الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/05/05

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 انتهينا إلى مناقشة النَّظريّة الَّتي أفادها المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ وَالَّتِي تقدّم توضيحها. وتقع دراستنا لهذه النَّظريّة في مقامين:

المقام الأوّل: في أن الفارق الَّذي ذكره المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ للعموم الْبَدَلِيّ والعموم غير الْبَدَلِيّ هل هو صحيح أم لا؟

المقام الثَّانِي: في أن الفارق الَّذي ذكره بين العموم الاستغراقيّ والعموم الْمَجْمُوعِيّ هل هو صحيح أم لا؟

أما المقام الأوّل فهو أن الفارق والمائز بين العموم الْبَدَلِيّ والعموم العَرضي (أي: غير الْبَدَلِيّ) هل هو ناشئ من خُصُوصِيَّة في العموم نفسه، أو هو ناشئ من خُصُوصِيَّة في شيء آخر؟ فقد عرفنا أن المُحَقِّقَيْنِ الخُراسانيّ والعراقيّ اتّفقا على أن الفرق ناشئ من خُصُوصِيَّة في شيء آخر (ليس من العموم نفسه)، غاية الأمر المُحَقِّق الخُراسانيّ ذهب إلى أنّ هذا الفرق ناشئ من خُصُوصِيَّة في كيفيَّة تعلّق الحكم بالعامّ، حيث قال: إن تعلّق الحكم بالعامّ قد يُنتج العمومَ الْبَدَلِيّ وقد ينتج العموم غير الْبَدَلِيّ، بينما المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ ذهب إلى أن الفرق ناشئ من خُصُوصِيَّة في مدخول أداة العموم (كما تقدّم توضيحه)، فإن كان مدخولها نكرة فالعموم عموم بدليّ، وإن كان اسم جنس فالعموم عموم عَرضِيّ.

 أما كلام المُحَقِّق الخُراسانيّ فقد عرفنا بأَنَّهُ غير تامّ؛ لما تقدّم في مناقشة نظريَّته بأن الاستيعاب نفسه بِقَطْعِ النَّظَرِ عن طروّ أي حكم عليه، تارةً يُتصوّر بنحوٍ بدليّ، وأخرى يتصوّر بنحو عَرضِيّ. أي: نحن نرى وجداناً الفرقَ بين مفهوم «كل الأشياء» أو «جميع الأشياء»، وبين مفهوم «أحد الأشياء»، مع أَنَّهُ لا حكم في البين.

 فالوجدان يرى بأن الاستيعاب الْبَدَلِيّ والاستيعاب العَرضيّ نحوان من الاستيعاب، وهما متباينان بما هما استيعابانِ، وبغض النَّظَر عن طروّ الحكم. فالفرق بين الْبَدَلِيّ والعرضي ليس ناشئاً من كيفيَّة تعلّق الحكم بالعامّ.

 وأمّا كلام المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ رحمه الله فأيضاً لا يمكن المساعدة عليه؛ وذلك لأَنَّهُ أفاده رحمه الله بأنَّ علينا أن نعرف مدخول الأداة، فإن كان نكرةً فالعمومُ عموم بدليٌّ؛ لأَنَّ التَّنْوِين في النَّكِرَة المُنَوَّنة بتنوين التَّنْكِير يدلّ على الوحدة، فتكون هذه النَّكِرَة مقيَّدةً بقيد الوحدة، فلا يمكنها أن تستوعب أفرادها استيعاباً عرضيّاً (وفي عَرض واحد)؛ لأَنَّهُ خلاف قيد الوحدة، فلا بُدَّ من أن يكون استيعابها لأفرادها استيعاباً بَدَلِيّاً، أي: أحد الأفراد. أما إذا كان مدخول الأداة اسم الجنس فيمكنه أن يستوعب أفرادَه استيعاباً عرضيّاً؛ لأَنَّهُ ليس منوَّناً بتنوين التَّنْكِير الدَّالّ على الوحدة.

 وهذا الكلام مِمَّا لا يمكن المساعدة عليه لا في جانب النَّكِرَة ولا في جانب الاسم الجنس، أمّا في جانب النَّكِرَة فمن الممكن أن نفترض أن مدخول الأداة نكرة وَمُنَوَّنَة بتنوين التَّنْكِير وأن يكون تنوين التَّنْكِير دالاًّ على الوحدة أيضاً، لكن مع ذلك يكون الاستيعاب عرضيّاً وليس بَدَلِيّاً، فليس دائماً إذا كان المدخول نكرة فلا بُدَّ وأن يكون العموم بَدَلِيّاً؛ إذ يمكن افتراض أن العموم بدليّ مع أن المدخول مُنَوَّن بتنوين التَّنْكِير الدَّالّ على الوحدة؛ وذلك لا كما تخيّله المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ بحيث يكون المستوعِب للأفراد النكرةُ نفسها (نعم إذا أردنا أن تكون النَّكِرَة نفسها مستوعِبة لأفرادها فكلامه صحيح؛ إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه لأَنَّ النَّكِرَة المنونة بتنوين التَّنْكِير الدَّالّ على الوحدة لا يمكن أن تستوعِب أفرادها استيعاباً عرضيّاً) بل بشكل آخر وهو أن يكون المستوعِب لأفراد النَّكِرَة استيعاباً عرضيّاً عبارةً عن مفهومٍ آخر (وليس مفهوم النَّكِرَة نفسها) من قبيل مفهوم «الكلّ». فلو فرضنا أن كلمة «رجل» في قول القائل: «أكرم كلَّ رجلٍ» نكرة ولم تكن اسم جنس، أي: كان التَّنْوِين تنوين التَّنْكِير وليس تنوين التمكّن، لأن كون التَّنْوِين للتَّنكير لا يمنع من أن يكون الاستيعاب والعموم الَّذي نفهمه من هذه الجملة استيعاباً عرضيّاً؛ لأَنَّ المستوعِب ليس هو كلمة «رجل» حتّى يقول الْعِرَاقِيّ: إِنَّهُ نكرة ودالّ على الوحدة، فلا يمكن أن يستوعب استيعاباً عرضيّاً، وإنَّما المستوعب كلمة «كلّ» حيث تستوعب أفرادَ الرجل استيعاباً عرضيّاً. أي: مفهوم كلمة «كلّ» يستوعب أفرادَ مفهوم «رجل»، ولا استحالة في هذا، ولا استحالة في أن تكون كلمةٌ مقيَّدة بقيد الوحدة، لكن تأتي كلمة أخرى تستوعب أفراد هذه الكلمة الأولى في عَرض واحد، فهذا ليس محالاً. فَإِنَّ المحال هو أن تكون النَّكِرَة نفسها مستوعبة لأفرادها استيعاباً عرضيّاً؛ لأَنَّهُ خلف قيد الوحدة، ولكن نحن نقول: إنّ هناك كلمة أخرى وهي كلمة «كلّ» وهي اسم لها مفهوم اسمي، ومفهومها يستوعب أفرادَ المدخول (=النَّكِرَة).

 فاستيعاب كلمةٍ لأفراد كلمة أخرى استيعاباً عرضيّاً ليس محالاً، ولو كانت الكلمة الأخرى نكرة، وهذا لا استحالة فيه وممكن بل واقع في النَّكِرَة الواقعة في سياق النهي أو سياق النَّفْي (بناءًا على إفادتها العمومَ) فهي تفيد العموم العَرضيّ مع أنها نكرة. فلو قال مثلاً: «لا تكرم عالماً» فإنَّ «عالماً» نكرة ولكن وقوعها (= هذه الهيئة) في سياق النَّهْي (بناءًا على أن النكرة في سياق النَّهْي وَالنَّفْي) يفيد العموم، ولكن ليس المستوعِب النكرةُ نفسها. فهذه الصيغة تخرّب مفعول تنوين التَّنْكِير؛ فهي كأداة العموم مثل «كل»، فكما أن «كل» تدلّ على العموم فكذلك قالوا إن النَّكِرَة في سياق النَّهْي أو النَّفْي تفيد العموم. وهذا ما سنبحث عنه في بحث ألفاظ العموم إن شاء الله تعالى.

 فكأنّ الْعِرَاقِيّ افترض أن النَّكِرَة نفسها هي الَّتي تستوعب أفرادها، فقال: لا يمكن أن يكون الاستيعاب عرضيّاً، بل لا بُدَّ وأن يكون بَدَلِيّاً؛ ولكنّنا نفترض مفهوماً آخر يستوعب مفهومَ النَّكِرَة. هذا بالنسبة إلى النَّكِرَة.

 وأمّا الجانب الآخر وهو أن يكون المدخول اسم جنس، ليكون الاستيعاب عَرضِيّاً وليس بَدَلِيّاً. فهذا مِمَّا لا نقبله؛ إذ من الممكن أن يكون المدخول اسم جنس ومع ذلك يكون الاستيعاب عرضيّاً؛ وذلك:

أوَّلاً: لأَنَّ اسم الجنس لا يجب أن يكون الاستيعاب فيه عرضيّاً، بحيث لا يصحّ أن يكون بَدَلِيّاً؛ فإن اسم الجنس ليس «بشرط لا». وإن فرق اسم الجنس عن النَّكِرَة هو أن النَّكِرَة لا يمكن فيها الاستيعاب العَرضيّ لأَنَّهَا مقيَّدة بقيد الوحدة، وأمّا اسم الجنس فلأنه ليس مقيّداً بقيد الوحدة فيجوز أن يكون الاستيعاب فيه عرضيّاً، لا أن يكون الاستيعاب العَرضيّ واجباً فيه.

ثانياً: لو سَلَّمنا بأن اسم الجنس يجب أن يكون الاستيعاب فيه عَرضاً ولا يجوز أن يكون بَدَلِيّاً، لكن مع ذلك من الممكن أن نفترض أن المستوعِب مفهومٌ آخر. أي: نفترض أن الواضع وضع أداةً تفيد مفهوماً اسميّاً يستوعب أفراد مدخول هذه الأداة استيعاباً بَدَلِيّاً. مثلاً كما نقول في «أيّ عالم» إذا افترضنا أن «عالمٍ» في هذه الجملة الناقصة اسم جنسٍ والتَّنْوِين فيه تنوين تمكّن، فهنا المفهوم المستوعِب لعالمٍ هو مفهوم «أيّ» وقد وضع الواضعُ هذا اللَّفظَ للدِّلالة على أن هذه الكلمة تستوعب أفراد مدخولها استيعاباً بَدَلِيّاً، مع أن مدخولها ليس نكرةً.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ العموم (كما قلنا في تعريف العموم) ليس عبارة عن استيعاب مفهومٍ لأفراد نفسه (فقد ناقشنا هذه الفكرةَ خلافاً للخراسانيّ حيث كان يقول: العموم هو شمول المفهوم لجميع ما يصلح لأن ينطبق عليه، فقد ناقشناه بأنّ هذا الشمول إن قصدتم به بأن المفهوم مرآة لجميع ما يصلح لأَنْ ينطبق عليه فهذا غير معقول أصلاً، فإن المفهوم لا يحكي عن الأفراد بما هي أفراد، بل يحكي المفهومُ عن القاسم المشترك بين الأفراد) حتّى يَتُمّ كلام المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ رحمه الله من أن استيعاب النَّكِرَة لأفرادها بدليّ، ولكننا قلنا: إن العموم عندنا عبارة عن استيعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر، سواء كان استيعاباً بَدَلِيّاً أو عرضيّاً، وسواء كان المدخول اسم جنس أو النَّكِرَة.

 فكون «المأخوذ قد أُخِذ فيه قيد الوحدة أو لم يؤخذ فيه قيد الوحدة» لا ينافي استيعاب الأداة لتمام أفراد المدخول إما عرضيّاً أو على نحو البدل؛ لأنَّ ما يراد كونه مستوعِباً إنّما هو مفهوم الأداة، لا مفهوم المدخول، إذن فانقسام العموم إلى الْبَدَلِيّ والعرضي انقسامٌ في العموم نفسه بما هو عموم، أي: العموم عبارة عن الاستيعاب والتّطبيقات العديدة بعدد الأفراد. وهذه التطبيقات العديدة تارةً تُفترض في عَرضٍ واحد وهذا هو الاستيعاب العَرضيّ، وأخرى تفترض على سبيل البدل وهو الاستيعاب الْبَدَلِيّ.

 إذن، المائز الَّذي ذكره الْعِرَاقِيّ لتمييز الْبَدَلِيّ من العَرضيّ غير مقبول.

المقام الثَّانِي: وهو الكلام في الفارق الَّذي ذكره رحمه الله بين العموم الاستغراقيّ والعموم الْمَجْمُوعِيّ حيث رأينا أن المُحَقِّقَيْن اتفقا على أن الفرق بين العموم الاستغراقيّ والعموم الْمَجْمُوعِيّ ناشئ من خُصُوصِيَّةٍ في شيء آخرَ وهو عبارة عن كيفيَّة تعلّق الحكم بالعامّ، بمعنى أن انقسام العموم إلى هذين القسمين إنّما هو باعتبار تعلّق الحكم، وليس باعتبار نفس العموم، فالحكم إذا كان واحداً فهذا هو العامّ الْمَجْمُوعِيّ، وإذا كان الحكم متعدّداً بعدد الأفراد فهذا هو العامّ الاستغراقيّ.

فهذا الكلام أيضاً مِمَّا لا نقبله، وذلك لأَنَّنَا نتساءل ماذا تقصدون من وحدة الحكم وتعدده في قولكم: «إن الحكم إذا كان واحداً فالعامّ مجموعيّ وإذا كان متعدّداً فالعامّ استغراقيّ» هل المراد وحدةُ الجعل وتعدُّده؟ أم المراد وحدة المجعول (أي: وحدة الحكم الفعليّ)؟

 فإن كان المراد الأوّل فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الحكمَ في عالم الجعل واحد دائماً، حتّى في العامّ الاستغراقيّ، فليس الحكم في العامّ الاستغراقيّ متعدّداً (في عالم الجعل) وواحداً في العامّ الْمَجْمُوعِيّ، بل الحكم واحدٌ في كليهما في عالم الجعل؛ فَإِنَّ الخطاب واحد في كليهما والخطاب الواحد لا يكشف (دائماً) إلاَّ عن جعل واحد. ونظرُ المولى في كليهما إلى الأفراد.

 غاية الأمر في العامّ الْمَجْمُوعِيّ نظرَ المولى إلى الأفراد بنظرةٍ وحدويّة، بحيث كان كل فرد جزءًا من المركب الواحد، فلذا لا يَنْحَلُّ هذا الجعل الواحد إلى أحكامٍ عديدة بعدد الأفراد.

 أمّا في العامّ الاستغراقيّ فباعتبار أن النَّظرَ المولويّ كان نظراً تجزيئيّاً ونظرة تعدّديّة، أي: النَّظَر إلى الأفراد بما هو عديدون ومتكثرون وأفراد، لا بما هم أجزاء لمركب واحد، فلذا يَنْحَلُّ الجعل الواحد هنا عقلاً إلى أحكام عديدة بعدد الأفراد. وعلى أيِّ حالٍ فإِنَّ الجعل واحد في كليهما.

 أما إن قصدتم بهذا الكلام وحدة المجعول وتعدُّد المجعول، فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ المجعول وحدته أو تعدده تابع لوحدة موضوع الحكم وتعدّده؛ إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه لأَنَّ المجعول تابعٌ للموضوع؛ فإن الحكم يصبح فعليّاً عندما يصبح موضوع الحكم فعليّاً. إذا كان موضوع الحكم واحداً بالنّوع (وليس واحداً بالشخص، أي: كان الموضوع كلّيّاً، مثل «أكرم العالم» فإن «العالم» كليّ وواحد بالنوع، أي: يضم أفرادَه، فالجعل هنا واحد ولكن المجعول يتعدّد بعدد الأفراد، فإذا وُجد عالم واحد فيوجد وجوبٌ فعليٌّ واحد، وإذا وجد عالمان في الخارج فوجوبان فعليّان، وهكذا..) ومنحّلاً إلى أفراد عديدة، فيتعدد المجعول بعدد الأفراد (ولا يتعدّد الجعل فإِنَّه واحد دائماً).

 وإذا كان موضوع الحكم واحداً بالشخص (أي: لوحظ الأفراد كمركّبٍ واحد، ونُظر إلى الأفراد بما هي جزء من هذا المركب، فالموضوع واحد بالشخص) فالمجعول واحد أيضاً.

 فالوحدة والتعدد تابع لكيفية موضوع الحكم، فإن كان موضوع الحكم عبارة عن مجموع الأفراد كمركب واحد فيكون المجعول واحداً، وإذا كان موضوع الحكم الأفرادُ كأفرادٍ (لا كأجزاء لمركبٍ واحد) فيتعدد المجعول بتعدُّد الأفراد. إذن لا بُدَّ من فرض فَرقٍ بين موضوع الحكم في العامّ الْمَجْمُوعِيّ وموضوع الحكم في العامّ الاستغراقيّ في المرحلة السَّابِقَة على تعلّق الحكم. أي: يجب أن يكون هناك فارق ومائز بين هذا الموضوع وذاك الموضوع. فالموضوع الَّذي يتعلّق به الحكم في العامّ الْمَجْمُوعِيّ يختلف عن الموضوع الَّذي يتعلّق به الحكم في العامّ الاستغراقيّ