الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/04/29

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

البحث 24: دلالة العامّ

 البحث الرَّابع والعشرون من بحوث دلالات الدليل الشرعي اللفظي هو بحث دلالة العام، وهذا هو البحث المعنون في كلمات الأصحاب ببحث «العام والخاص»، وإنَّما عدلنا عن ذاك العنوان إلى هذا العنوان باعتبار أننا سوف لن نبحث هنا عن الخاص والتخصيص، بخلافهم حيث بحثوا هنا عن شيئين (العموم والتخصيص)، أمّا المباحث الراجعة إلى الخاص والتخصيص فهي في رأينا ليست مرتبطة ببحثنا الفعلي من الناحية الفنية والمنطقية، فإن بحثنا عن ظهورات الدليل الشرعي اللفظي ودلالاته، أمّا البحث عن حجية دلالات الدليل الشرعي (حجية الظهور) فهو بحث سوف نصل إليه بعد إكمال البحث عن أصل الدلالات ثم إكمال البحث عن إثبات الصدور من الشارع، ثم بعد ذلك ندخل في بحث حجية الدلالات والظهور. فموقع بحثنا عبارة عن البحث عن أصل الدِّلالة، بأَنَّهُ هل للأمر والشَّرْط والوصف والعامّ وغيرها ظهور في الوجوب أو لا؟ فهذه بحوث ترتبط ببحثنا، أمّا المباحث الأخرى الَّتي ذكروها فالأكثرية الساحقة منها مرتبطةٌ ببحث حجية الظهور، مثل البحث عن أن العامّ هل هو حجّة بعد التخصيص أو لا؟ أو هل أن العامّ حجة إذا كان المخصِّص مجملاً أو لا؟ وهكذا سائر العناوين. وبعضها مرتبطة ببحث تعارض الدليلين، مثل البحث عن وجه تقديم الخاصّ على العامّ.

 فالقسم الأكثر من بحوث العامّ والخاص مرتبط ببحث الحجية وقسم منها مرتبط ببحث التعارض، وكلاهما خارج عمَّا نحن فيه،ولذا غيّرت عنوان البحث.

 على أي حال إن لهذا البحث جهات ثلاث لا بُدَّ من دراستها تباعاً:

الجهة الأولى: في تعريف العامّ والعموم.

الجهة الثَّانية: في أقسام العامّ.

الجهة الثَّالثة: في ألفاظ العموم وأدواته.

أما الجهة الأولى: في تعريف العموم، فتوجد تعاريفُ كثيرةٌ في هذا المجال مذكورةٌ في الكتب الأصولية المشروحة والمطوّلة، فلا نطيل الكلام بذكر كلِّها ومناقشتها، وإنَّما نقتصر على ذكر التَّعريف الَّذي ذكره المُحَقِّق الخراساني في الكفاية، فإِنَّه حينما أصبح بصدد بيان أقسام العموم وأن هذا التَّقسيم ليس بلحاظ نفس العموم حيث ليس للعموم أقسام، بل له قسم واحد دائماً، بل هذا التقسيم بلحاظ كيفية تعلّق الحكم بالعامّ، فعَرَّف العامّ بهذا التعريف: «شمول المفهوم لجميع ما يصلح لأَنْ ينطبق عليه».

 ولنا ملاحظتان على هذا التعريف:

الملاحظة الأولى: أن هذا التعريف ليس مانعاً عن دخول الأغيار؛ وذلك لأَنَّ من جملة الأغيار المطلق الشمولي فهو ليس عامّاً، مع ذلك هذا التعريف يشمله. مثل «أكرم العالم» فإن مفهوم «العالم» هنا مفهومٌ يشمل لجميع الأفراد الَّتي يصلح هذا المفهوم لأَنْ ينطبق عليها. فـ«العالم» هنا مطلق وليس عامّاً؛ لأَنَّ «العالم» مفرد معرَّف باللاَّم والمشهور أَنَّهُ مطلق وليس من أدوات العموم في المصطلح الأصولي، بينما تعريف الآخوند يشمله.

 فليس مجرّد شمول المفهوم واستيعابه لجميع ما يصلح لأَنْ ينطبق عليه يعتبر عموماً في المصطلح الأصولي، بل لا بُدَّ من أن نقيِّد هذا الشمول والاستيعاب بقيد ونقول: الشمول الَّذي يفيده اللفظُ والكلامُ؛ وذلك لأَنَّ الشمول والاستيعاب تارةً يكون مدلولاً للفظ والكلام، كما في قولنا: «أكرم كل عالم» على أن يكون «كل» موضوعاً في اللغة للاستيعاب والشمول كما هو الصحيح على ما يأتي في أدوات العموم)، وقد لا يكون الشمول والاستيعاب مدلولاً للكلام وللَّفظ، كما في «أكرم العالم»، فإن «العالم» لا يدلّ بالدلالة اللغوية الوضعيَّة على الشمول والاستيعاب، وإنَّما يدلّ على طبيعة العالم؛ لأَنَّهُ اسم الجنس واسم الجنس وضع في اللغة للدِّلالة على الطَّبيعة.

 غاية الأمر نلاحظ وجود الشمول والاستيعاب لهذا الحكم في مرحلة التطبيق والفعليّة خارجاً، أي: نلاحظ أن الحكم ينطبق في كل مورد يوجد فيه خارجاً «عالِم». فالشمولية هنا من شؤون عالم المجعول وعالم التطبيق وعالم الفعليّة، لا من شؤون عالم الجعل. فقوله: «أكرم العالم» لا يدلّ إلا على جعلٍ واحد بوجوب واحد على موضوعٍ عبارة عن «إكرام طبيعي العالم»، وليس الكلام دالاًّ على جعول عديدة. لكن العقل يحكم بأَنَّهُ كلما تحقّق هذا الموضوع (أي: طبيعي العالم) خارجاً يصبح الحكم فعليّاً؛ لأَنَّ قوله «أكرم العالم» يرجع بالحقيقة إلى قضية شرطية، أي: «إن وجد عالم فأكرمه». أي: إن وجد عالم أوّل فأكرمه، وإن وجد عالم ثانٍ فأكرمه وهكذا.. إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه فلكما تعددت فِعْلِيَّات الموضوع تعدّدت فعليات الحكم، وليس الجعل فإِنَّه يتعدّد الجعل نفسه. إذن فلا توجد شمولية واستيعاب في هذا الكلام، لأَنَّ النظر (من الناحية اللغوية والوضعية) ليس فيه إلى الأفراد بل النظر فيه إلى الطَّبيعة. نعم هذا الحكم تتعدّد فِعْلِيَّاتُه بعدد أفراد العالم، وهذا تعدّد في عالم الفعليّة، ونحن لا دخل لنا بعالم الفعليّة؛ فإن كلام المولى ناظر إلى عالم الجعل دون الفعليّة.

 إذن، الشمولية الَّتي تستفاد من قوله: «أكرم العالم» إنّما تستفاد من مرحلة الفعليّة وليست مستفادة من الكلام واللفظ، وهذا بخلاف العامّ، فإن الشمولية في العامّ تستفاد من اللفظ في مثل: «أكرم كل عالم» فإن كلمة «كل» تدلّ على الشمول واستيعاب الألفاظ.

 فتعريف المُحَقِّق الخراساني ليس تعريفاً مانعاً عن دخول المطلق الشمولي.

الملاحظة الثَّانية: هي أن هذا التعريف في أحسن الفروض والتَّقادير ليس جامعا لكل استيعابٍ مدلولٍ للفظ والكلام.

توضيح ذلك: الاستيعاب الَّذي يدلّ عليه اللَّفظ بالدِّلالة اللَّفظيَّة على قسمين:

القسم الأوّل: الاستيعاب الَّذي يستفاد من اللفظ بنحو المعنى الاسمي، من قبيل الاستيعاب الَّذي يدلّ عليه ألفاظ «كل» و«جميع» و«عموم» و«كافة» و«قاطبة» وأمثالها من الألفاظ الَّتي هي موضوعة في اللُّغَة للدِّلالة على نفس المعنى الاسمي الَّذي يدلّ عليه لفظ «الاستيعاب» ولفظ «الشمول». فيُتعامل مع هذه الألفاظ معاملة الاسم، فتجري عليها أحكام الاسم من إمكان وقوعها مبتدأً، خلافاً للحرف والفعل حيث لا يقعان مبتدأ.

 فالاستيعاب الَّذي يدلّ عليها قولنا: «أكرم كل عالم» أو قولنا: «احترم جميع من في البيت» و«زرت عموم من رجع من الحج» هو استيعاب مدلول عليه باللَّفظ بالدِّلالة الوضعيَّة بنحو المعنى الاسمي. هذا شكل من الاستيعاب الَّذي يدلّ عليه اللفظ.

القسم الثَّاني: هو الاستيعاب الَّذي يدلّ عليه اللَّفظ بنحو المعنى الحرفي، من قبيل الاستيعاب الَّذي تدلّ عليه هيئة من الهيئات أو حرف من الحروف. مثلاً الاستيعاب الَّذي يدلّ عليه الجمعُ المعرَّف باللام كالعلماء، على أن تكون هذه الهيئة (الجمع المعرف باللام) موضوعة لغةً للاستيعاب، فهي تدلّ على العموم والشمول بنحو المعنى الحرفي، أي: تدلّ على النِّسبة الاستيعابية الَّتي هي معنى حرفي غير مستقلّ.

 وحينئِذٍ في مقام تطبيق التعريف الَّذي ذكره صاحب الكفاية قد يقال بأننا (في النحو الأوّل أي: الاستيعاب المستفاد بنحو المعنى الاسمي) نستفيد استيعابَ مفهوم العالم لجميع ما يصلح للانطباق عليه من دلالة «كل» في «أكرم كل عالم»، فالتعريف ينطبق على القسم الأوّل.

 وأيضاً نأتي إلى القسم الثَّاني ونحاول أن نطبق تعريف صاحب الكفاية عليه، فنقول في هيئة الجمع الْمُحَلَّى باللام الَّتي تدلّ على العموم بنحو المعنى الحرفي إننا نستفيد استيعاب كلمة «العلماء» (أي:) لجميع ما يصلح للانطباق عليه من خلال دلالة اللام أو هيئة الجمع المحلى باللام.

 فتعريف صاحب الكفاية قابل للانطباق على كلا النحوين (سواء المستفاد بنحو المعنى الاسمي أو المستفاد بنحو المعنى الحرفي).

لكن هذا الكلام غير تامّ فلا يمكن أن نقول: إن التعريف الَّذي أفاده صاحب الكفاية ينطبق على كلا القسمين؛ وذلك لأَنَّ هذا التعريف يحتمل فيه أحد وجهين:

الوجه الأوّل: أن يكون مقصود الآخوند من قوله: «شمول المفهوم لجميع ما يصلح لأَنْ ينطبق عليه» هو أن يُلحظ المفهومُ الواحد مرآةً لجميع ما يصلح للانطباق عليه. مثلاً مفهوم «العالم» في قولنا: «أكرم العالم» يُلحظ مرآة لجميع المصاديق، أو مفهوم «العلماء» في قولنا: «أكرم العلماء» يُلحظ مرآةً لجميع الأفراد والمصاديق الَّتي يصلح هذا المفهوم للانطباق عليها.

 لكن هذا الوجه مستحيل أساساً وغير معقول؛ وذلك لنكتةٍ تقدّمت بصورة مشروحة في بحث الوضع (في بحث الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ) حيث قلنا: إن كل مفهوم منتزَعٍ من طبيعةٍ من الطبائع لا يعقل أن يكون هذا المفهوم مرآةً للحيثيات الفردية الخاصّة بالأفراد، وإنَّما يكون مرآة للحيثيات المشتركة بين الأفراد (ما به الاشتراك)، والتي هي عبارة عن ذات الطَّبيعة (فذات الطَّبيعة هي الحيثية المشتركة بين الأفراد). أما نفس الأفراد بما هي أفراد وبخصوصياتها الفردية المميزة لها بعضها عن بعض، فلا يعقل أن يكون العنوان والمفهوم فانياً فيها ومنطبقاً عليها، وحاكياً عنها. إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه فمثلاً مفهوم «العالم» لا يُرى به إلا ذاتُ العالم وذات الطَّبيعة المشتركة، كما هو شأن أيِّ جامع كلي آخر. كل عنوان يستحيل أن ينطبق على هذا الفرد بما هو فرد؛ لأَنَّ هذا المفهوم في الواقع جزءٌ تحليلي لهذا الفرد، فإن الفرد يتركب من هذا القاسم المشترك ومن المشخصات الفردية، فهذا المفهوم لا يمكنه أن يحكي عن الفرد بمشخصاته الفردية، وإنَّما هذا المفهوم يحكي عن جانبٍ من هذا الفرد وجزء تحليلي منه وهو ما به الاشتراك (وطبيعيه).

 وعلى هذا الأساس واجَهَ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ مشكلةً ثبوتيّةً كانت تقول بأن تصوّر واستحضار مفهوم عامّ مِن قِبَلِ الواضع لا يكفي ولا يبرّر له أن يضع اللَّفظَ لأفراد هذا المفهوم العامّ الَّذي استحضره في ذهنه؛ لأَنَّه حينما استحضر هذا المفهوم العامّ في ذهنه لم يستحضر الأفراد بما هي أفراد؛ لأَنَّ هذا المفهوم لا تُري الأفراد بما هي أفراد؛ لأَنَّ المفهومَ كليٌّ وجامعٌ، ومعنى كونه جامعاً وكلّيّاً هو إلغاء الخصوصيّات الفردية وإلا فلا يكون جامعاً. فهو رأى جزءاً تحليلياً من الأفراد.

 ومن هنا افتقرنا واحتجنا لمعالجة هذه المشكلة الثُّبوتيّة إلى جامعٍ ومفهوم عَرَضِي يُرِي الأفراد بما هي أفراد، على ما هي عليه من الخصوصيّات، من قبيل جامع «الفرد» و«الخاصّ» و«المصداق». فهذه الجوامع الانتزاعية هي الَّتي تُري الأفرادَ بما هي أفراد وبخصوصياتها الفردية.

 إذن هذا الوجه الأوّل وهو أن يكون مقصود الآخوند أن المفهوم يحكي ويُري أفرادَه غير معقول ومستحيل، فهذا الاحتمال غير وارد. فيبقى الاحتمال والوجه الثَّاني. وهذا ما سوف نتحدث عنه غداً إن شاء الله تعالى.