الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/06/06

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 كان الكلام فِي نقد القول القائل بأنَّ العموم فِي طول الإِطْلاَق، وأنه متوقّف على إجراء الإِطْلاَق فِي مدخول أداة العموم. ذكرنا أن سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رحمه الله اعترض على هذا القول بأن قولكم: إن الأداة موضوعة لاستيعاب المراد من المدخول، ماذا تقصدون منه؟ ذكرنا أن هناك محتملات أربعة:

الاحتمال الأوّل: أن المراد هو أن الأداة موضوعة لاستيعاب المراد الْجِدِّيّ، فهذا الاحتمال أبطلناه بالمحاذير الثَّلاثة المتقدّمة.

الاحتمال الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ المقصود هو أنَّ المقصود أنَّ الأداة موضوعة لاستيعاب المراد الاستعماليّ من المدخول. هذا أيضاً أبطلناه بالبيان المتقدّم.

الاحتمال الثَّالث: أَنْ يَكُونَ المقصود هو أن الأداة موضوعة لاستيعاب ما فِي ذهن الْمُتِكَلِّم وما فِي تصوّر الْمُتِكَلِّم من المراد الاستعماليّ، بالبيان الَّذي شرحناه بالأَمْسِ.

 هذا الاحتمال أيضاً باطل؛ لأَنَّهُ يرد عليه:

أوَّلاً: أن هذا يلزم منه أن يكون هناك مفهوم غريب داخلاً فِي معنى أداة العموم، وإليك مزيد من الشرح والتوضيح:

 إنَّ مدخول «كل» فِي قوله: «أَكْرِمْ كُلَّ رَجُلٍ» هو كلمة «كل رجل»، وهي جملة ناقصة متكونة من مضاف ومضاف إليه، ونسبة ناقصة قائمة بطرفين:

 أحد الطرفين: الاستيعاب الَّذي يَدُلّ عليه «كل».

 الطَّرَف الثَّانِي (أي: المستوعَب الَّذي هو مصبّ الاستيعاب): هو كلمة «رجل» أو «عالم». فإن فرضتم أن كلمة «عالم» تَدُلّ على المعنى (والمدلول) الوضعيّ نفسه الَّذي وضعت له كلمة «عالم»، أي: ذات الطَّبِيعَة باعتبار أن كلمة «عالم» اسم جنس والمعنى الوضعيّ لاسم الجنس هو ذات الطَّبِيعَة، وحينئِذٍ لا مَحْذُور ولا إِشْكَال أبداً.

 أما إن فرضتم أن هذا الطَّرَف الثَّانِي لَيْسَ عبارة عن ذات الطَّبِيعَة صرفاً، بل أكثر من ذات الطَّبِيعَة (كما هو المفروض فِي هذا الاحتمال الثَّالث حيث فرضنا أن الأداة تَدُلّ على استيعاب ما يتصوره الْمُتِكَلِّم من كلمة «عالم»، لا أن الأداة وضعت لاستيعاب ذات الطَّبِيعَة، فالمستوعَب "أي: طرف الاستيعاب" لَيْسَ عبارة عن ذات الطَّبِيعَة فحسب، بل هو عبارة عمَّا فِي ذهن الْمُتِكَلِّم وما فِي تصوّر الْمُتِكَلِّم من كلمة «عالم») فلا بُدَّ من وجود دالّ في الجملة يَدُلّ على هذه الزيادة، وذلك لوضوح أَنَّنَا نتكلّم على مستوى الدِّلاَلَة اللَّفظيَّة للكلام؛ لأَنَّنَا نريد أن نرى أن الْمَدْلُول التَّصوُّريّ من الكلام ما هو؟ ولا يمكن أن نفهم معنى فِي مرحلة الدِّلاَلَة التَّصوُّريَّة ما لم يكن هناك دالّ عليه ، فما هو الدَّالّ بِالدِّلاَلَةِ اللَّفظيَّة التَّصوُّريَّة على هذا الطَّرَف الثَّانِي لِلنِّسْبَةِ الناقصة (أي: الطَّبِيعَة مع هذه الزيادة)؟!

 فإن كان الدَّالّ على هذه الزيادة عبارة عن مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ فهذا خلف فرضنا؛ لأَنَّ الفرض هو أَنَّنَا نريد أن نحدد الْمَدْلُول التَّصوُّريّ، لا الْمَدْلُول التَّصديقيّ والمراد الْجِدِّيّ، ومقدّمات الحِكْمَة لا تجدي ولا تنفع لتحديد الْمَدْلُول والمعنى التَّصوُّريّ لِلَّفْظِ؛ فإن مفاد مقدّمات الحِكْمَة المراد الْجِدِّيّ للكلام، ولا تجري مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ فِي مرحلة تعيين المعنى التَّصوُّريّ اللَّفظيّ للكلام. فإذا فرضتم أن الدَّالّ على هذه الزيادة فهذا يلزم منه الخلف. أي: يلزم منه أن تكون الأداة فِي معناها التَّصوُّريّ محتاجة إلى مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ الَّتي لا تنفع الأداة فِي هذه المرحلة.

 وإن كان الدَّالّ على هذه الزيادة عبارة عن المدخول (أي: كلمة «رجل» فِي مثالنا)، فهذا باطل أيضاً ويلزم منه التَّجوُّز فِي كلمة «رجل»؛ لأَنَّ معناه أن كلمة «رجل» استعملت هنا فِي الطَّبِيعَة مع الزيادة، والحال أن هذا لَيْسَ هو المعنى الحقيقي لكلمة «رجل». فيلزم من هذا الفرض أن يكون الاستعمال مَجَازِيّاً.

 وإن كان الدَّالّ على هذه الزيادة عبارة عن الأداة، فهذا غير معقول؛ لأَنَّ للأداة معنى وهو الاستيعاب، وإلا فمعنى ذلك أَنْ تَكُونَ الأداة مستعملة فِي معنيين: أحدهما الاستيعاب، وثانيهما المستوعَب (ما فِي ذهن الْمُتِكَلِّم من الطَّبِيعَة)، وهو غير معقول. هذا هو الإشكال الأوّل الَّذي يرد على هذا الاحتمال الثَّالث.

وثانياً: سَلَّمْنَا أنَّ الأداة موضوعة لاستيعاب ما يتصوره الْمُتِكَلِّم من المدخول فِي مقام الاستعمال، حتّى وإن لَمْ يَكُنْ هناك دالّ على هذه الزيادة فِي مقام الكلام، مع ذلك نسلِّم بوجود هذا المعنى الغيبي الَّذي لا دالّ عليه فِي الكلام، وسلَّمنا أن هيئة الجملة الناقصة تَدُلّ على نسبة ناقصة بين معنى الأداة (الاستيعاب) وبين هذا المعنى الغيبي وهو ما فِي ذهن الْمُتِكَلِّم من معنى كلمة «رجل» مثلاً. أي: قوله: «كل رجل» يرجع إلى قوله: «كل من ينطبق عليه المعنى الَّذي أنا أتصوره من لفظ "رجل"». أي: استيعاب كل من ينطبق عليه ما يتصوره الْمُتِكَلِّم من كلمة «رجل».

 فإذا بنينا على هذا، فَسَوْفَ يبقى معنى هذا الكلام مُجْمَلاً إلى يوم القيامة، فلا يفيد العموم فِي يوم من الأيام؛ وذلك لأَنَّه إذا كان قوله «كل رجل» دالاًّ على «كل من ينطبق عليه المعنى الَّذي قصده الْمُتِكَلِّم من كلمة "رجل"»، فلن نعرف مقصود المتكلم؛ إذ لا يوجد أصل عُقَلاَئِيّ يُحَدِّدُ وَيُعَيِّنُ لنا أَنَّهُ ماذا تصوّر الْمُتِكَلِّم فِي مقام الاستعمال من كلمة «رجل»؛ وذلك لأَنَّ الموجود عندنا هو عبارة إما عن «أصالة الحقيقة» أو «أصالة الإِطْلاَق» أو «أصالة التَّطَابُق بين الإثبات والثُّبوت».

أما أصالة الحقيقة فإنَّ مفادها هو أن الْمُتِكَلِّم قصد المعنى الَّذي وضع له اللَّفظ (أي: المعنى الحقيقي)، فقد أراد الحيوان المفترس من كلمة «الأسد» مثلاً حين استعمالها، فلا تَدُلّ أصالة الحقيقة على أَنَّهُ أراد شيئاً زائداً على الْمَوْضُوع له، بخلاف المقام حيث فرضنا شيئاً زائداً، أي: قوله «كل رجل» يَدُلّ على استيعاب ما ينطبق عليه ما يتصوره المتكلم من كلمة «رجل»، فهذا مطلق لا تثبته أصالة الحقيقة.

وأمّا أصالة الإِطْلاَق فلا تُثبت غيرَ المراد الْجِدِّيّ، وهذا معناه أن مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ إِنَّمَا تجري فيما إذا لم يكن هناك إجمال وغموض فِي المعنى التَّصوُّريّ للكلام، فإذا كان المعنى المتصوَّر للكلام وَاضِحاً فَمُقَدِّمَاتُ الْحِكْمَةِ تجري لكي تثبت أن نفس هذا المعنى التَّصوُّريّ مراد جِدّاً لِلْمُتِكَلِّمِ، أمّا إذا لم يكن المعنى التَّصوُّريّ وَاضِحاً، بل كان مُجْمَلاً، فلا تجري مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ.

 والمفروض هنا أن المعنى التَّصوُّريّ غير واضح؛ لأَنَّنَا فرضنا أن الأداة تَدُلّ على استيعاب ذاك الَّذي يتصوره الْمُتِكَلِّم من كلمة «رجل»، وذاك غير معلوم، فكيف نثبت بمقدمات الحِكْمَة أنَّ الْمُتِكَلِّم تصوّر المطلقَ، ثم بعد ذلك اثبتوا بِمُقَدِّمَاتِ الْحِكْمَةِ أَنَّهُ أراد هذا المطلق.

وإن شئتم قلتم: لا يثبت العموم (بناءًا على هذا الاحتمال) أصلاً وأبداً حتّى بِمُقَدِّمَاتِ الْحِكْمَةِ؛ إذ لا يمكننا حين سَمَاع «أَكْرِمْ كُلَّ رَجُلٍ» أن نثبت - حتّى بالإطلاق - أن ما فِي ذهن الْمُتِكَلِّم من مدخول الأداة هو الإنسان المذكر، لأَنَّ هناك أصولا عُقَلاَئِيّاً ثلاثة:

أحدها أصالة الحقيقة، وغاية ما تُثبته هي أن قيد «العادل» و«العالم» غير مأخوذ وغير ملحوظ فِي الْمَدْلُول الاستعمالي لكلمة «رجل»، أي: كلمة رجل لم تستعمل مجازاً فِي الإنسان المذكر العادل، بل استعملت استعمالا حقيقيّاً، أي: استعملت فِي الإنسان المذكر. فلا تنفي أصالة الحقيقة وجود قيد العادل فِي ذهن الْمُتِكَلِّم.

وثانيهما أصالة الإِطْلاَق وغاية ما تثبته مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ وأصالة الإِطْلاَق هي أن كل ما هو موجود ثبوتاً فهو موجود إثباتاً، وما هو غير موجود إثباتاً فهو غير موجود ثبوتاً، أي: ما لم يقله لم يرده، وهذه المقدّمات إِنَّمَا تجري فِي المراد الْجِدِّيّ، أي: مراده الْجِدِّيّ لَيْسَ أكثر من كلامه. فأصالة الإِطْلاَق تجري فِي المراد الْجِدِّيّ ولا تجري فِي المراد الاستعماليّ. بينما نحن بناءًا على الاحتمال الثَّالث الَّذي ندرسه كان يقول أن الأداة موضوعة لاستيعاب ما فِي ذهن الْمُتِكَلِّم وما فِي تصوّر الْمُتِكَلِّم من المراد الاستعماليّ لا المراد الْجِدِّيّ.

وثالثهما أصالة التَّطَابُق بين عالم الإثبات وعالم الثبوت: وهي تَدُلّ على أنَّ ما هو موجود إثباتاً موجود ثبوتاً[1] ، وهو غير نافع فِي المقام أيضاً؛ إذ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا الأصل لا ينفي وجود شيء إضافي فِي عالم الثُّبوت، أما أَنَّهُ لعلّه هناك شيء موجود ثبوتاً ولٰكِنَّهُ غير موجود إثباتاً، فهذا ما لا ينفيه هذا الأصل؛ إذ من المحتمل أن يكون الْمُتِكَلِّم قد قصد استعمال اللَّفظ فِي «الرَّجُل العالم» ولم يأت بقيد «العالم» فِي عالم الإثبات.

 فعلى أي حال اتَّضَحَ أن هذا الاحتمال الثَّالث باطل. فتصل النوبة إلى الاحتمال الرَّابع وهذا ما سندرسه غداً إن شاء الله تعالى.

[1] - وهي قاعدة احترازية القيود (الطهراني).