الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/11/05

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: النَّكِرَة الواقعة فِي سياق النَّهي أو النفي/ألفاظ العموم /العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 كُنَّا بصدد دراسة الملاحظة الأخيرة (وهي الَّتي ذكرها المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ وتابعه عليها السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله) عَلَىٰ القرينة الْعَقْلِيَّة الَّتي أفادها المُحَقِّق الخُراسانيّ وَقَالِ: إِنَّ عَلَىٰ أساسها نفهم الشُّمُولِيَّة من النَّكِرَة الواقعة فِي سياق النَّفْي أو النَّهْي، وهي عبارة عن: «أنَّ الكلّي الطَّبِيعِيّ يوجد بوجود فرد واحد ولٰكِنَّهُ لا ينعدم بانعدام فرد أو فردين، بل ينعدم بانعدام كل الأفراد»، وقد أسلفنا هذا النقاش بالمناسبة فِي بحث المرَّة والتَّكرار وكذلك فِي مواطن أخرى، وتتحصل الملاحظة فِي أن القرينة إِنَّمَا تَتُِمّ بناءًا عَلَىٰ فكرة الرَّجُل الْهَمِدَانِيّ عن الكلّي الطَّبِيعِيّ، لا عَلَىٰ فكرة الْمَشْهُور (كالشَّيْخ الرئيس).
 توضيح ذلك: يعتقد الرَّجُل الْهَمِدَانِيّ أن وجود الكلّي الطَّبِيعِيّ فِي الخارج وجودٌ واحد سعيّ منتشر فِي جميع الأفراد، بينما النظرة الصحيحة والمشهورة هي أن الكلّي الطَّبِيعِيّ نسبته إلى أفراده نسبة الآباء العديدين إلى الأبناء (أي: هناك وجودات عديدة لِلْكُلِّيِّ الطَّبِيعِيّ فِي الخارج بعدد أفراده. فإذا كان أفراد البشر مائة مثلاً، يكون لهذا الكلّي مائة وجود فِي الخارج، وليس له وجود واحد سعي منتشر فِي هؤلاء الأفراد المائة، كما إذا كان عندنا مائة أب فِي الخارج).
 هذا، وتفيد ملاحظة الشَّيْخ الأصفهاني والسّيّد الأستاذ الخوئي رحمه الله أنّ هذه القرينة تتلاءم مع تصوّر الرَّجُل الْهَمِدَانِيّ عن الكلّي الطَّبِيعِيّ ولكننا معكم ومع الْمَشْهُور ننكر الكلّي الْهَمِدَانِيَّ ونَقُول: إِنَّ نسبة الكلّي الطَّبِيعِيّ إلى أفراده نسبة الآباء العديدين إلى الأبناء العديدين، وعليه لا يصحّ القول بأن الطَّبِيعَة توجد بوجود فرد واحد ولكن لا تنعدم بانعدام جميع الأفراد، بل يجب القول بأنها توجد بوجود فرد واحد وتنعدم بانعدام فرد واحد. أي: وجود كلي «الإنسان» فِي وجود «زيد» غير وجوده فِي فرد آخر منه وهو «عمرو»؛ فَإِنَّ كل واحد من أفراد الكلّي له وجود لِلْكُلِّيِّ غير وجود الفرد الآخر، فلا يعقل بقاء الكلّي الطَّبِيعِيّ الموجود ضمن «زيد» بانعدام «زيد» لكون الكلّي موجوداً ضمن «عمرو». إذن، إذا كان وجوده ضمن «زيد» غير وجوده ضمن «عمرو» - كما هو الصَّحِيح - فيتحقق وجودُه فِي ضمن «زيد» بتحقّق «زيد» وينعدم وجودُه فِي ضمن «زيد» بانعدام «زيد» حتّى لو كان «عمرو» والآخرون موجودين. وَلاَ يُعْقَلُ غير هذا الكلام إلاَّ إذا قيل بمقولة الْهَمِدَانِيّ عن الكلّي الطَّبِيعِيّ وهي مقولة باطلة. أي: كَمَا أَنَّ هُنَاكَ وجودات عديدة لِلْكُلِّيِّ بعدد الأفراد، كذلك هناك أعدام عديدة لِلطَّبِيعَةِ بعدد الأفراد.
 وحينئِذٍ بناءًا عَلَىٰ هذا يقول الإشكال: لا يبقى فرق بين باب الأمر وباب النَّهْي فِي عالم الامتثال؛ فإِنَّهُ بناء عَلَىٰ هذا الإشكال سوف ينهار الفارق الَّذي كان يُذكر بينهما فِي مقام الامتثال (بأَنَّ فِي امتثال الأمر يكفي الإتيانُ بفرد واحد من الْمُتَعَلَّق، ولكن فِي امتثال النَّهْي لا يكفي الانزجار والابتعاد عن فرد واحد. فإِنَّ فِي امتثال قوله: «صلِّ» يكفي الإتيان بصلاة ظهر واحدة ولا تجب جميع صلوات الظهر المتصوَّرة. أَمَّا فِي قوله: «لا تكذب» لا يكون المُكَلَّف ممتثلاً إلاَّ إذا ترك كل أفراد الكذب)، ولا يبقى فرق بين الأمر وَالنَّهْي فِي مقام الامتثال؛ وذلك لأَنَّ الأمر تعلّق بالكلي الطَّبِيعِيّ وكذلك النَّهْي قد تعلّق بالكلي الطَّبِيعِيّ، وَالطَّبِيعَة توجد بوجودات عديدة فِي الخارج بعدد الأفراد، وحيث أن الأمر «طلبٌ» من المولى لإيجاد هذه الطَّبِيعَة فِي الخارج، وَالنَّهْي «زجرٌ» و«تبعيدٌ» من المولى للمكلَّف عن الطَّبِيعَة، فَيَكُونُ كل من الأمر وَالنَّهْي متعلّقاً بالكلي الطَّبِيعِيّ، ومعنى ذلك أن لـ«كليَّ الصَّلاة» وجودات عديدة فِي الخارج بعدد أفراد الصَّلاة، وكذلك «كلي الكذب» له وجودات عديدة بعدد أفراد الكذب، إذن، فالأمر طلب لإيجاد كلي الصلاة فِي الخارج. فيا تُرَىٰ هل تعلّق هذا الطّلب بوجود واحد من هذه الوجودات العديدة أو تعلّق بكل هذه الوجودات؟
 فإن قلتم إِنَّه تعلّق بوجود واحد من هذه الوجودات العديدة، إذن يَتُِمّ الامتثال فِي باب الأمر بالإتيان بصلاة واحدة كما يجب أن يتحقّق الامتثال فِي باب النَّهْي بترك كذبة واحدة؛ لأَنَّنَا افترضنا أن الْمُتَعَلَّق فِي كُلّ من الأمر وَالنَّهْي عبارة عن وجود واحد من وجودات الطَّبِيعَة؛ فكما يتحقّق امتثال الأمر بالإتيان بصلاة واحدة يتحقّق امتثال النَّهْي بترك كذبة واحدة.
 وإن قلتم إن الوجودات العديدة هي مُتَعَلَّق الأمر وَالنَّهْي وليس الوجود الواحد، فأيضاً لا يبقى فارق بين الأمر وَالنَّهْي؛ إذ كما أن النَّهْي لا يمتثل إلاَّ بترك كل الكذبات فكذلك الأمر لا يمتثل إلاَّ بالإتيان بكل الصَّلَوَات ويجب الإتيان بكل الصَّلَوَات الْمُتَصَوَّرَة (كالصَّلاة فِي الدَّقِيقَة الأولى من بعد الزوال والثانية وفي الثوب الفلاني والمكان الفلاني وهكذا).
 وَالْحَاصِلُ أَنَّ التفريق بين الأمر وَالنَّهْي فِي مقام الامتثال بالقول بأن الأمر يمتثل بفرد واحد وَالنَّهْي لا يمتثل إلاَّ بترك جميع الأفراد، كان قائماً عَلَىٰ أساس فكرة الرَّجُل الْهَمِدَانِيّ القائلة بأن الطَّبِيعِيّ يوجد بوجود فرد واحد ولٰكِنَّهُ لا ينعدم بانعدام جميع الأفراد، وحيث انهار أساس تلك الفكرة فقد انهار هذا التفريق المبتني عَلَيها( [1] ).
 الإجابة: ولكن قد ذكرنا الإجابة عن هذا الإشكال سابقاً (عند طرحنا هذا الإشكال فِي بحث المرَّة والتَّكرار) حيث قلنا: إن هذا الإشكال مبنيّ عَلَىٰ الخلط بين مسألتين فَلْسَفِيَّة وأصولية؛ إِذْ أَنَّ هناك مسألة فَلْسَفِيَّة - وهي الَّتي دار حولها الخلاف بين الرَّجُل الْهَمِدَانِيّ والشيخ الرئيس ابن سينا - تدرس كيفيَّة وجود الكلّي الطَّبِيعِيّ خارجاً، بأَنَّهُ هل يوجد بوجود خارجي واحد أو له وجودات خارجيّة متعدّدة؟ وحيث أن هذا من شؤون الوجود، تتكَفَّل الفلسفة الاهتمام به. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه. وفي جانب آخر توجد مسألة أصولية وهي معرفة مُتَعَلَّق الأمر وَالنَّهْي، فهل الْمُتَعَلَّق وجود الصَّلاة الخارجيّ أو مفهومها وعنوانها؟ فيأتي الأُصُولِيّ ليقول: إن الأحكام الشَّرعيَّة لا تَتَعَلَّقُ بالوجود الخارجيّ رأساً، بل تَتَعَلَّقُ بالعناوين، بل إن الأمر لا يقتصر عَلَىٰ الأحكام الشَّرعيَّة؛ فَإِنَّ هذا شأن كل حكم صادر من أي حاكم كان، كحكم الحاكم بكون النار حارة؛ لأَنَّ الحكم إذعان وفعل للنَّفس، وأفعال النَّفس كالنفس مجرّدة عن الْمَادَّة، بينما الوجود الخارجيّ بالنار ماديّ، فكيف يَتَعَلَّقُ المجرّدُ عن الْمَادَّة بالماديّ مباشرة؟! إذن، لطالما أن هذا الحكم مجرّد عن الْمَادَّة فيجب أن يَتَعَلَّقُ بشيء من سنخه مجرّد عن الْمَادَّة، وهو عنوان «النار» ومفهومها، ولكن نظرنا إلى «مفهوم النار» لَيْسَ نظراً مفهوميّاً وإلا لما أمكننا أن نحكم عليه بالحرارة، لأَنَّ الْمَفْهُوم لَيْسَ حاراً ولا بارداً وأساساً لَيْسَ ماديّاً. فالحكم الصَّادر عَلَىٰ الْمَفْهُوم قد انصب عليه بما هو عين النار الخارجية وبالنظر الهوهوية والحمل الأولى (عَلَىٰ ما كان يعبر عنه السيد الشهيد الصدر رحمه الله)، أي: بنظرة تَرَىٰ أن «مفهوم النار» هو النار الخارجية، لا بما هو مفهوم.
 إذن، بعد أن تبينت المسألة الأصولية واتضح الفارق بينها وبين المسألة الْفَلْسَفِيَّة، يجدر بنا أن لا نخلط بينهما؛ فَإِنَّ الخلاف فِي تلك المسألة الْفَلْسَفِيَّة يدور حول الوجود الخارجيّ لِلْكُلِّيِّ الطَّبِيعِيّ، بينما لا يهمنا الوجود الخارجيّ لِلْكُلِّيِّ فِي المسألة الأصولية؛ لأَنَّ الأمر وَالنَّهْي لا يَتَعَلَّقَانِ بالوجود الخارجيّ بل يستحيل تعلقهما به؛ فَإِنَّ الممكن والواقع هو تعلّق الأمر وَالنَّهْي بالعناوين كعنوان الصَّلاة. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه. وحينئِذٍ نَقُول: إِنَّ عنوان «الصَّلاة» بلحاظ مصاديق الصَّلاة، نسبته نِسْبَة الآباء العديدين إلى أبنائهم؛ فَإِنَّ مفهوم الصَّلاة مفهوم واحد فِي عالم الْمَفَاهِيم، ولا يتعدّد مهما تعدّدت المصاديق، ونسبة الْمَفْهُوم إلى المصاديق نِسْبَة الأَبِ الْوَاحِدِ إِلَى أَبْنَائِهِ ولا خلاف فِي هذا، ولا يمكن إدخاله فِي الخلاف الْفَلْسَفِيّ بين الشَّيْخ الرئيس رحمه الله والرجل الْهَمِدَانِيّ؛ لأَنَّ ذاك خلاف فِي الوجود الخارجيّ لِلْكُلِّيِّ الطَّبِيعِيّ وهو خارج عن محلّ البحث الأُصُولِيّ.
 وحينئِذٍ يَتُِمّ ذاك الفرق الَّذي ذكروه بين الأمر وَالنَّهْي ولا ينهار وهو أن امتثال الأمر يتحقّق بامتثال فرد واحد بينما لا يتحقّق امتثال النَّهْي إلاَّ بامتثال جميع الأفراد؛ لأَنَّ الأمر تعلّق بالمفهوم وقد طلب المولى مني أن أوجِد هذا المفهومَ، وإيجاد الْمَفْهُوم خارجاً يتحقّق بإيجاد مصداق واحد من مصاديقه، بينما طلب المولى مني فِي النَّهْي أن أعدِمَ هذا الْمَفْهُوم، ولا ينعدم الْمَفْهُوم إلاَّ إذا انعدم كل الأفراد.
 فالفرق الْمَشْهُور الَّذي قالوه بين الأمر وَالنَّهْي، فرق يبقى محفوظاً وصحيحاً ولا علاقة للمسألة بمسألة الكلّي الْهَمِدَانِيّ. فهذا الإشكال الَّذي أورده الإِصْفِهَانِيّ وكذلك السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله غير وارد.
 حصيلة البحث: وهذا تمام الكلام بِالنِّسْبَةِ إلى النَّكِرَة فِي سياق النَّهْي وَالنَّفْي. وقد اتَّضَحَ أن النَّكِرَة الواقعة فِي سياق النَّفْي أو النَّهْي لا تَدُلّ عَلَىٰ العموم، بل تَدُلّ عَلَىٰ الإِطْلاَق الشُّمُولِيّ، ولا تعتبر عندنا من صيغ العموم ومن ألفاظ العموم، عَلَىٰ أَنَّنَا قد ذكرنا الشُّمُولِيَّة أيضاً وفسرنا نكتتها. وبهذا تَمَّ الكلام فِي الكلمة الثَّالثة من كلمات العموم وهي «النَّكِرَة الواقعة فِي سياق النَّفْي أو النَّهْي» بعد أن درسنا الكلمتين الأخريين «كُلّ» و«الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ»، وبذلك يبقى الحديث عن الكلمة الرَّابعة والأخيرة وهي عبارة عن أسماء الأعداد ك«عشرة» و«العشرين» و«المائة» و«الألف»، والَّتي هي أسماءٌ لأعدادٍ رياضية، فقد يُتصوّر أنَّها من ألفاظ العموم وأدواته؛ وذلك لأَنَّهَا تستوعب ما تندرج تحتها من آحاد؛ فَإِنَّ كلمة «العشرة» تستوعب الأجزاء والآحاد الموجودة تحت العشرة.
 وقد حاول المُحَقِّق الخُراسانيّ أن يدفع هذا التوهّم ويبطله، وذلك بعد إعطائه تعريفاً عن العموم فِي بداية البحث بأَنَّهُ عبارة عن أن يكون مفهوم مّا شاملاً ومستوعباً لجميع الأفراد الَّتي يصلح هذا الْمَفْهُوم للانطباق عليها (شمول الْمَفْهُوم لجميع ما يصلح المفهومُ للانطباق عليه) يقول: «وقد انقدح أن مثل شمول عشرة وغيرها كالعقود الأخر لآحادها المندرجة تحتها لَيْسَ من العموم؛ لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق عَلَىٰ كل واحد منها

[أي: مفهوم «العشرة» بما هو مفهوم لا يصلح للانطباق عَلَىٰ كل واحد واحدٍ من هذه الآحاد] فلا يَتُِمّ تعريف العموم الَّذي ذكرناه

». ويأتي توضيح كلام الخُراسانيّ ودراسته غداً إن شاء اللٰه تعالى. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه.


[1] - راجع نهاية الدراية: ج2، ص185، وكلمات السيد الخوئي رحمه الله.