الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/06/14

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 تلخص مِمَّا ذكرناه أن العموم والاستيعاب الَّذي يستفاد من أداة العموم مثل كلمة «كُلٍّ»، غير محتاج إلى الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة فِي مدخول هذه الأداة. فلو قال مثلاً: «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ» نستفيد منه استيعابَ الحكم لتمام أفراد طبيعة العالم، خلافاً لما قاله المُحَقِّق النائيني.

 وبيَّنَّا أنَّ السِّرَّ فِي ذلك هُوَ أَنَّ أصالة الجد هي المرجع فِي مثل هذا المقام، وهي أقوى من أصالة الإِطْلاَق؛ فإن الإِطْلاَق ظهور حالي سلبي وسكوتي لِلْمُتِكَلِّمِ (معناه أن ما سكت عنه الْمُتِكَلِّم ولم يذكره لم يرده) بينما فِي المقام نحن نتمسك بأصالة الجد الَّتي هي قائمة على أساس ظهور حالي إيجابي وكلامي لِلْمُتِكَلِّمِ، فنقول: بما أن الْمُتِكَلِّم استعمل أداةً وضعت للاستيعاب لغةً، وهذا الاستيعاب دخل على اسم جنس (كلمة «العالم») واسم الجنس موضوع لِلطَّبِيعَةِ المهملة، لكن بعد دخول الاستيعاب على هذه الطَّبِيعَة، سيكون معناه أنَّ هذه الطَّبِيعَة رُئِيَتْ مِن قِبَلِ الْمُتِكَلِّم.

 وَقُلْنَا: إِنَّ الحكم على الطَّبِيعَة متوقّف على تصوّر الطَّبِيعَة، وبمجرد أن تُتَصَوَّر الطَّبِيعَةُ المهملة تخرج عن كونها مهملةً وتصبح طبيعة مرئية بكونها إطلاقية (إذا لم يُلحظ مع الطَّبِيعَة قيداً)؛ فهو ذكر فِي كلامه استيعاب طبيعة العالم، وما ذكره أراده، فَيَكُونُ قد أراد استيعاب تمام أفراد طبيعة العالم، فلا نحتاج إلى إجراء الإِطْلاَق فِي كلمة العالم حتّى نستفيد العموم. هذا ظهور لَفْظِيّ ووَضْعِيّ وهو أقوى من الإِطْلاَق الَّذي هو ظهور حالي حَكَمِيّ.

 فصحيح أنَّ الْمُتِكَلِّم لو كان قد قيّد مدخول الأداة بقيد من القيود، أي: لو كان قد قال: «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ عادلٍ» لم يكن استعماله هناك للأداة استعمالا مَجَازِيّاً بل كان استعمالاً حقيقيّاً؛ لأَنَّهُ استعمل الأداةَ فِي معناها الْمَوْضُوع له وهو الاستيعاب، لكنَّ هذا لَيْسَ معناه أَنَّهُ إذا لم يقيِّد مدخول الأداة بقيدٍ فدلالةُ الكلام هنا على عموم واستيعاب أفراد طبيعة «العالم» دلالة إطلاقية ومحتاجة إلى مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ كما يقول النائيني (فقد ذكرنا هكذا فِي البيان الفنّيّ الَّذي ذكرناه لصالح النائيني). وهذا معناه أن الأداة موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول؛ إذ تارة يراد من المدخول طبيعة العالم فيقول: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ»، وتارة يراد من المدخول خصوص العالم العادل فَتَدُلُّ الأداة أيضاً على استيعاب أفراد العالم العادل.

 إذن، كأنَّ النائيني اعتبر عدم التَّجوُّز فِي موارد التَّقْيِيد شَاهِداً وقرينةً على أنّ الأداة على حياد وأنَّها تَدُلّ على استيعاب المراد من المدخول، ويبقى أن نرى ما هو المدخول؟ هل المدخول هو «العالم» أو المدخول هو «العالم العادل»؟ إِذْ أَنَّ كليهما ينسجم مع الأداة. فلو أردنا أن نستفيد من الأداةِ استيعاب تمام أفراد طبيعة العالم يجب علينا أن نتمسك بالإطلاق ومقدّمات الحِكْمَة ونقول: بما أن الْمُتِكَلِّم قال: «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ» ولم يذكر قيداً (وهو قيد «العالم»)، إذن فمقتضى الإطلاق ومقدّمات الحِكْمَة هو أَنَّهُ أراد استيعاب تمام أفراد طبيعة العالم.

 فهذا الكلام غير تامّ وقد اتَّضَحَ عدم تَمَامِيَّة؛ وذلك لأَنَّ مدخول الأداة إذا لم يُقيَّد بقيد فهنا نفس الكلام يكون دالاًّ على استيعاب تمام أفراد طبيعة العالم، أي: نفس الكلام سوف يَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ اللَّفظيَّة الوضعيَّة على استيعاب تمام أفراد طبيعة العالم. أي: تأتي أصالة الجد وتقول: هذا الْمُتِكَلِّم (كما شرحنا فِي بداية بحث اليوم) ذكر فِي كلامه أداةً وضعت فِي اللُّغَة لاستيعاب مدخولها، ومدخولها اسم جنس، واسم الجنس مَوْضُوع لذات الطَّبِيعَة (طبيعة العالم) لكن بما أن الاستيعاب دخل على اسم الجنس وعلى هذه الطَّبِيعَة، والاستيعاب نوع من الحكم يصدره الْمُتِكَلِّم، فيقتضي أَنْ تَكُونَ طبيعة العالم قد رُئيت ولوحظت مِن قِبَلِ الْمُتِكَلِّم، وبمجرد أن تتصور طبيعة العالم تخرج عن كونها طبيعة مهملة وتصبح طبيعةً مطلقة. فذكر فِي كلامه استيعاب تمام أفراد طبيعة العالم، والأصل فيه أن يكون ما ذكره أراده جِدّاً.

 فلا نحتاج إلى الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة، ولو كُنَّا نحتاج إلى الإِطْلاَق ومقدّمات الحكمة فقولوا فِي كُلّ مورد دلالة الكلام على الاستيعاب وعدم القيد، دلالةٌ إطلاقية مفتقرة إلى مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ حتّى لو صَرَّحَ الْمُتِكَلِّم بالإطلاق (مثلما إذا قال: «أكرم مطلق العلماء» أو «أكرم عموم العلماء»)؛ لأَنَّ نفس البيان الَّذي ذكرتموه لكلمة «كل» تجري فِي المقام.

 فقولوا فِي المقام أن «أكرم مطلق العلماء» إن الاستعمال حقيقي هنا، كما أن «أكرم مطلق العلماء العدول» استعمال حقيقي أيضاً. فاعتبروا عدم التَّجوُّز وكون الاستعمال حقيقيّاً فيما لو قال «أكرم مطلق العلماء العدول» شَاهِداً وقرينةً على أَنَّهُ عندما يقول: «أكرم مطلق العلماء» تفتقر الدِّلاَلَة على الاستيعاب إلى مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ، بينما مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الميرزا لا يقول بذلك، أي: لا إِشْكَال فِي أن دلالة «أكرم مطلق العلماء» على الاستيعاب وعلى عدم القيد ليست مفتقرة إلى مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ، وإنَّما هي دلالة لفظية وضعيَّة تَصَوُّرِيَّة كما هو واضح. وكذلك الأمر هنا فِي قوله: «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ».

 ولعلّ الالتباس فِي هذه النُّقْطَة هي الَّتي سببت أن يتجه ذهن النائيني إلى ما قاله. وعلى كل حال بهذا ننتهي من الكلام فِي الجهة الثَّالثة من الجهات الَّتي وعدنا بالبحث عنها حول كلمة «كُلٍّ».

الجهة الرَّابعة: من جهات البحث حول كلمة «كل»، ونريد أن نرى فِي هذه الجهة أن سِنْخ العموم والاستيعاب الْمُسْتَفَاد من كلمة «كُلٍّ» ما هو؟ فقد درسنا أن الاستيعاب والعموم يتصوّر على أقسام ثلاثة: العموم البدليّ والعموم الاستغراقي والعموم المجموعي.

 لا إِشْكَال فِي كلمة «كُلٍّ» لا تَدُلّ على العموم الْبَدَلِيّ؛ لأَنَّهَا لم توضع لهذا النوع من الاستيعاب.

 يبقى أن نرى هل يستفاد من كلمة «كُلٍّ» العموم الاستغراقيّ (وجوب إكرام كل واحد واحدٍ من العلماء «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ») أو يستفاد منها العموم الْمَجْمُوعِيّ أي: مجموع العلماء موضوع واحد لحكم واحد، ولا توجد أحكام عديدة لموضوعات عديدة. فلو لم يأتي بالجميع لا يكون ممتثلاً.

قد يقال: إن مقتضى الأصل هو العموم الاستغراقيّ الشُّمُولِيّ (والمقصود من الأصل هو أصالة الإِطْلاَق). أي: لوحظ الأفراد بحيث كان كل فرد منهم موضوع مستقلّ؛ لأَنَّ العموم الْمَجْمُوعِيّ بحاجة إلى عناية زائدة وبحاجة إلى بيان زائد وإضافي، كما فِي كُلّ إطلاق (أحل الله البيع كان عليه أن يأتي ببيان زائد إن كان يريد شيئاً آخر كبيع خاصّ).

 فِإن فِي العموم الْمَجْمُوعِيّ أصبحت الأفراد نتيجة تقييد بعضهم ببعض أجزاء لمركب واحد، بحيث يكون الامتثال لهذا العامّ الْمَجْمُوعِيّ بالإتيان بجميع الأفراد، وعصيانه بترك هذا المجموع، ولو بترك فرد واحد. فإذا كان فِي الكلام ما يَدُلّ على هذه العناية فنحمل الكلام على هذه العناية الخاصّة، لكن المفروض لا يوجد فِي الكلام لفظ يَدُلّ على هذه العناية الَّتي يحتاجها العموم الْمَجْمُوعِيّ. فَيَكُونُ الْمُتِكَلِّم ساكتاً عن إفادة العموم الْمَجْمُوعِيّ، وسكوته يَدُلّ على أَنَّهُ لم يرد العموم الْمَجْمُوعِيّ. وهذا معناه أن مقتضى الإِطْلاَق وسكوت الْمُتِكَلِّم عن العناية الزائدة أن العموم هو العموم الاستغراقيّ.

وقد يقال: بعكس هذا الكلام، وهو أن مقتضى الأصل عبارة عن العموم الْمَجْمُوعِيّ؛ لأَنَّ هذا العموم الْمَجْمُوعِيّ هو المُفاد والمدلول الأوّليّ للأداة؛ باعتبار أن الْمَجْمُوعِيَّة وإن كانت بحاجة إلى عناية زائدة، لكن هذه العناية موجودة وأُعمِلت مِن قِبَلِ الْمُتِكَلِّم فعلاً، أي: هذه العناية داخلة فِي المراد الاستعماليّ لمراد الْمُتِكَلِّم؛ لأَنَّ أداة العموم تَدُلّ على استيعاب مدخولها (كما تقدّم فِي أوَّل البحث عن كلمة «كُلٍّ») فلا بُدَّ من أن يكون مفهوم الأداة مفهوماً واحداً ولا يمكن أن يكون لها مفاهيم عديدة (موضوعة له بما هي كثيرة)، أَمَّا أَنْ تَكُونَ الأفراد الْمُتِكَثِّرَة بما هي مُتِكَثِّرَة فيستحيل أَنْ تَكُونَ مَدْخُولاً لأداة العموم؛ لأَنَّ الأفراد الْمُتِكَثِّرَة بما هي مُتِكَثِّرَة عبارة عن معانٍ ومفاهيم عديدة. أي: لهذا «العالم» معنى يختلف عن معنى «العالم» الآخر، وكذلك «العالم» الثالث يختلف معنىً عنهما وعن معاني الأفراد الأخرى للعالم. فإذا كان المراد الاستعماليّ (فِي مقام الإثبات) هو هذا المعنى الواحد فمقتضى أصالة التَّطَابُق بين مقام الإثبات ومقام الثُّبوت هو أَنْ تَكُونَ هذه العناية موجودة فِي مقام الثُّبوت، أي: مُرادَة لِلْمُتِكَلِّمِ، أي: الْمُتِكَلِّم افترض كل العلماء المائة عالماً واحداً حتّى يمكنه أن يدخل الأداة عليها، وإلا فكيف يمكنه أن يدخل الأداة على المعاني العديدة بما هي عديدة فإن إدخال الأداة على المعاني العديدة بما هي عديدة مستحيل؛ إذ لَيْسَ لمفهوم الأداة إلاَّ معنى واحداً.

 فإذا كان المراد والمدلول الاستعماليّ فِي مقام الإثبات (= كلام الْمُتِكَلِّم) عبارة عن معنى واحد، فمقتضى أصالة التَّطَابُق بين مقام الإثبات ومقام الثُّبوت هو أَنْ تَكُونَ هذه العناية موجودة فِي مقام الثُّبوت (أي: أَنْ تَكُونَ مرادةً لِلْمُتَكَلِّمِ، أي: افترض المتكلم جميع العلماء المائة عالماً واحداً، لكي يُدخل عليها الأداة، وإلا فيستحيل إدخال الأداة على المعاني العديدة بما هي عديدة.

 إذن، ففي مقام الإثبات الْمُتِكَلِّم لاحظ مجموعَ المائة، لأَنَّهُ فِي مقام الإثبات استعمل لفظ «العالم» وكل من يستعمل لفظ «العالم» لا بُدَّ وأن يكون مستعملا لهذا اللَّفظ فِي معنى واحد، فالمتكلم فِي مقام الإثبات لاحظ المجموع، لأنَّ المجموع معنى واحد. فَحَيْثُ أَنَّهُ لاحظ المجموع إثباتاً فَيَكُونُ قد لاحظ المجموع ثبوتاً بمقتضى أصالة التَّطَابُق بين مقام الإثبات ومقام الثُّبوت.

 إذن فنحن أمام كلامين متقابلين.

التَّحْقِيق أن يقال تبعاً لسيِّدنا الأستاذ الشَّهيد رضوان الله عليه: إن هذه العناية (عناية توحيد الأفراد الْمُتِكَثِّرَة) لا شكّ أَنَّهُ مِمَّا لا بُدَّ منها (وهي ضرورية فِي مقام الاستعمال) أي: أنَّها أخذت مِن قِبَلِ الْمُتِكَلِّم فِي مقام الاستعمال، بنفس النُّكتة الَّتي ذكر فِي المقام الثَّانِي، فإنَّ اللَّفظ الواحد لا يستعمل إلاَّ فِي معنى واحد. فلا بُدَّ أن يكون المراد الاستعماليّ لِلْمُتَكَلِّمِ من مدخول الأداة (من كلمة «العالم») عبارة عن مفهوم واحد توحدت فيه المتكثرات، كي يمكن استعمالُ اللَّفظ فِي ذاك المعنى الواحد. فأصل هذه العناية أمر لا بُدَّ منه فِي مقام الاستعمال. إلاَّ أن هذه العناية على نحوين سوف نشرحهما إن شاء الله فِي البحث القادم. .