الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/10/20

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 كُنَّا ندرس الوجه الَّذي يريد إثبات دلالة الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ عَلَىٰ العموم عن طريق الدَّلِيل الَّذي شرحناه بالأَمْسِ، وهو عبارة عن أن صحَّة الاستثناء من الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ دَلِيل عَلَىٰ أن الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ يفيد العموم.

 قلنا: لا يمكن قبول هذا الدَّلِيل، ولا يمكن جعل صحَّة الاستثناء دَلِيلاً عَلَىٰ أن المستثنى منه يفيد العموم، وذلك أوَّلاً للنقض الَّذي ذكرناه بالأَمْسِ، وثانياً للجواب الحلي:

الجواب الحلي: هو أَنَّهُ يصحّ الاستثناء من الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ، ولا إِشْكَال فِي أن الاستثناء معناه إخراج ما هو داخل فِي المستثنى منه، وإنَّما الكلام فِي أَنَّ الاستثناء معناه إخراج ما كان داخلاً فِي المعنى الوضعيّ للمستثنى منه أو إخراج ما كان داخلاً فِي المعنى التَّصديقيّ الْجِدِّيّ للمستثنى منه، أو لا هذا ولا ذاك، بل إخراج ما كان داخلاً فِي المعنى الاستعماليّ؟!

 فكأنَّ صاحب هذا الوجه لم يتصوّر إلاَّ شقين:

الشق الأوّل: إما أن يكون زيدٌ المستثنى فِي قولنا: «أكرم العلماء إلاَّ زَيْداً» داخلاً فِي المعنى الوضعيّ للعلماء وأُخرج فِي الاستثناء.

الشق الثَّانِي: وإما أن يكون داخلاً فِي المعنى التَّصديقيّ والمراد الْجِدِّيّ لِلْمُتِكَلِّمِ وأُخْرِجَ.

 ثُمَّ قَالَ صاحب الوجه (كما شرحنا بالأَمْسِ): أَمَّا الثَّانِي فمنتفي، باعتبار أَنَّهُ لو كانت صحَّة استثناء زيد من الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ، دَلِيلاً عَلَىٰ أن زَيْداً داخل فِي المراد الْجِدِّيّ واستثني، فهذا معناه أَنَّ صحَّة الاستثناء تختصّ بالموارد الَّتي يوجد فيها مرادٌ جدّي لِلْمُتِكَلِّمِ، أَمَّا فِي موارد الهزل الَّتي لا مراد جدّي لِلْمُتِكَلِّمِ فيها، فلا يمكن القول بأن زَيْداً استثني من المراد الْجِدِّيّ. بينما نحن نرى أَنَّهُ يصحّ الاستثناء حتّى فِي موارد الهزل، فإن للمازح أن يقول: «أكرم العلماء إلاَّ زَيْداً».

 فَجَعَلَ صاحبُ هذا الوجه صحةَ الاستثناء حتّى فِي موارد الهزل دَلِيلاً عَلَىٰ تَعَيُّنِ الشق الأوّل (القول بأن المستثنى كان داخلاً فِي الْمَدْلُول الوضعيّ للمستثنى منه) فيثبت المُدَّعى.

لكِنَّنََا نقول: لا يدور الأمر بين هذين الشقين، بل هناك شق ثالث، وهو أنْ يكون زيد الَّذي استثني وأخرج من العلماء، يكون داخلاً قبل الاستثناء (لولا الاستثناء) لا فِي المعنى الوضعيّ للعلماء ولا فِي المراد الْجِدِّيّ لِلْمُتِكَلِّمِ من العلماء، بل يكون داخلاً فِي المراد الاستعماليّ لِلْمُتِكَلِّمِ، بحيث يكون الْمُتِكَلِّم مستعملاً لفظ العلماء (= الجمع) فِي العموم، استعمالاً صحيحاً وحقيقيّاً؛ لأَنَّ هيئة الجمع (= العلماء) وضعت لجماعة من أفراد العالم لا تقلّ عن ثلاثة، فَيَصِحُّ استعمال لفظ العلماء فِي ثلاثة من العلماء، كما يصحّ استعمال هذا اللَّفظ فِي أربعة، وفِي عشرة وفِي «كُلّ العلماء» أي: المائة. فَيَكُونُ استعمال هذا اللَّفظ فِي كُلّ هذه المراتب استعمالاً صحيحاً وحقيقيّاً؛ لأَنَّ هيئة الجمع (العلماء) وضعت بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ لكل جمع لا يقل عن ثلاثة.

 إِنَّمَا أقول: «بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ» إشارةً إلى ما قلناه قبل سنين فِي بحث معاني الحروف والهيئات من أن الوضع فِي الحروف وكذلك فِي الهيئات بشكل عامّ، عامّ والموضوع له خاصّ. يعني: أن الواضع حينما أراد أن يضع كلمة «فِي» (الَّتي هي حرف) تصوّرَ عنواناً عاماً (= مفهوماً اسميّاً عامّاً) وهو مفهوم «الظرفية»، ثم وضع لفظ «فِي» لا لهذا الْمَفْهُوم الاِسْمِيّ نفسه، لأَنَّ معنى لفظ «فِي» لَيْسَ الظرفية؛ لأَنَّ «الظرفية» اسم، بينما «فِي» حرف، والحرف لَيْسَ مرادفاً للاسم. أي: وضع لفظ «فِي» لمصاديق هذا المعنى الخاصّ، أي: واقع الظَّرفيّات الموجودة فِي الخارج. فالموضوع له خاصّ، أي: الْمَوْضُوع له فِي كلمة «فِي» نفس هذه الظرفية الخارجية. وهذا ما تقدّم شرحه مفصَّلاً بِالنِّسْبَةِ للحروف وكذلك بِالنِّسْبَةِ للهيئات؛ فإن هيئة «العلماء» وضعت بنحو الْمَوْضُوع له الخاصّ والوضع العامّ. يعني: الواضع حينما أراد أن يضع هيئة «العلماء»، استظهر هذا العنوان العامّ (= الجامع الاِسْمِيّ) كعنوان مشير إلى مصاديق هذا العنوان العامّ. مصاديق هذا العنوان العامّ كثيرة منها الثَّلاثة ومنها الأربعة ومنها العشرين ومنها المائة الَّتي هي المرتبة الأخيرة. فهذه المراتب كُلّهَا مصاديق لذاك الجامع، وهيئة الجمع وضعت لهذه المصاديق، أي: الوضع عامّ ولكن الْمَوْضُوع له خاصّ. هيئة الجمع وضعت للثلاثة ووضعت للأربعة ووضعت للعشرين ووضعت للمائة. إذن، يصحّ استعمال «العلماء» فِي كُلّ واحد واحدٍ من هذه المراتب وهذا الاستعمال حقيقي ولا تجوّز فيه. هذا شأن الجمع.

 الْمُتِكَلِّم هنا استعمل لفظ «العلماء» فِي العموم (أي: فِي المائة) استعمالاً صحيحاً، ثم أخرج من هذا زيداً. فصحة الاستثناء لا تَدُلّ إلاَّ عَلَىٰ أن الْمُتِكَلِّم استعمل العلماء فِي العموم، ثم أخرج منه زيداً، وهذا ما لا كلام لنا فيه. فإِنَّهُ لا نتحدث عن صحَّة استعمال العلماء فِي العموم أو عدم صحَّة هذا الاستعمال؛ فإِنَّهُ لا شكّ فِي صحَّة هذا الاستعمال.

 أَمَّا مدعاكم وهو أَنَّهُ لطالما الاستعمال صحيح فَيَكُونُ العلماء قد استعمل فِي العموم، فهذا كلام صحيح. وكذلك صحيح أن هذا الاستعمال حقيقي، ونحن أيضاً نقبل بذلك، لكن الكلام فِي أَنَّهُ هل أن استعمال العلماء فِي غير العموم حقيقي أم هو مجازي؟ إذا كان «العلماء» (= الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ) مَوْضُوعاً للعموم فاستعماله فِي غير العموم مجاز. وإذا لم يكن مَوْضُوعاً للعموم وإنَّما مَوْضُوع لكل جماعة لا تقل عن ثلاثة، إذن استعماله فِي غير العموم استعمال حقيقي وليس مَجَازِيّاً.

 كلامنا فِي هذا. بينما أنتم تدعون أَنَّهُ مَوْضُوع للعموم، وتريدون إثبات ذلك بصحة الاستثناء. بينما لا تَدُلّ صحَّة الاستثناء عَلَىٰ أن لفظة العلماء موضوعة للعموم بحيث يكون استعماله فِي غير العموم مجاز. بل صحَّة الاستثناء دليل عَلَىٰ مطلبٍ يقبل به الكلُّ ولا نقاش فيه (= لا نقاش ولا خلاف فِي صحَّة استعمال الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ فِي العموم وهذا الاستعمال حقيقي بلا إِشْكَال، يقبل به المنكرون لوضع الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ؛ لأنهم يقولون إن الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ مثل الجمع غير الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ، أي: العلماء مثل «علماء»، كما أَنَّهُ يقبل به المثبتون). فليس الكلام فِي أن استعمال العلماء فِي العموم هل هو صحيح أم لا، حتّى تأتون بدليل يقول: يصحّ الاستثناء من العلماء. فهذا ما نقبل به، ولا نقاش فيه. أَمَّا هل أن لفظة «العلماء» (أي: هيئة الجمع الَّتي حُلّيت باللام) هل هي موضوعة للعموم، بحيث لو استعمل العلماء وأريد منه العشرة يكون الاستعمال مجازاً، أو لا؟

 ولذا نقضنا بالأَمْسِ على هذا الكلام بالجمع المضاف، فلو كان صحَّة الاستثناء تَدُلّ عَلَىٰ أن المستثنى منه مَوْضُوع للعموم فماذا تقولون فِي الجمع المضاف مثل «أكرم علماء البلد إلاَّ زَيْداً»، فهل تجعلون هناك صحَّة الاستثناء دَلِيلاً عَلَىٰ أن علماء البلد مَوْضُوع للعموم. رغم أن الاستثناء منه صحيح. هذا ما أردنا أن نقوله بِالنِّسْبَةِ للوجه الأوَّل.

 إذن، الوجه الأوّل من هذه الوجوه الَّتي ذكرت لإِثْبَاتِ دلالة الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ عَلَىٰ العموم، غير تامّ.

الوجه الثَّانِي: هو أَنَّهُ لا شكّ فِي صحَّة دخول أدوات العموم الاسميّة من قبيل «كُلٍّ» و«جميع» عَلَىٰ الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ، كما فِي قولنا: «أكرم كل العلماء» أو «أكرم جميع العلماء»، كما لا إِشْكَال فِي أَنَّ العموم يستفاد من قوله «أكرم كل العلماء»، بينما استفادة العموم من الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ فقط محلّ خلاف. أي: لو قال: «أكرم العلماء» فَيَكُونُ مختلف فيه بأَنَّهُ هل يُستفاد منه العموم أو لا، ولكن لو قال: «أكرم كل العلماء» فلا شكّ فِي استفادة العموم منه عِنْدَ الْجَمِيعِ.

 وحينئِذٍ يراد فِي هذا الوجه أن يجعل هذا دَلِيلاً عَلَىٰ أَنَّ الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ (أي: كلمة «العلماء») تَدُلّ عَلَىٰ العموم، عَلَىٰ عكس ما تقدّم بالأَمْسِ (فِي الإشكال الثَّالث) حيث كان يراد أن يُجعل دخول كلمة «كُلٍّ» عَلَىٰ «العلماء» دَلِيلاً عَلَىٰ أن الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ (= العلماء) لا يفيد العموم؛ إذ لو أفاد العموم وكلمة «كُلٍّ» أيضاً تفيد العموم فيلزم اجتماع المثلين أو التَّكرار. ولكن يأتي الوجه الثَّانِي عَلَىٰ عكس ذلك، أي: يجعل هذا دَلِيلاً عَلَىٰ دلالة الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ عَلَىٰ العموم؛ وذلك بأن يقال: إِنَّنّا ذكرنا سابقاً فِي العامّ الماضي عندما كُنَّا نبحث عن كلمة «كُلٍّ» (فِي الجهة الثَّانية من جهات البحث عن لفظة «كُلٍّ») أنَّ العموم الْمُسْتَفَاد من كلمة «كُلٍّ» حين دخولها عَلَىٰ المعرفة عموم أجزائي ( مثل «احفظ كلَّ الكتاب»)، بينما العموم الْمُسْتَفَاد منها حين دخولها عَلَىٰ النَّكِرَة عموم واستيعاب أَفْرَادِيّ (أي: مصاديق عديدة، مثل: «اقرأ كل سورة» و«لا تأكل كل طعام»).

 وكلامنا الآنَ فِي دخول كلمة «كُلٍّ» عَلَىٰ «العلماء»، فِي قول القائل: «أكرم كل العلماء»، حيث دخلت «كُلٍّ» عَلَىٰ المعرفة، ووَفقاً للقاعدة المذكورة (إذا دخلت عَلَىٰ المعرفة أفادت الاستيعاب الأَجْزَائِيّ) تفيد كلمة «كُلٍّ» الاستيعاب الأَجْزَائِيّ (أي: تفيد استيعاب جميع العلماء)؛ إذ أنَّها دخلت عَلَىٰ «العلماء» و«العلماء» معرفة. وأمّا ما هي أجزاء العلماء؟ فإن الأداة لا تُعَيِّن ولا تُحَدِّد أجزاء مدخولها، ولا دخل لها بأجزاء المدخول، وإنَّما بعد أن تتشخّص أجزاء مدخولها تأتي كلمة «كُلٍّ» وتدلّ عَلَىٰ استيعاب هذه الأجزاء. أي: أنَّ كلمة «كُلٍّ» لا تَدُلّ عَلَىٰ أَنَّهُ ما هي أجزاء الكتاب فِي «اقرأ كل الكتاب»، بل تأتي كلمة «كُلٍّ» وتدلّ عَلَىٰ استيعاب أجزاء الكتاب، وذلك بعد تعين وَتشَخّص أجزاء الكتاب. أَمَّا أجزاء الكتاب فتحددها طبيعة الكتاب. أي: كل طبيعة هي واجدة لأجزاء نفسها. فالمدخول بعد أن تتعين أجزاؤه تأتي كلمة «كُلٍّ» لاستيعاب هذه الأجزاء.

 وحينئِذٍ إذا قال المتكلّم: «أكرم كل العلماء» فمعنى ذلك تعيّن أجزاء العلماء وتشخصها قبل دخول كلمة «كُلٍّ»، لتأتي كلمة «كُلٍّ» بعد ذلك وتدلّ عَلَىٰ استيعاب هذه الأجزاء. والمعيِّن والمشخِّص لهذه الأجزاء هو «اللاَّم»؛ فإن «اللاَّم» هي الَّتي عيّنت أن أجزاء العلماء كلهم. فكل فرد من العلماء هو جزء لهذا المدخول (=الجمع)، لكي تأتي بعد ذلك كلمة «كُلٍّ» وتدلّ عَلَىٰ استيعاب هذه الأجزاء.

 هذا خلاصة هذا الوجه. يبقى أن ندرس هذا الوجه فِي اليوم القادم إن شاء اللٰه تعالى. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه.