الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/06/12

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 اتَّضَحَ مِمَّا تقدّم أنَّ الدَّلِيل المذكور لإِثْبَاتِ قول النائيني غير تامّ، كما اتَّضَحَ أَنَّنَا لا نحتاج إلى الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة للوصول إلى ما نريده فِي باب العموم (وهو استيعاب الحكم لتمام أفراد الطَّبِيعَة). أي: اتَّضَحَ أَنَّهُ وإن كان المدخول عبارة عن اسم الجنس واسم الجنس يَدُلّ على الطَّبِيعَة المهملة، ولا نحتاج فيها إلى الإِطْلاَق، ولكن الطَّبِيعَة المهملة مطلقةٌ بالحمل الشائع، وإن لم يكن الإِطْلاَق داخلاً فِي مدلولها، وحيث لم يلحظ معها قيد فتكون مطلقة، إذ لا يراد بالمطلقة إلاَّ أن تتصور الطَّبِيعَة ولا يتصوّر معها قيد، لا أَنَّهُ يتصوّر معها عدم القيد، فتكون قابلة للانطباق على تمام الأفراد، وحينئِذٍ يطرأ الاستيعاب عليها.

 وهذا المطلب يحصل من نفس إطلاق اسم الجنس مِنْ دُونِ قيد، بعد إحراز عدم استعمال اسم الجنس فِي المقيَّد، بموجب أصالة الحقيقة. وبهذا يكون مدخول الأداة قابلاً للانطباق على الأفراد بذاته، بلا حاجة إلى مقدّمات الحِكْمَة، فيمكن للأداة حينئذٍ أن تَدُلّ على استيعاب تمام أفراد هذا المدخول.

 إذن، نحن فِي نفس الوقت الَّذي نوافق فيه المُحَقِّق النائيني رحمه الله فِي أصل مُدَّعَاهُ القائل بأن الطَّبِيعَة لا بُدَّ من أن تَتَعَيَّنَ فِي الطَّبِيعَة المطلقة قبل طروّ الاستيعاب عليها، حتّى بعد ذلك تَدُلّ الأداة على استيعابها، فِي نفس الوقت الَّذي نوافقه على هذا المطلب، لكِنَّنَا نخالفه فِي الطَّرِيق إلى هذا المطلب، فهو رحمه الله ذهب إلى أن الطَّرِيق لتعيين الطَّبِيعَة فِي الطَّبِيعَة المطلقة هو الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة، ولكننا لا نوافقه على هذا الطَّرِيق، وإن كُنَّا نقول بأَنَّهُ لا بُدَّ من أن تتحدد الطَّبِيعَة فِي الطَّبِيعَة المطلقة حتّى يمكن أن يطرأ الاستيعاب عليها، لكن الطَّرِيق عندنا هو أصالة الحقيقة، بالبيان المتقدّم أمس وَالَّذِي أشرنا إليه اليوم.

إِشْكَال وهنا قد يُطرح إِشْكَال على أصل كلام المُحَقِّق النائيني (وأصل المُدَّعى الَّذي وافقناه فيه وهو أن الطَّبِيعَة لا بُدَّ وأن تتعين وتتحدد فِي الطَّبِيعَة المطلقة قبل أن يطرأ الاستيعاب والعموم عليها، فيقال): إن ذات الطَّبِيعَة الَّتي وُضع اللَّفظ (لفظ «العالم» مثلاً) لها، هو اسم جنس، وقد وضع اسم الجنس لذات الطَّبِيعَة وَالَّتِي يُعبَّر عنها بالطبيعة المهملة، وهذه الطَّبِيعَة هي المعنى الَّذي استُعمل فيه اللَّفظ، وهي الجامعة بين المطلقة وغير المطلقة. والمطلقة منطبقة على تمام الأفراد. إذن، فالطبيعة المهملة أيضاً منطبقة على الأفراد؛ لأَنَّ الطَّبِيعَة المهملة جامعة بين المطلقة والمقيَّدة. والجامع موجود دائماً فِي ضمن فرده، وقد فرضنا أن أحد فردي الجامع هو الطَّبِيعَة المهملة.

 فإذا كان الفرد قابلاً للانطباق على الأفراد فالجامع الموجود فِي الفرد أيضاً قابل للانطباق على الأفراد؛ لأَنَّ الجامع بين ما يقبل الانطباق على الأفراد وما لا ينطبق على الأفراد لا بُدَّ وأن يكون منطبقاً على الأفراد، إذن هذا الجامع موجود فيما يقبل الانطباق. إذن، فالطبيعة المهملة موجودة ضمن الأفراد لأَنَّ أحد فردي هذه الطَّبِيعَة هو الطَّبِيعَة المطلقة والمطلقة منطبقة على الأفراد (أي: عكس ما ذكرناه كدليل فني لكلام الميرزا).

 وإذا كانت المطلقة تنطبق على جميع الأفراد فالطبيعة المهملة الَّتي هي محصورة فِي الطَّبِيعَة المطلقة أيضاً منطبقة على الأفراد، فَتَدُلُّ أداة العموم (كلمة «كُلٍّ») الداخلة على هذه الطَّبِيعَة المهملة (اسم الجنس) على استيعاب تمام أفراد المدخول، بلا حاجة إلى تحديد الطَّبِيعَة فِي الطَّبِيعَة المطلقة لكي يطرأ الاستيعاب والعموم فِي رتبة لاحقة،

 ويردف صاحب الإشكال كلامه قائلاً: وإلا لو كُنَّا نحتاج إلى تحديد الطَّبِيعَة فِي الطَّبِيعَة المطلقة أوَّلاً كي يمكن بعد ذلك طروّ الاستيعاب عليها، لورد عليكم النقض بالوضع (باب وَضْع الألفاظ للمعاني)، فإن الوضع أيضاً حكم يُصدره الواضع على كل من اللَّفظ والمعنى، حيث يضع لفظ الأسد قِبَال هذا المعنى المعيَّن، فإن الواضع يضع لفظ الإنسان فِي مقابل الطَّبِيعَة المهملة. ونحن نجد أن هذا الحكم بمجرّد صدوره من الواضع يسري إلى كل أفراد هذه الطَّبِيعَة المهملة، وكل حصص هذه الطَّبِيعَة المهملة. فإن الإنسان الأسود إنسان والإنسان الطويل إنسان و.. وهذا الحكم بذاته يسري إلى تمام حصص الطَّبِيعَة وأفرادها، بدليل صحَّة استعمال لفظ الإنسان فِي كُلّ واحدة من أفراد الإنسان.

 فهذا شاهد ودليل على أن الحكم يسري إلى تمام أفراد هذه الطَّبِيعَة المهملة، وإلا لما صَحَّ استعمال لفظ الإنسان فِي حصّة خاصّة كالإنسان الأسود.

 فلو كان الأمر كما يقول النائيني من أَنَّهُ لا بُدَّ من أن تتعين الطَّبِيعَة فِي الطَّبِيعَة المطلقة أوَّلاً لكي تثبت صحَّةُ السريان، لكان لازمه أن لا يسري الوضع فِي باب الوضع إلى تمام الحصص؛ لأَنَّ الواضع لم يُحدِّد الطَّبِيعَة فِي الطَّبِيعَة المطلقة ثم وضع اللَّفظ، بل وضع الحكم قبل طروّ الوضع وسرى هذا الحكم إلى الحصص.

 فليكن مقامنا من هذا القبيل؛ فإن الحكم فِي مقامنا عبارة عن الاستيعاب. ومدخول الأداة عبارة عن اسم الجنس، ومعنى اسم الجنس هو الطَّبِيعَة المهملة، فإذا دخلت الأداة على هذا المدخول كان معناه أن الاستيعاب حكم طرأ على الطَّبِيعَة المهملة، فيسري الحكم إلى تمام الأفراد، بلا حاجة إلى ما أفاده النائيني.

 هذا الإشكال فِي الواقع يَتُمّ الجوابُ عنه بالنحو الَّذي تتضح به حقيقة المقصود فِي المقام بتوضيح هذه المصطلحات الثَّلاثة: «الطَّبِيعَة المطلقة» و«الطَّبِيعَة المقيّدة» وَ«الطَّبِيعَة المهملة» وتوضيح نسبة «الطَّبِيعَة المهملة» إلى «الطَّبِيعَة المطلقة» وَ«الطَّبِيعَة المقيَّدة». وتفصيل هذا البحث موكول إلى بحث المطلق والْمُقَيَّد، ولكن إيجازا وإجمالا نقول:

 إذا لاحظنا جملة «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ»، فمن جهة نجد إطلاقاً وسرياناً لهذا الحكم إلى تمام أفراد العامّ، ومن جهة أخرى الْمَوْضُوع هو «العالم» و«العالم» لفظ وضع فِي اللُّغَة لطبيعة العالم، وليس مَوْضُوعاً لطبيعة العالم المطلقة. وهذا معناه عكس ما رأيناه أوَّلاً. أي: الإِطْلاَق لَيْسَ دخيلاً فِي الْمَوْضُوع؛ لأَنَّ الْمَوْضُوع هو العالم والعالم عبارة عن الطَّبِيعِيّ وليس عبارة عن الطَّبِيعَة المطلقة. فمعنى ذلك أن الإِطْلاَق لَيْسَ مأخوذاً ودخيلا فِي الطَّبِيعَة، وإلا لما وجدنا خارجاً طبيعةً مطلقة حتّى يجب علينا إكرامه.

 فما هو تفسير هذا التناقض؟!

الجواب عن ذلك هو أَنَّهُ يوجد فِي الذِّهْن مَرئيّ وملحوظ (وهو ذات الطَّبِيعَة، طبيعة العالم فِي مثالنا) وتوجد مرآتان كيفيتان (إحداهما: الرؤية الإطلاقية، وثانيهما الرؤية التقييدية) للحاظ هذا المرئي والملحوظ.

أَمَّا الرؤية الإطلاقية فهي مكوَّنة من عنصرين:

 أحدهما: لحاظ ذات الطَّبِيعَة (أي: تصوّر ذات الطَّبِيعَة، أي: تصوّر طبيعة العالم مثلاً).

 ثانيهما: عدم لحاظ خُصُوصِيَّة وعدم رؤية قيد ووصف مع هذه الطَّبِيعَة.

 وهذا الثَّانِي من خصائص الرؤية، ومن قيود الرؤية، وليس من خصائص المرئي. أي: هذا لا يزيد فِي المرئي شيئاً على ذات الطَّبِيعَة. فالمقصود من عدم لحاظ القيد هو واقع عدم لحاظ القيد، لا مفهومُ عدم لحاظ القيد. أي: أمر تصديقي وليس أمراً تصوُّريّاً. أي: لَيْسَ المقصود تصوّر عدم لحاظ القيد. وهذا يعني أن الإِطْلاَق خُصُوصِيَّة فِي اللِّحَاظ والرؤية الذِّهْنِيَّة لذات الطَّبِيعَة وليس الإِطْلاَق خُصُوصِيَّة فِي ذات المرئيّ والملحوظ.

 هذا معنى ما قلناه من أن الإطلاق لَيْسَ دخيلاً فِي الْمَوْضُوع، وهذا معنى قولنا: «الإِطْلاَق لَيْسَ دخيلاً فِي العالم». أي: الْمَوْضُوع عبارة عن ذات الطَّبِيعَة والإطلاق خُصُوصِيَّة من خُصُوصِيّات رؤية ذات الطَّبِيعَة، وليس الإِطْلاَق خُصُوصِيَّة من خُصُوصِيّات نفس ذات الطَّبِيعَة (نفس المرئي)، وإنَّما من خُصُوصِيّات الرؤية والنظارة والمنظار. فَكَمَا أَنَّ المنظار لَيْسَ داخلاً فِي المنظور والمرئي (كالفرش والبساط مثلاً)، لا الفرش المنظور إليه بالمنظار، فالإطلاق لَيْسَ داخلاً فيه كمرئي. هذه هي الرؤية الإطلاقية.

أَمَّا الرؤية التقييدية فهي أيضاً مكونة من عنصرين:

 أحدهما: رؤية وتصوّر ولحاظ ذات الطَّبِيعَة.

 ثانيهما: لحاظ خُصُوصِيَّة معها، أي: رؤية قيد ووصف زائد على ذات الطَّبِيعَة.

 هذا العنصر الثَّانِي وإن كان كالعنصر الثَّانِي فِي الرؤية الإطلاقية (أي: العنصر هنا من خصائص الرؤية، أي: لحاظ القيد خُصُوصِيَّة واقعية مثل عدم لحاظ القيد) لكن هذا العنصر له ملحوظ ومرئي؛ لأَنَّهُ لحاظ ورؤية وليس عدم لحاظ، فإذا كان لحاظاً ورؤية فله ملحوظ ومرئي وهو القيد.

 وهاتان الرؤيتان متباينتان (أي: الرؤية الإطلاقية مع الرؤية التقييدية) فِي العنصر الثاني، وإن كانا مشتركتين فِي العنصر الأوّل وهو ذات لحاظ الطَّبِيعَة؛ فَإِنَّ العنصر الثَّانِي فِي الرؤية الإطلاقية كان عبارة عن عدم لحاظ القيد، بينما العنصر الثَّانِي فِي الرؤية التقييدية عبارة عن لحاظ القيد. وهذا العنصر (التقييدي) أصبح سبباً وعلة لأَنَّ يكون المرئي بهذه الرؤية الإطلاقية موسَّعاً ومنطبقاً على تمام الأفراد، وإن لم يكن داخلاً فِي المرئي واللحاظ، لٰكِنَّهُ فِي نفس الوقت يُحَدِّدُ مدى سعة المرئي.

 فالإطلاق خُصُوصِيَّة فِي الرؤية الذِّهْنِيَّة تشكِّل الحيثية التعليلية لسعة انطباق المرئي. أي: تصبح علّة وحيثية تعليلية لسعة انطباق المرئي والملحوظ. أي: يؤدي إلى أن يكون الملحوظ من خلال هذه النظارة منطبقاً على تمام الأفراد، وهذا هو معنى ما قلنا من أَنَّهُ على الرغم من أن الإِطْلاَق لَيْسَ دخيلاً فِي العالم، ولكننا مع ذلك نشاهد سريان الحكم إلى تمام أفراد الْمَوْضُوع؛ لأَنَّ الْمَوْضُوع ذات الطَّبِيعَة المهملة، والمرئي ذات الطَّبِيعَة، ولكن إذا رؤي هذا المرئي بالنظارة الإطلاقية فهذه النظارة له عنصر ثان (= عدم لحاظ القيد) يسبب أن يكون المرئي من خلال هذه النظارة قابلاً للانطباق على الأفراد.

 فنوافقكم على أن المرئي هو ذات الطَّبِيعَة ولكن هذا المرئي عندما رُئي من خلال هذه النظارة الإطلاقية وهذه النظارة الإطلاقية كان فيها عنصر عبارة عن عدم لحاظ القيد، هذا العنصر سَبَّبَ أن يكون هذا المرئي واسعاً وقابلاً للانطباق على جميع الأفراد. وهذا هو السَّبَب فِي مشاهدتنا السريان. وللبحث تتمة تأتي غداً إن شاء الله تعالى. .