الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/04/10

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الحصر/المفاهيم/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 بقيت نقطة تتعلّق بمفهوم الاستثناء وهي أنَّه بناء على ما قلناه من ثبوت المفهوم للاستثناء حينئذٍ إذا ورد دليلان أحدهما يقول مثلاً: «أكرم العلماء إلا الفساق»، والآخر يقول: «إذا زارك العالم الفاسق فأكرمه»، فهنا سوف يقع التعارض بين مفهوم الاستثناء في الدليل الأوّل وبين منطوق الدليل الثَّاني، وذلك في مورد العالم الفاسق؛ فإن مفهوم الدليل الأوّل يدلّ على عدم وجوب إكرام العالم الفاسق، بينما منطوق الدليل الثَّاني يدلّ على وجوب إكرام العالم الفاسق إذا زارك. فلابد حينئذٍ من إعمال قواعد باب التعارض.

 أما إذا ورد دليلان أحدهما يقول: «أكرم العلماء إلا الفساق» والآخر يقول: «أكرم الفقير الفاسق»، وفرضنا أن هناك عالماً فقيراً فاسقاً، فلا يقع التعارض في مثله بين الدليلين، والوجه فيه واضح، لأن الدليل الأوّل وإن كان يدلّ بمفهومه على انتفاء طبيعي وجوب الإكرام، لكن طبيعي وجوب الإكرام الَّذي نفيناه عن الفساق بالدليل الأوّل (بمقتضى المفهوم) إنّما هو طبيعي وجوب الإكرام الثابت لعنوان العالم، هذا ما نفيناه عن العالم الفاسق.

 أما وجوب الإكرام الَّذي ليس لعنوان العلم ولا عنوان العالم دخلٌ فيه، وإنَّما هو وجوب إكرام ثابت لعنوان آخر غير عنوان العالم، وهو عنوان الفقير، هذا لم ينف بالمفهوم؛ فإن الدليل الثَّاني يثبت وجوب الإكرام لعنوان آخر وهو عنوان الفقير (= أكرم الفقير الفاسق)، واتفق أن هناك عالماً فقيراً فاسقاً. فلا ينفي المفهوم الأوّل وجوب إكرام هذا الشخص بل ينفي وجوب الإكرام الثابت لعنوان العالم، ولا ينفي وجوب الإكرام الثابت لعنوان الفقير. فلا يقع تعارض بين الدليلين في مورد العالم الفقير الفاسق، وإنَّما يؤخذ بالدليلين معاً: يجب إكرام العالم العادل ولا يجب إكرام العالم الفاسق بعنوان أنَّه عالم، ولكن يجب إكرام الفقير بعنوان أنَّه فقير.

وبعبارة أخرى: المفهوم المدعى في الاستثناء إنّما هو انتفاء طبيعي الحكم الثابت لعنوان المستثنى منه (وهو عنوان العالم في مثالنا) عن المستثنى، فلا يُنافي ثبوتَ حكم آخر للمسثتنى لعنوان آخر كالفقير في مثالنا.

 وهذا بخلاف الفرض الأوّل، حيث كنا نفترض وجود دليلين أحدهما يقول: «أكرم العلماء إلا الفساق»، فمفهوم الاستثناء يدلّ على عدم وجوب إكرام العالم الفاسق، والدليل الثَّاني كان يقول: «إذا جاءك العالم الفاسق فأكرمه»، فعنوان العالم موجود في كلا الدليلين، ولذلك قلنا إنّه يقع التعارض بين الدليلين: بين مفهوم الأوّل ومنطوق الثَّاني؛ لأنهما واردان على عنوان واحد وهو عنوان العالم.

 هذه هي النقطة الَّتي كانت قد بقيت فيما يتعلّق بمفهوم الاستثناء. وبهذا تَمَّ الكلام عن هذا المفهوم.

 وبعد ذلك ننتقل إلى مفهوم الحصر وهو آخر المفاهيم وهو البحث الثالث والعشرون من بحوث دلالات الدليل اللفظي الشرعي.

البحث الثالث والعشرون

بحث دلالة الحصر على المفهوم

 إذا كان الكلام دالاًّ على حصر الحكم بموضوع معيَّن، إما من خلال أداةٍ من أدوات الحصر من قبيل «إنّما»، أو من خلال صيغة من صيغ الحصر، كما سوف يأتي إن شاء الله تعالى. مثلاً إن قال: «إنّما تجب الصَّلاة» يكون قد حصر الوجوبَ بالصلاة. أو إذا قال: «إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل»[1] فيكون قد حصر مصرف الصدقة في هذه الأصناف الثمانية. أو إذا قال: «يا أيها الَّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون»[2] .

 وقد يكون الحصر من خلال صيغة من صيغ الحصر مثل تقديم ما حقه التأخير، كقوله تعالى: «إياك نعبد وإياك نستعين»[3] ، فإن «إياك» مفعول يجب أن يكون مؤخراً ولكنه قُدِّم على الفعل والفاعل.

 وعلى أي حال فهل حصر حكمٍ بموضوع يدلّ على المفهوم؟ أي: يدلّ على انتفاء ذاك الحكم عن غير ذاك الموضوع، مثلاً: «إنّما تجب الصَّلاة» هل تدلّ على أن الوجوب ليس في غير الصَّلاة حيث حصر الوجوب بالصلاة؟

الجواب: نعم، يدلّ الحصر على المفهوم، بل مفهوم الحصر من أقوى المفاهيم، حتى أقوى من مفهوم الشَّرْط، كما ستتضح نكتة الأقوائية.

 والوجه في ذلك هو أن شرطي المفهوم متوفران:

الركن الأوّل: وهو أن يكون الكلام دالاً على العليّة (= الموضوعية) الانحصارية، وهذا الركن متوفر، فإن مدلول أداة الحصر من قبيل «إنّما» أو صيغة الحصر هو أنَّه الموضوع الوحيد للوجوب هو الصَّلاة وذلك حينما يحصر الوجوب بالصلاة في «إنّما تجب الصَّلاة»، فمعنى ذلك عدم وجود وجوب آخر لغير الصَّلاة. وكذلك مثال الزكاة وصرفها في مواردها الثمانية. فلو كان هناك موضوع آخر لصرف الزكاة لما حصر ولما قال: «إنّما الصدقات للفقراء».

 إذن فالركن الأوّل ثابت بلا إشكال وهذا هو معنى الحصر أساساً. فالحصر بدلالته التصورية ومن دون حاجة إلى الدِّلالة التَّصديقيَّة يدلّ على العليّة الانحصارية.

الركن الثَّاني: وهو أن يكون الكلام دالاًّ على أن المعلول هو طبيعي الحكم لا شخص حكم هذا الموضوع، وهذا الشَّرْط أيضاً ثابت لأنه مِمَّا تدلّ عليه جملة الحصر بالظهور التَّصوُّريّ من دون حاجة إلى مقدمات الحكمة، وهذا بخلاف الموارد السابقة حيث كنا نثبت الركن الثَّاني بالإطلاق؛ وذلك بظهورين موجودين في جملة الحصر:

الظهور الأول: ظهور الكلام في التأسيس؛ فإن التأكيد خلاف الظاهر. إذن عندما حصر المتكلِّم الوجوب بالصلاة وقال: «إنّما تجب الصَّلاة» هل حصر شخص هذا الوجوب بالصلاة أو مطلق الوجوب؟ فلو كان مقصوده حصر شخص هذا الوجوب بالصلاة لم يكن يحتاج إلى «إنّما» فإن من الواضح أن شخص كل حكم محصور بموضوعه (فإنه لا يتصوّر حكم من دون موضوع، فهذا على) وَفق القاعدة ولا يحتاج إلى ذكر الحصر.

 فحمل الأداة على التأسيس الَّذي هو الظاهر الأوّلي يقتضي أن نقول: إن أداة الحصر تدلّ على حصر مطلق الوجوب بالصلاة.

الظهور الثَّاني: ظهور الكلام في عدم اللغوية، فهنا لو كان هنا يريد أن يحصر شخص هذا الوجوب بالصلاة، لا مطلق الوجوب، فهذا معناه أنَّه يوجد هناك فرد آخر من الوجوب لغير الصَّلاة (فهذا لغو وليس حصراً أساساً). فهناك وجوب لغير الصَّلاة. فإذا كان هكذا فحصر الوجوب بالصلاة لغو. لأنه سواء حصر الوجوب بالصلاة أم لم يحصره فيها هناك وجوب آخر للصَّلاَة. فبهذين الظهورين نثبت أن الركن الثَّاني للمفهوم ثابت أيضاً.

 ومن هنا اتضح وجه أقوائية مفهوم الحصر من باقي المفاهيم. وذلك باعتبار أن ركني المفهوم ثابتان في جملة الحصر بالظهور التَّصوُّريّ.

 إذن ثبوت المفهوم للحصر مِمَّا لا إشكال فيه، إنّما الكلام في أدوات الحصر، ومن جملة أدوات الحصر: «إنّما» ولا مرادف لها في اللغة الفارسية، وإن الموجود في الفارسية هو جملة «اين است و جز اين نيست» وهذا سبب عمق اللغة العربية وقدرتها واستيعابها للمعاني بأساليب مختلفة[4] . والظاهر أنَّه لا يوجد خلاف عند أهل اللسان وعلماء اللغة في دلالة «إنّما» على الحصر، حيث يذعن جميعهم على أن «إنّما» للحصر، والدليل على حصرها هو التبادر العرفي لدى أهل اللغة، مضافاً دليل ثان هو تصريح أهل اللغة العربية، إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه حتى علماء المعاني والبيان والبديع (البلاغة) أذعنوا بأن «إنّما» تفيد الحصر، إلا أنهم عبروا عن الحصر بالقصر[5] .

 والمخالف لذلك هو «فخر الرازي» في التفسير الكبير، وأنا أستحي أن أطلق لفظ الإمام على مثل هؤلآء. حيث يقول في تفسير آية: «إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الَّذين يقيمون الصَّلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون»[6] بعد اعترافه بأن الآية نزل في شأن الإمام علي عليه السلام يُشَكِّكُ في دلالة الآية على الحصر، ويستشهد بآيتين من القرآن الكريم:

الآية الأولى: «إنّما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السَّماء»[7] ، فإنه لو كانت «إنّما» للحصر لكانت الآية تدلّ على أن مَثَلَ الحياة الدنيا منحصرة في ماء المطر، بينما هذا واضح الفساد والبطلان، فكما يمكن تمثيل الدنيا بالمطر يمكن تمثيلها بكثير من الأشياء غير القارّة مثل نوم الإنسان.

والآية الثَّانية: «إنّما الحياة الدنيا لهو ولعب»[8] ، فإن كانت إنّما تدلّ على الحصر كانت حياة الدنيا منحصرة في اللهو واللعب، بينما هذا واضح البطلان فإن بالإمكان صرف الحياة الدنيا في الجهاد والعبادة. فهذا شاهد آخر على أن «إنّما» لا تفيد الحصر.

أقول: ماذا يقول جنابه في قوله تعالى: «وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور»[9] ، حيث توجد فيها «ما» النافية ومن ثم «إلا»، حيث يؤمن حتى الفخر الرازي بأَنَّهُ يدلّ على الحصر. وقد تقدّم منا أن الاستثناء من النفي إثبات بلا إشكال. فكل ما تقوله هناك في حصر الحياة الدنيا بمتاع بالغرور قُلْهُ هنا في هذه الآية.

 أما الآيتان فلا تدلان على مقصودك:

أمّا الآية الأولى ففيها كاف التشبيه، فلو لم تكن الكاف موجودة ولم يكن «الماء» مدخولاً للكاف بل كان: «إنّما مثل الحياة الدنيا ماء أنزلناه من السماء»، إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه وكان يحصر تمثيل الحياة الدنيا بالمطر لكان إشكال الرازي وارداً، لكن الآية لم تحصر تمثيلَ الحياة الدنيا بالماء، وإنَّما حصرت مثل الحياة الدنيا بما يُشبه الماء، وما يشبه الماء هو كل الأمور غير القارة من ماء المطر والماء الجاري وغير الماء من الأشياء غير القارة.

وأمّا الآية الثَّانية فليس استشهاده بها تاماً؛ وذلك لأنَّ «الحياة الدنيا» صفة وموصوف، وليس مضافاً ومضاف إليه، فإن كانت «حياة الدنيا» مضافاً ومضاف إليه كان كلام الرازي صحيحاً، فمن الطبيعي أن الحياة النازلة منحصرة باللهو واللعب لأنها هي الحياة الحيوانية.

 إذن الحصر ثابت في هاتين الآيتين ولا محذور فيه، وعليه فإن «إنّما» للحصر وآية الولاية لا شك أنَّها تدل على حصر الولاية بالله وبرسوله وبمن نزلت الآية في شأنه حتى باعتراف الفخر الرازي.

 فلا شك أن «إنّما» من أدوات الحصر.

 ومن جملة صيغة الحصر وأساليبه جعل العام أو المطلق موضوعاً ومعرفةً وجعل الخاص محمولاً. فلو قال: «العلماء هم الفقهاء» فيكون «العلماءُ» عاماً و«الفقهاءُ» خاصاً، أو مثل: ابنك هو محمد. فهذه الصيغة أيضاً تدلّ على الحصر، أي: حصر الموضوع بالمحمول.

 وأيضاً من جملة صيغ الحصر تقديمُ ما حقه التأخير كما قلنا في: «إياك نعبد وإياك نستعين».

 هذا تمام الكلام في مفهوم الحصر وبهذا تَمَّ الكلام عن المفاهيم. وبعد ذلك بعد العطلة نبدأ ببحث دلالة العام.

[1] - سورة التوبة (9): الآية 60.

[2] - سورة المائدة (5): الآية 90.

[3] - سورة الفاتحة (1): الآية 4.

[4] - أقول: من البديهيات في علم «فقه اللغة» أن دلالة الكلمة الواحدة على مفهوم واسع (كما إذا أفادت كلمة في اللغة العربية معنى جملة في اللغة الفارسية أو بالعكس كما هو الملاحَظ في اللغتين، بل في كثيرٍ من اللغات إن لم نقل كل اللغات) لا تدلّ على عمق لغة أو فصاحتها وبلاغتها، ومن جملة هذه الأفكار الخاطئة ما اشتهر بين مَن درس النحو ولم يدرس فقه اللغة أن «فضل اللغة العربية على باقي اللغات هو كثرة الموادّ الاشتقاقية للغة العربية والتي تفوق مائة ألف مادّة، حيث تصل تلك الموادّ بمشتقاتها إلى ما يقارب عشرة ملايين كلمة»؛ فإن هذه فكرة غير سديدة وقد تَمَّت مناقشتها في مكانها وأقل ما يمكن أن يذكر في المقام الآن هو أن العرب قد تركت جل هذه الموادّ اللغوية أولاً وثانياً أن لمعرفة اللغات معايير صوتية وبلاغية فنية أخرى لا يسعنا التطرق لها الآن، وقد وصلنا في تلك الأبحاث إلى نتيجة علمية قويمة وهي أنَّه: «عبقرية اللغات أسطورة، ولا سبيل لتفضيل لغة على لغةٍ» فراجع معلوماتك النحوية وفقه اللغة وتدبر جيداً (الشيخ محسن الطهراني عفي عنه).

[5] - أقول: من أدوات الحصر «قط» و«فقط» و«حسب» و«فحسب» وما شابه ذلك (الشيخ محسن الطهراني عفي عنه).

[6] - سورة المائدة (5): الآية 55.

[7] - سورة يونس (10): الآية 24.

[8] - سورة محمد (47): الآية 36.

[9] - سورة آل عمران (3): الآية 185 وسورة الحديد (57): الآية 20.