الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/10/27

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 كانَ الكلامُ في وجوه إثبات دلالة الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ عَلَىٰ العموم وانتهينا إلى الوجه الرَّابع وهذا الوجه يريد أن يثبت أن فهمنا للاستيعاب والشمول من الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ لَيْسَ مستنداً إلى مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ وقرائنها، وبالتَّالي فيتعين أن يكون هذا الفهم مستنداً إلى الوضع (فإن دلالة لفظ عَلَىٰ معنىً لا تأتي من السَّماء، ولا بُدَّ أَنْ تَكُونَ إما من قرينة وإما وضع الواضع فِي اللُّغَة) فيثبت المُدَّعى والمطلوب. فهذا الوجه يريد أن يثبّت أن هذه الدِّلاَلَة لَيْسَ منشأها مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ، فيتعين أن يكون منشأها هو الوضع؛ وذلك بالقول بأَنَّهُ لا إِشْكَال فِي أن هناك فرقاً بين العامّ وبين المطلق. وقد سبق أن ذكرنا هذا الفرق فِي أوَّل بحث العامّ عندما كُنَّا نذكر تعريف العموم حيث قلنا إِنَّه رغم أن العامّ (= مثل >أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ<) والمطلق (= مثل >أَكْرِمِ الْعَالِمَ<) مشتركان فِي الشُّمُول والاستيعاب (= سراية الحكم إلى تمام الأفراد)، لكن هناك فرق جوهري وحقيقيّ بين العامّ والمطلق، وهذا الفرق هو أَنَّ فِي العامّ نظر الْمُتِكَلِّم فِي مرحلة اللَّفظ والكلام إلى الأفراد (يعني: الأفراد ملحوظة فِي مرحلة اللَّفظ والكلام). الْمُتِكَلِّم حشر الأفراد فِي المدلول الوضعيّ والاستعمالي للعامّ، ثم صبّ الحكم وقال: >أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ< مثلاً، وإن كانت هذه النظرة إجمالية وليست تفصيلية. أي: اللَّفظ بمدلوله ناظر إلى الأفراد. هذا فِي باب العامّ.

 أَمَّا فِي باب المطلق (= >أَكْرِمِ الْعَالِمَ) فلا يكون اللَّفظ نَاظِراً إلى الأفراد، بل هو ناظر إلى ذات العالم ويدلّ عَلَىٰ ذات الطَّبِيعَة بما هي هِي، ثم بعد ذلك تأتي مقدّمات الحِكْمَة وتنفي القيودَ الزائدة (تنفي قيد العدالة فيما إذا كُنَّا نحتمل إكرام العالم العادل وأي قيد يُحتمل) لنبقى نحن والذّات بما هي هِي، لكي يسري حينئِذٍ الحكم الَّذي انصبّ عَلَىٰ ذات الطَّبِيعَة إلى الأفراد. ولا يكون هذا السريان باللَّفظ؛ إِذْ أَنَّ اللَّفظ لَيْسَ هو الَّذي أسرى الحكمَ إلى الأفراد كما كان فِي باب العامّ، ومقدّمات الحِكْمَة لم تسرِ الحكم إلى الأفراد أيضاً وإنَّما هي نفت القيد (نفت أن يكون المراد العالم العادل أو الفقيه أو...). أَمَّا سريان الحكم إلى الأفراد فإنما هو بقانون عقلي يقول: إن انطباق الطَّبِيعَة عَلَىٰ أفرادها قهري (لطالما أن الحكم منصب عَلَىٰ ذات الطَّبِيعَة ولطالما أن هذه الأفراد أفرادٌ لهذه الطَّبِيعَة وليست أفراداً لطبيعة أخرى من الطَّبَائِع فِي العالم، إذن تنطبق هذه الطَّبِيعَة عَلَىٰ أفرادها بالعقل).

 هذا هو الفرق الجوهري بين باب العامّ وباب المطلق. وحينئِذٍ لو قال الْمُتِكَلِّم: >أَكْرِم علماء< مِنْ دُونِ >اللاَّم< (مع عدم افتراض التَّنْوِين الدَّالّ عَلَىٰ الْبَدَلِيَّة)، نفهم منه ثبوت الحكم عَلَىٰ جماعة لا تقل عن ثلاثة، من أفراد العالم.

 وحينئِذٍ نقول بأننا لو بقينا مع مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ، يجب علينا أن نفهم من >أكرم العلماء< ما نفهمه من >أَكْرِمِ الْعَالِمَ< نفسه، فكما نفهم منه ثبوت الحكم عَلَىٰ طبيعة >العالم< (بمعزلٍ عن الأفراد، حَيْث أَنَّ الكلام فِي >أَكْرِمِ الْعَالِمَ< لَيْسَ نَاظِراً إلى الأفراد). إذن، إن نفينا فِي >أَكْرِمِ الْعَالِمَ< أَنْ تَكُونَ >اللاَّم< موضوعة للعموم وبقينا نحن ومقدّمات الحِكْمَة علينا أن نفهم ثبوت الحكم عَلَىٰ طبيعة جمع العالم (وَالَّذِي كُنَّا نفهمه هناك)، مِنْ دُونِ أن نفهم شيئاً أكثر من هذا.

 والحال (يقول صاحب هذا الوجه) أن هذا خلاف الوجدان؛ لأن الوجدان قاضٍ بأننا نفهم من >أكرم العلماء< النَّظَر إلى الأفراد، لا إلى ذات الطَّبِيعَة بما هي هِي. فهناك فرق بين >أكرم العلماء< وبين >أَكْرِمِ الْعَالِمَ<. فلا نفهم فِي >أَكْرِمِ الْعَالِمَ< النظرَ إلى الأفراد (وإنَّما نظره إلى ذات الطَّبِيعَة)، بينما الْمَفْهُوم من >أكرم العلماء< هو النَّظَر إلى الأفراد. وهذه الأفراد منظورة بأي منظار؟ بمنظار مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ؟ لا، لأَنَّهُ تقدّم أن مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ لا تُري الأفراد، حتّى فِي >أَكْرِمِ الْعَالِمَ< وإنَّما دورها نفي القيود الزائدة عَلَىٰ الطَّبِيعَة.

 إذن، فبأي شيء تَمَّ هذا النَّظَر المحسوس لدى الوجدان العربي إلى الأفراد فِي >أكرم العلماء<؟ فلو لم نقل أن هذه النَّظَر من خلال >اللاَّم< الَّتي وضعت فِي اللُّغَة للدِّلالة عَلَىٰ هذا الاستيعاب والشمول والنظر إلى الأفراد، فمن أين أتى؟ فيستنتج صاحب هذا الوجه أَنَّه إذن نعرف من خلال وجدانيَة الرُّؤْيَة إلى الأفراد فِي الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ أَنَّهُ إذن الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ (أو قل >اللاَّم< الداخلة عَلَىٰ الجمع) مَوْضُوع للعموم. هذا وجه من وجوه إثبات أن الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ يَدُلّ عَلَىٰ العموم.

الجواب عن هذا الوجه: إلاَّ أن هذا الوجه أيضاً كالوجوه السَّابِقَة قابل للمناقشة؛ وذلك لأَنَّ من ينكر وضع الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ للعموم بإمكانه أن يقول فِي الجواب عن هذا الوجه: إن هذا الأمر الوجداني الَّذي نشعر به جميعاً (وهو وجود نظرة ولو إجمالية إلى الأفراد فِي الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ، وَالَّذِي لا نشكك فيه) لَيْسَ دَلِيلاً عَلَىٰ أنّ >اللاَّم< موضوعة للعموم، وإن كان أمراً صحيحاً؛ وذلك لأَنَّ بإمكان القائل أن يقول: إنّ هذه الرُّؤْيَة جاءت من >اللاَّم< (لا من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ)، لكن لا بما أن >اللاَّم< وضعت للعموم، بل أن >اللاَّم< وضعت لتعين مدخولها (أي: وضعت لكي تَدُلّ عَلَى أن مدخول >اللاَّم< مصداقاً مشخص ومعين وغير مُرَدَّد بين أفراد، إما مُعَيَّن بالعهد أو بالجنس أو بالمصداق الخارجيّ)، ولنفترض أَنَّنَا رجحنا التّعيّن المصداقي والخارجي. ثم ماذا؟ إذا كانت >اللاَّم< تَدُلّ عَلَىٰ أن مدخولها مصداقه مُعَيَّن وغير مُرَدَّد، وحينئِذٍ قال القائل: >أكرم العلماء<، فَسَوْفَ تَدُلّ >اللاَّم< هنا عَلَىٰ أن >العلماء< (الدالَّة عَلَىٰ جماعة لا تقل عن ثلاثة) تَدُلّ عَلَىٰ أن مصداق هذه >اللاَّم< مشخص خارجاً، وذلك فيما إذا أراد الْمُتِكَلِّم من قوله: >أكرم العلماء< تمامَ المائة. أَمَّا إن أراد أقل من المرتبة الأخيرة فَحَيْثُ توجد بدائل عديدة للأقل من المائة (إِذْ أَنَّ هناك تسعينات عديدة داخل المائة عَلَىٰ البدل).

 فينحصر التعين المصداقي الخارجيّ بالعموم؛ إِذْ أَنَّ النظر إلى الأفراد جاءت من >اللاَّم<. وذلك باعتبار أن >اللاَّم< تَدُلّ عَلَىٰ تعين مدخولها (تَدُلّ عَلَىٰ إرادة مرتبة من الجمع هي غير محددة بحد كمي. يعني: مرتبة مستغرقة للأفراد). إذن سببه >اللاَّم< لكن لا بالسبب الَّذي تصورتموه أنتم، بأن >اللاَّم< وضعت للعموم رأساً؛ إذ قد يكون المنشأ أن >اللاَّم< وضعت لتعين المدخول وتعين المدخول هنا مساوق للعموم.

 إذن، هذا هو النقاش الَّذي يمكن أن يناقش به هذا الوجه.

 ومعنى ذلك أَنَّهُ لا يوجد حينئذٍ برهان ودليل لدينا يقتضي الوضعَ للعموم ويثبت الوضع له. فلا يوجد ما يَدُلّ عَلَىٰ أن >اللاَّم< وضع للعموم ابتداء، ولا يوجد دليل عَلَىٰ أن >اللاَّم< وضعت لتعين المدخول المساوق للعموم كما كان يقول المسلك الثَّانِي. لا يوجد دليل عَلَىٰ شيء من الأَمْرَيْنِ؛ لأَنَّ الدَّلِيل إما هو دليل لمي وهو تصريح علماء اللُّغَة، بأن الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ هكذا. أو أن الدَّلِيل إنّيّ، أي: نحن نشعر بالوجدان فِي نفوسنا بذلك، وهذا الوجدان لا يمكننا تفسيره إلاَّ عَلَىٰ أساس الوضع. فمن المعلول نكتشف العلّة.

 أَمَّا الدَّلِيل الأوّل (= تصريح أهل اللُّغَة) فلم نجد أحد من اللغويين صَرَّحَ بأن الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ وضع للعموم.

 وأمّا الدَّلِيل الثَّانِي (= أن نجد وجداناً فِي داخل نفوسنا ثم لا يمكننا أن نفسره إلاَّ عَلَىٰ أساس العموم) فصحيح أَنَّنَا نشعر بالاستيعاب (كما قلنا بالأَمْسِ أَنَّهُ لا شكّ أن الفقيه يفتي بوجوب إكرام الجميع إن سمع >أكرم العلماء<، فليس الكلام فِي الدِّلاَلَة وفي أصل الاستيعاب)، لكن هذا الوجدان لَيْسَ بحيث لا يمكننا تفسيره إلاَّ بالوضع، بل بالإمكان أيضاً تفسيره بِمُقَدَِّمَاتِ الْحِكْمَةِ كما عرفنا سابقاً.

 إذن دلالته عَلَىٰ العمموم لم تكن لوضعه عَلَىٰ العموم. فلم يثبت الوضع للعموم لا ابتداءً ولا بتوسط التّعيّن (كما يقول المسلك الثَّانِي). أي: لم يثبت عندنا شيء من الأَمْرَيْنِ، بل لعلّ من المطمئن به عندنا عدم كلا الأَمْرَيْنِ. أي: أصل الدِّلاَلَة عَلَىٰ العموم بتوسط >اللاَّم< الداخلة عَلَىٰ التّعيّن، قد ناقشناه في الأيام الماضية وَقُلْنَا: إِنَّ >اللاَّم< وضعت لتعين مدخولها وتعين المدخول يُقصد به التّعيّن من حيث المصداق الخارجيّ أيضا، ولكن غاية ما يثبته هذا هو أَنَّ الْمُتِكَلِّم أراد من قوله: >أكرم العلماء< تمامَ الأفراد، وليس أقل من التمام؛ لأَنَّ التمام هو الَّذي مصداقه واحد ومصداق غير التمام أكثر من واحد. لكن يبقى هذا السُّؤَال، أَنَّهُ أراد تمام ماذا؟ تمام أفراد أي شيء؟ تمام أفراد طبيعة العالم المطلقة؟ أو تمام أفراد طبيعة العالم المقيّدة بالعدالة؛ لأَنَّها أيضا تمام الأفراد، لٰكِنَّها تمام أفراد الطَّبِيعَة المقيّدة بالعلم.

 إذن، إن معرفة هوية التمام بحاجة إلى إجراء الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة لكي نقول: تمام أفراد الطَّبِيعَة المطلقة مِنْ دُونِ القيود، وإلا فمن دون مقدّمات الحكمة نبقى فِي منتصف الطَّرِيق.

 فكلا المسلكين غير صحيح؛ لأَنَّ المسلك الأوّل أيضاً بالإضافة إلى كونه مستبعداً من خلال استبعاد الاشتراك؛ لأَنَّ معنى ذاك المسلك هو أن يكون لـ>اللاَّم< وضعان فِي اللغة: 1- وضعٌ لتعين المدخول. 2- ووضعٌ للعموم بالخصوص؛ فإن هذا الاشتراك نفسه مستبعد، أي: لا نصير إليه إلاَّ فِي موارد فيها دليل قوي. فهذا يحتاج إلى إثبات قوي.

 هذا، وهناك منبه يرشدنا إلى أن >اللاَّم< لم توضع فِي اللُّغَة للعموم، وهو عبارة عن أَنَّنَا نرى أَنَّهُ لا إِشْكَال فِي عدم العناية والتجوز فيما لو أن الْمُتِكَلِّم قيّد الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ بقيد وقال: >أكرم العلماء العدول<؛ إذ أَنَّهُ كلام عربي صحيح والاستعمال قوي ولا إحساس بالمجاز فِي هذه الجملة، فهو يشبه تقييد المفرد (مثل: >أَكْرِمِ الْعَالِمَ العادل<)، فكما لا نحتاج إلى العناية فِي تقييد المفرد، كذلك لا نشعر بالعناية والتجوز فِي تقييد الجمع.

 وهذا يكشف ويدلّ عَلَىٰ أَنَّ >اللاَّم< هي ليست موضوعة للعموم، وإلا فلو كانت >اللاَّم< موضوعة للعموم لدخلت عَلَىٰ >علماء< وأفادت العموم ثم هذا >العلماء< الدَّالّ عَلَىٰ العموم خُصِّصَ بالعدول. وهذا معناه أن التخصيص والتقييد بالعدول تَنَافَى مع المعنى الَّذي تَدُلّ عليه كلمة >العلماء<؛ لأَنَّ كلمة العلماء عُرفت باللام ثم وُصفت بالعدول؛ لأَنَّ الوصف مُعَرَّفٌ (= العدول) والوصف المُعَرَّف هو وصف للموصوف المعرف.

 فاللام أوَّلاً جعلت >علماء< معرفة (أي: دخلت عليها وعرّفتها) ثم وصفت بالعدول. فرتبة التوصيف بعد رتبة دخول >اللاَّم<. أي: أصبح لهذا الاستعمال نوع من التلكأ.

 للكلام صلة تأتي غداً إن شاء اللٰه تعالى. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه.