الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/11/07

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: معنى المطلق/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 البحث الخامس والعشرون من بحوث دلالات الدَّلِيل الشَّرْعِيّ اللَّفظيّ هو بحث دلالة المطلق وهو البحث الأخير من هذه السِّلْسِلَة من بحوث الدلالات، بعد ذلك إن شاء اللٰه ننتقل إلى دلالات دليل الشَّرْعِيّ غير اللَّفظيّ. وتوجد فِي هذا البحث جهتان لا بُدَّ من دراستهما:
 الجهة الأولى: فِي معنى المطلق، أي: معنى اسم الجنس.
 الجهة الثَّانية: فِي معنى الإِطْلاَق، أي: معنى مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ.
 أَمَّا الجهة الأولى فلا إِشْكَال فِي أن أسم الجنس مثل «الماء» و«الإنسان» وغيرهما، مَوْضُوع لمعنى كليّ هو ماهيَّة «الإنسان»، لكن هذه الْمَاهِيَّة تارةً تُلحظ بصورة مطلقة مِنْ دُونِ أخذ قيد زائد وحالة خاصّة، وأخرى تلحظ بصورة مقيدة كما إذا لوحظت ماهيَّة {البيع} ببيع البالغ، أو لوحظت ماهيَّة «الإنسان» بصورة مقيدة هي «الإنسان العالم». فبما أن هذه الْمَاهِيَّة الكلّيّة الَّتي وضع لها اسم الجنس تُلحظ تارةً بهذا الشِّكْل وأخرى بذاك الشِّكْل، وقع الكلام بين المحققين فِي أن هذا اللَّفظ هل هو مَوْضُوع للماهية المطلقة بالخصوص، بحيث يكون الإِطْلاَق عنصراً دخيلاً فِي المعنى الَّذي وضع له لفظ {البيع} أو لفظ «الإنسان. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه. وعليه فإن لفظ «البيع مَوْضُوع للبيع المطلق» ومعناه الحقيقي هو البيع الملحوظ مطلقاً، ويترتَّب عليه أَنَّهُ:
 أوَّلاً: لفظ {البيع} بنفسه سوف يكون دالاًّ عَلَىٰ الإِطْلاَق بِالدِّلاَلَةِ الوضعيَّة، ولا نحتاج إلى أي قرينة فِي استفادة الإِطْلاَق؛ لأَنَّ الإِطْلاَق أخذ قيداً فِي المعنى الْمَوْضُوع له.
 وثانياً: أن استعمال اللَّفظ فِي المقيِّد سوف يكون استعمالاً مَجَازِيّاً؛ لأَنَّ لفظ {البيع} مَوْضُوع للبيع المطلق، فإذا استعمل فِي بيع مقيَّد وخاص كبيع البالغ أو بيع العقدي فَسَوْفَ يكون هذا الاستعمال مَجَازِيّاً؛ لأَنَّهُ لم يستعمل فِي معناه الْمَوْضُوع له.
 أم أن اسم الجنس لَيْسَ مَوْضُوعاً للماهية المطلقة بل هي موضوعة للماهية ذاتها مِنْ دُونِ أخذ أي شيء آخر معه، لا أخذ الإِطْلاَق ولا أخذ التَّقْيِيد. إذن يترتَّب عليه أَمْرَانِ:
 أوَّلاً: سوف لا يكون اللَّفظ (= اسم الجنس) دالاًّ بدلالته الوضعيَّة عَلَىٰ الإِطْلاَق؛ لأَنَّ الإِطْلاَق خارج عن المعنى الْمَوْضُوع له - كما قلنا - وإنَّما يَدُلّ اللَّفظ بدلالته الوضعيَّة عَلَىٰ ذات الْمَاهِيَّة. أَمَّا إذا أردنا أن نستفيد الإِطْلاَق فلا بُدَّ من قرينة عامة تَدُلّ عليه وهي قرينة الحِكْمَة الَّتي سوف يأتي الحديث عنه إن شاء اللٰه تعالى.
 وثانياً: سوف يكون استعمال هذا اللَّفظ فِي المقيِّد استعمالاً حقيقيّاً ولا يكون مَجَازِيّاً؛ لأَنَّ اللَّفظ وضع لذات الْمَاهِيَّة وذات الْمَاهِيَّة محفوظة وموجودة.
 هذا هو الخلاف الواقع بينهم، وحينئِذٍ لا بُدَّ من تحقيق المطلب، وقبل التَّحْقِيق لكي يَتَّضِح المقصود أكثر فأكثر من الْمَاهِيَّة المطلقة والمقصود من ذات الْمَاهِيَّة عادة يذكر الأُصُولِيِّيُونَ مقدّمةً يشرحون فيها أنحاء تصوّر الْمَاهِيَّة ولحاظها لكي يوضح فِي ضوئه أن اسم الجنس وُضع لأي نحو من هذه الأنحاء من الْمَاهِيَّة.
 مقدّمة تمهيدية
 ونتخذ ماهيَّة «الإنسان» بالقياس إلى صفة «العلم» مثالاً نشرح الحال فِي هذه المقدّمة، فنقول: إن هذه الْمَاهِيَّة تارةً نتتبع وجودَها فِي الخارج وأخرى نتتبّع وجوها فِي الذِّهْن. فإذا أردنا أن نلاحظ وجودها فِي الخارج فَسَوْفَ نرى أن لهذه الْمَاهِيَّة خارجاً نحوان من الوجود لا أكثر. فهناك فِي الخارج «إنسان مع العلم» أي: الإنسان العالم، وهناك فِي الخارج «إنسان بلا علم»، أي: الإنسان اللاعالم. ولا يوجد شق ثالث فِي الخارج لماهية الإنسان، بحيث يكون هناك إنسان لا هو واجد لصفة العلم ولا هو فاقد لها؛ لأَنَّ الوجدان والفقدان نقيضان ولا يرتفع النقيضان.
 أَمَّا مفهوم الإنسان الجامع بين الإنسان الواجد للعلم والإنسان الفاقد للعلم فهو غير موجود فِي الخارج بوجودٍ مستقلّ عن هذين، وإنَّما هو موجود فِي ضمن هذين، ومن هذا المنطلق يكون جامعاً بينهما، وإلا لما أمكنه أن يكون جامعاً بينهما؛ لأَنَّهُ إن كان قسماً ثالثاً فِي عرضهما لكان قسيماً لهما والقسيم لا يكون جامعاً لقسيمه بل المقسم هو الجامع للأقسام، اللهم إلاَّ إذا كان شيء قسيماً فِي وعاء وعالم، ومقسماً فِي عالم آخر، كما يأتي توضيحه إن شاء اللٰه تعالى.
 أَمَّا إذا اجتزنا عالم الخارج إلى عالم الذِّهْن فنجد وعاءين أحدهما وعاء المعقولات الأولية وثانيهما الَّذي هو فِي مرحلة مُتِأَخِّرَة عن الوعاء الأوّل هو وعاء المعقولات الثانوية.
 أَمَّا وعاء المعقولات الأولية: يعني ذاك الوعاء من الذِّهْن الَّذي يلتقط ويصوّر فيه الذِّهْن الْمَفَاهِيم من الخارج مباشرة. ونجد فِي هذا الظرف والوعاء أن للماهية فِي هذا الوعاء ثلاثة أنحاء وحصص من الوجود الذهني، وكل واحد من هذه الأنحاء يشكّل صورةً ذهنية تختلف عن الصورتين الأخريين:
  1. تارةً يلحظ الذِّهْن ماهيَّة الإنسان مع وجود صفة العلم، أي: الْمَاهِيَّة بشرط شيء.
  2. وأخرى يلحظ ماهيَّة الإنسان بلا صفة العلم، أي: الْمَاهِيَّة بشرط لا.
  3. وثالثة يلحظ الْمَاهِيَّة لا بشرط وهو مفهوم «الإنسان».
 ومفهوم الإنسان لَيْسَ جامعاً بين المفهومين الأولين؛ لأَنَّهُ صورة ذهنية مستقلّة عنهما (=موجود ذهني فِي عرضهما)، فهو قسيم لهما، وإذا كان قسيماً لهما فلا يمكن أن يكون هذا الْمَفْهُوم الثَّالث موجوداً فِي وعاء المعقولات الأولية (الَّتي نتكلّم عنها الآنَ، لا وعاء المعقولات الثانوية)، ويستحيل أن يكون القسيم جامعاً لقسيمه.
 بينما تقدّم قبل قليل (عندما كُنَّا نتكلّم عن الوجود الخارجيّ للماهية) أنَّ للماهية وجودان فِي الخارج، ومفهوم «العالم» أو مفهوم «الإنسان» جامع بين هذين الوجودين الخارجيين. وهذا الْمَفْهُوم (=الإنسان) نفسه الَّذي أصبح جامعاً بين وجودين خارجيين للماهية بات قسيماً للمفهومين الآخرين فِي وعاء المعقولات الأولية. فلا يمكن أن يكون جامعاً لقسيميه متزامناً مع كونه جامعاً بين وجودين خارجيين للماهية؛ لاختلاف العالَم والوعاء. أي: لطالما أَنَّهُ فِي عالَمه ووعائه قسيم لمفهومين آخرين فلا يمكن أن يكون جامعاً بينهما، لٰكِنَّهُ فِي الخارج (= فِي غير عالَمه) لَيْسَ قسيماً للوجودين الخارجيين (لأَنَّهُ لا يوجد عندنا فِي الخارج «إنسان» لا هو «عالم» ولا هو «لا عالم») وبالتَّالي يمكن أن يكون جامعاً بين ذينك الوجودين الخارجيين.
 هذه الْمَفَاهِيم الثَّلاثة هي المعقولات الأولية وكل واحد منها بخصوصيته يباين الآخر، وإذا دقَّقنا النَّظَر وقارنّا بين نحوي وجود الخارجيّ للماهية والأنحاء الثَّلاثة للوجود الْمَاهِيَّة الذهني، نجد أن كلاًّ من الوجودين الخارجيين للماهية يتميز من الآخر بخصوصية خارجيّة. فعلى سبيل المثال إن «الإنسان العالم» فِي الخارج يتميز بخصوصية خارجيّة وهي عبارة عن «وجدانه لصفة العلم» كما أن «الإنسان اللاعالم» خارجاً (وَالَّذِي هو نحو آخر للوجود الخارجيّ للماهية) يتميز بخصوصية خارجيّة أخرى وهي أَنَّهُ «فاقد لصفة العلم» خارجاً. وهاتان الخصوصيتان الخارجيتان للوجودين الخارجيين تُسمَّيانِ بالقيود الأولية، أي: القيود الَّتي هي قيود للخارج مباشرةً (=قيود الخارج).
 أَمَّا إذا تناولنا الوجودات الذِّهْنِيَّة الثَّلاثة للماهية فنجد أن كل واحد منها يتميز من الآخرين بخصوصية لٰكِنَّهَٰا ليست خارجيّة، بل هي ذهنية. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه. مثلاً إن صورة الْمَاهِيَّة بشيء شيء تتميز بوجود صورة للعلم (أي: خُصُوصِيَّة ذهنية) فِي هذه الصُّورَة من الْمَاهِيَّة، لا أَنَّهُ يوجد العلم نفسه. كما أَنَّهُ توجد صورة لعدم العلم فِي «لحاظ الْمَاهِيَّة بشرط لا» إلى جانب تصوير الْمَاهِيَّة وتصوّرها. وفي التَّصْوِير الثَّالث (فِي لحاظ الْمَاهِيَّة لا بشرط) يوجد تصوير ولحاظ للماهية إلى جانب عدم لحاظ شيء آخر (أي: عدم لحاظ صفة العلم، وعدم لحاظ عدم صفة العلم).
 هذه الخُصُوصِيّات الذِّهْنِيَّة الَّتي هي ميزات للوجودات الذِّهْنِيَّة الثَّلاثة تُسمَّى بالقيود الثانوية؛ لأَنَّهَا ليست قيوداً للخارج بل هي قيود للشيء الَّذي انتزعه الذِّهْن من الخارج. أي: قيود للمعقولات الأولية الَّتي انتُزِعَتْ من الخارج. بينما تلك القيود الأولية انتزعت من الخارج مباشرة، ومن هنا سميت بالقيود الأولية. فالمعقولات الثانوية قيودٌ لمفاهيمَ انتزعت من الخارج وليست قيوداً للخارج مباشرة.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّ لدينا قيدان أوليّان وهما وجود العلم خارجاً وعدم وجود العلم خارجاً، وعندنا ثلاثة قيود ثانوية عبارة عن:
 1- لحاظ وجود العلم.
 2- لحاظ عدم وجود العلم.
 3- عدم لحاظ شيء.
 فالقيود الأولية الَّتي تجعل الوجودات الخارجية للماهية متقابلةً، هذه خُصُوصِيّات خارجيّة من شؤون عالم الخارج، أَمَّا القيود الثانوية الَّتي تجعل المعقولات الأولية متقابلة فيما بينها، هي خُصُوصِيّات ذهنية من شؤون عالم الذِّهْن ومن شؤون اللِّحَاظ وشؤون الصُّورَة الذِّهْنِيَّة للماهية.
 ومن هذا المنطلق حينما نقارن بين القيود الأولية والقيود الثانوية نجد أن القيد الثانوي الَّذي كان يميِّز الصُّورَة الأولى (وهي صورة الْمَاهِيَّة بشرط شيء) من الصور الثَّلاث للماهية فِي الذِّهْن، هو لحاظ العلم وتصوره وليس العلم نفسه. هذا القيد الثانوي الَّذي يميِّز هذه الصُّورَة مرآةٌ لقيدٍ أوّليّ، أي: إن لحاظ العلم يعكس وجود العلم خارجاً. فالقيد الثانوي للحاظ الْمَاهِيَّة بشرط شيء مرآة للقيد الأولي الَّذي كان قيداً للوجود الخارجيّ الأوّل للماهية وهو وجود الإنسان العالم.
 وكذلك القيد الثانوي الَّذي كان يميز الصُّورَة الثَّانِية من الصور الثَّلاث (أي: صورة الإنسان بشرط لا، بشرط عدم العلم) بلحاظ عدم العلم مرآة لعدم وجود صفة العلم فِي الخارج.
 أَمَّا القيد الثانوي فِي الصُّورَة الثَّالثة فهو عبارة عن عدم كلا اللحاظين، ولكن حَيْث أَنَّ عدم اللِّحَاظ لَيْسَ مرآةً لشيء ولا يعكس شيئاً، يَتَعَيَّنُ أن يكون المرئي والملحوظ فِي الصُّورَة الثَّالثة (فِي لحاظ الْمَاهِيَّة لا بشرط) هو ذات الْمَاهِيَّة وليس شيئاً آخر؛ لأَنَّ هذا التَّصْوِير الثَّالث له قيد لكن قيده «عدم اللِّحَاظ» و«عدم اللِّحَاظ» لا يُري للإنسان شيئاً؛ إِذْ أَنَّ معنى «عدم اللِّحَاظ» هو عدم التَّصْوِير (طبعاً إن «ذات الْمَاهِيَّة» فِي الخارج لا يوجد إلاَّ فِي ضمن الْمَاهِيَّة بشرط شيء أو الْمَاهِيَّة بشرط لا، ولا يمكن تحقّق «الإنسان» خارجاً «لا مع العلم» و«لا مِنْ دُونِ العلم»).
 إذن النَّحْو الثَّالث من الوجود الذهني للماهية يشكّل جامعاً بين نحوي الوجود الخارجيّ للماهية. وللبحث تتمة تأتي إن شاء اللٰه فِي يوم السبت. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه. 1413 كلمة.