَكْرِمِ الْعَالِمَ) واسم الجنس لا يَدُلّ عَلَىٰ الأفراد والمصاديق الخارجية؛ فَإِنَّ المطلق والْمُقَيَّد عند الآخوند عبارة عن الأفراد (المطلق تمام المائة عنده والْمُقَيَّد الخمسون فقيراً مثلاً).
 فَالْحَاصِلُ أَنَّ هذا الطرز من التفكير الَّذي يتبناه الخُراسانيّ عن المطلق والْمُقَيَّد لا ينسجم مع طبيعة الدِّلاَلَة الإطلاقيّة، ولا ينسجم مع ملاك دلالة مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ؛ فإن جوهر هذه الدِّلاَلَة قائم عَلَىٰ أساس أن اسم الجنس وحده لا يفي بِالدِّلاَلَةِ عَلَىٰ المقيَّد، وإنَّما يفي بِالدِّلاَلَةِ عَلَىٰ المطلق. أي: الَّذي توجّه أذهان الأُصُولِيِّينَ والعرف نحو أن الْمُتِكَلِّم أراد المطلق ولم يرد المقيَّد هو أَنَّهُ بما أن اسم الجنس وحده يمكنه أن يوصّل إلى ذهننا المطلقَ، لٰكِنَّهُ لا يستطيع أن يوصل إلى ذهننا المقيَّد، وهذا أساس الإطلاق. وأمّا «اللابشرطية» فقد تقدّم بأنها خارجة عن ذات الْمَاهِيَّة والمرئي، بل هي كيفيَّة فِي الرُّؤْيَة.
 وهذا معناه أن المطلق هو الأَقَلّ والْمُقَيَّد هو الأزيد (مركب من ذات الْمَاهِيَّة ومن شيء آخر)، فهذا الأكثر بحاجة إلى بيان زائد (أي: التَّقْيِيد)، ومن هنا أصبح التَّقْيِيد محتاجاً إلى بيان. وهذا كُلّه إِنَّمَا يَتُِمّ بناءًا عَلَىٰ تصورنا عن المطلق والْمُقَيَّد وهو التَّصَوُّر الثَّانِي فِي فهم وتصوير الإطلاق. أي: أَنْ يَكُونَ النَّظَر إلى مَوْضُوع الحكم فِي مرحلة الجعل فَيَكُونُ التَّقْيِيد هو الأكثر والإطلاق هو الأقل، بينما إذا نظرنا إلى المصاديق تنقلب الآية ويصبح الإِطْلاَق هو الأكثر ويصبح التَّقْيِيد هو الأَقَلّ.
 هذا تمام الكلام فِي المسألة الخلافية الثَّانية، وقد تبيَّن أن المقيَّد المنفصل لا يضرّ بالإطلاق فِي المسألة الخلافية الأولى، وتبيَّن فِي الثَّانية أن القَدْر المتيَقَّن لا يضرّ بالإطلاق، وأن الإِطْلاَق ينعقد مع وجود القَدْر المتيَقَّن حتّى فِي داخل الخطاب، فضلاً عن وجوده فِي خارج الخطاب. فالإطلاق تامّ فِي جميع الصور الثَّلاثة الَّتي طرحناها فِي بداية المسألة:
 الصُّورَة الأولى: ما إذا لم يوجد قدر متيقن أبداً.
 الصُّورَة الثَّانية: ما إذا كان القَدْر المتيَقَّن فِي خارج الخطاب.
 الصُّورَة الثالثة: ما إذا كان القَدْر المتيَقَّن فِي داخل الخطاب.