الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/04/02

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الغاية/المفاهيم/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 انتهى الحديث عن مفهوم اللّقب والعدد، وبقيت نقطة تتعلّق بالعدد وهي عبارة عن أنَّه إذا استظهرنا من الدليل أن العدد المذكور في الخطاب إنّما ذكره المولى من أجل التحديد وبيان الحدّ، حينئِذٍ سيكون هذا قرينة على المفهوم، ولكن لا علاقة له بمفهوم العدد بما هو عدد، وإنَّما استُفيد من القرينة الدَّالَّة على التحديد.

 ويتصور التحديد على ثلاثة أقسام:

أن يكون التحديد تحديداً من طرف الزيادة والنقيصة معاً. أن يكون التحديد تحديداً من طرف النقيصة. أن يكون التحديد تحديداً من طرف الزيادة.

أما القسم الأوّل بأن يكون التحديد من كلا الطرفين، أي: أن يكون المولى في مقام بيان الحدّ الأدنى والحد الأقصى معاً، مثل أن نستظهر من الدليل الدال على استحباب تسبيح الزهراء سلام الله عليها بأن المولى كان في مقام تحديد كلا الطرفين عندما ذكر التكبير لأربع وثلاثين مرّةً والتحميد لثلاث وثلاثين مرّةً والتسبيح ثلاث وثلاثين مرّةً. فهذا يكون قرينة على أن الحكم ينتفي بانتفاء هذا العدد. أي: إذا لم يكن التكبير 34 مرّةً فينتفي الاستحباب. ومثله عدد تسبيحات صلاة الجعفر الطيار سلام الله عليه.

أما القسم الثَّاني بأن يكون التحديد من طرف النقيصة، من قبيل عدد العشرة في إقامة المسافر، فإنه إذا نوى عشرة أيام، فهو تحديد ولكنه تحديد من طرف النقيصة، أي: بيان للحد الأدنى من الإقامة، وليس بياناً للأحد الأعلى فإن الحدّ الأعلى لا بشرط، أي: لا يكون أقل من عشرة أيام. أو مثل عدد الثلاثة في الحيض تحديد من جانب النَّقيصة. أو عدد الوزن في الكُرّ أو عدد المساحة؛ فإن للكر تحديدان، تحديد وزني وتحديد مساحتي.

أما القسم الثالث: بأن يكون التحديد من طرف الزيادة، من قبيل عدد العشرة في الحيض بأن أكثر الحيض عشرة. أو عدد أيام شهر رمضان لا يكون أكثر من ثلاثين يوماً.

 فهذه التحديدات تكون قرينة على انتفاء الحكم إذا زاد على هذا العدد أو نقص منه. على كل حال كانت هذه نقطةً متعلقة بالعدد.

 وبهذا انتهى الكلام عن مفهوم اللّقب والعدد. وبعد ذلك ندخل في البحث الحادي والعشرين من دلالات الدليل الشرعي اللفظي وهو مفهوم الغاية.

البحث الحادي والعشرون

مفهوم الغاية

 إذا كان في الكلام ما يدلّ على الغاية من قبيل «حتى» و«إلى» كقوله تعالى: «فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين» أو قوله تعالى «وأتموا الصيام إلى الليل» أو إذا قال: « صم حتى تصبح شيخاً»، أو قوله تعالى: «كلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر»، أو إذا قال: «صم من أول الشهر إلى اليوم العاشر». فهذه كلها كلمات وجمل مشتملة على غاية. وحينئِذٍ يوجد بشأن هذه الجمل بحثان:

البحث الأوّل: حول مفهوم هذه الجملة، حيث يُبحث هل تدلّ هذه الجملة المفهوم، أي: هل تدلّ على انتفاء سنخ الحكم عندما تتحقّق الغاية؟ البحث الثَّاني: حول منطوق هذه الجملة، حيث يُبحث هل أن منطوق هذه الجملة واسع أم ضيّق؟ وهذا هو البحث المعروف الدائرُ حول أن الغاية هل هي داخلة في المغيَّا من حيث الحكم أم هي خارجة عن المغيَّا؟ فهل يجب الصوم في اليوم العاشر إن قال المولى: «صم من أول الشهر إلى اليوم العاشر» أم لا يجب.

 والبحث الأوّل حول المفهوم يتحدّد في طول البحث الثَّاني حول المنطوق. أي: إن دلَّ المنطوق على أن الغايةَ داخلةٌ في المغيَّا (أي: إذا كان المفهوم واسعاً)، فيكون المفهوم (على أن يكون للغاية مفهومٌ) عبارة عن انتفاء سنخ الحكم عمّا بعد اليوم العاشر، وهو اليوم الحادي عشر. إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه وإذا كان المنطوق ضيّقاً (أي: الغاية غير داخلة في المغيَّا، أي: عدم دخول العاشر) فالمفهوم يتّسع ويكون عبارة عن انتفاء سنخ الحكم عن الغاية وما بعدها.

أما البحث الأوّل: وهو البحث عن المفهوم، فنقول: إن الغاية على أربعة أقسام كالتالي:

القسم الأوّل: أن تكون الغاية غايةً لموضوع الحكم (بمعناه المرزائي والضيق والذي هو عبارة عن متعلق متعلّق الحكم) كما في الآية الشريفة «فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين» فإن «إلى الكعبين» غاية للأرجل، فإن الأرجلَ موضوع (= متعلق المتعلّق)؛ فإن الأرجل متعلق الغَسل والغَسل متعلق الوجوب (وجوب غَسل الأرجل).

 والسبب في أننا لم نذكر القسمَ الأوّل من الآية أي: «وأيديكم إلى المرافق» هو أَنَّه «إلى المرافق» غايةٌ للمتعلق (للغسل) وليس غاية للموضوع (للأيدي)، كما يحتمل أنَّه ما تقوله رواياتُنا، أي: لا يجب غَسل ما فوق المرافق، أي: الآية تُبيّن حدَّ الغسل ولا تبين حدّ اليد حتى تدلّ على ما يصنعه العامة من غسل اليد من الأصابع نحو المرافق، فهي لا تريد بيان حدّ المغسول. وهذا بخلاف «الأرجل» فإنها واضحة في أنها غايةٌ للموضوع ومتعلق المتعلّق.

القسم الثَّاني: أن تكون الغاية غايةً لمتعلق الحكم، كما ذكرناه في هذه الآية بالنسبة إلى المرافق أو كما في الآية الأخرى: «أتموا الصيام إلى الليل» فإن «إلى الليل» غاية للصيام، أي: الإمساك إلى الليل، والصيام متعلق الحكم والوجوب.

القسم الثَّالث: أن تكون الغاية غايةً لا للموضوع ولا للمتعلق بل تكون غايةً لنفس الحكم الشرعي، فإن «إلى الليل» غايةٌ للوجوب الذي هو قوله «واجبٌ». ولكن نفترض في هذا القسم أن يكون الحكم قد بُيِّن من خلال معنىً اسميٍّ مثل كلمة «واجب».

القسم الرابع: كالقسم الثالث ولكن الحكم مبيَّن فيه بالمعنى الحرفي. أي: من خلال صيغة الأمر مثل «صم حتى تصبح شيخاً»؛ فإن الشيخوخة غايةٌ للحكم ولوجوب الصيام (أي: وجوب الصيام على الإنسان غايته إلى أن يصبح شيخاً) وليست غايةً للصيام (حتى يجب عليه الصيامُ متصلاً ولسنين متلاحقة إلى أن يصبح الإنسان شيخاً).

 فهذه أقسام أربعة وسوف يتضح السَّببُ في تقسيم الغاية إلى هذه الأقسام الأربعة.

يبدو من المحقِّق العراقي ره أن الغاية إذا كان غاية للحكم (أي: القسم الثالث والرابع) وكان هذا الحكم مطلقاً عرفاً، فحينئذٍ تدلّ الغاية على المفهوم؛ لأنَّ الكلام حينئذٍ يدلّ عرفاً على أن مطلق الحكم مُغَيّاً بهذه الغاية، فإذا تحققت الغاية ينتفي مطلق الحكم؛ لأننا فرضنا أن الغاية هي نهاية الحكم، فإذا تحققت الغاية يكون الحكم قد انتهى، وهذا هو المفهوم.

 أما إذا كانت الغاية غايةً للحكم ولكن لم يكن الحكم عرفاً مطلقاً بل كان مهملاً (أي: ارتبط الوجوب على إهماله بغايةٍ) فيقول العراقي لا تدلّ الغاية على المفهوم؛ لأن المفهوم عبارة عن انتفاء مطلق الحكم، بينما لا يوجد إطلاق في الحكم، لأننا فرضنا أن الحكم مهمل.

 وقد تقدّم نقل نظير هذا الكلام منه في بحث مفهوم الوصف([1] )، حيث قال: إذا لُوحظ الحكمُ بالقياس إلى موضوعه وما يرتبط بالموضوع مثل الوصف فهو مهملٌ في نظر العرف، فلا يمكن إجراء الإطلاق في الحكم لإثبات أن مطلق الحكم مرتبط بهذا الموضوع أو هذا الوصف. إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه وذكر ره عدم ثبوت المفهوم للّقبِ شاهداً على أن الحكم بالقياس إلى موضوعه مهملٌ (لأن مطلق الحكم لم يتقيّد بهذا اللّقب حتى ينتفي مطلق الحكم بانتفاء اللّقب، بل أصل الحكم وذات الحكم على إهماله تعلّق بهذا اللقب).

 أما إذا لُوحظ الحكمُ بالقياس إلى شيء آخر غيرِ الموضوع (من قبيل الشَّرْط في الجملة الشَّرْطِيَّة، أو) من قبيل الغاية هنا فيما إذا كانت الغاية راجعة إلى الحكم (أي: القسم الثالث والرابع) فيقول العراقي ره: هذا مطلق عرفاً وذلك على القاعدة التي أثبتها وتقدم الكلام عنها في بحث مفهوم الوصف أن الحكم بالقياس إلى شيء آخر غير الموضوع والمتعلق مطلق عرفاً، فيدل على المفهوم.

 ولكن تقدّم النقاش في هذا الكلام مفصلاً في بحث مفهوم الوصف([2] ) فلا نعيد كلامه؛ إذ لا يحتوي على مطلب جديد أكثر مِمَّا ذكره هناك؛ وكان فذلكة النقاش أن للإطلاق ثلاثة معاني نرفض المعنى الأوّل والثاني منها ونختار المعنى الثالث وهو أن يكون الإطلاق بمعنى لحاظ ذات الطَّبيعة من دون لحاظ شيء زائد.

 فالحكم إذا لوحظ بالقياس إلى موضوعه أو إلى متعلّقه فإما هو مطلق بهذا المعنى الصحيح أو مقيّد، ولا يوجد لدينا مهمل في البين ولا معنى للمهمل (إما أن يلحظ ذات طبيعة الحكم وإما يلحظها مقيدةً) على تفصيل تقدّم بأن في بعض القضايا تكون مطلقة وفي بعض القضايا تكون مقيدة.

 أما المحقّق النائيني ره فالميزان والمقياس عنده لثبوت المفهوم للغاية (على ما هو ظاهر من كلامه) هو أن تكون الغاية غايةً للحكم بشرط أن يكون الحكم مقيداً بالمعنى الحرفي (=القسم الرابع) لا بالمعنى الاسمي. ومتى ما كانت الغاية غايةً للموضوع (كالقسم الأوّل) أو للمتعلق (كالقسم الثَّاني) أو كانت غاية للحكم ولكن لم يذكر الحكم من خلال الحرف والهيئة، بل ذُكر الحكمُ من خلال الاسم (كالقسم الثالث) فالمفهوم غير ثابت.

 وهذا معناه عدم ثبوت المفهوم في الأقسام الثلاثة الأولى عند المرزا؛ وذلك لأن الغاية في هذه الأقسام الثلاثة ترجع إلى معنى اسمي، وذاك المعنى الاسمي إما هو الموضوع كالأرجل في الآية الشريفة (=في القسم الأوّل، فإن «إلى الكعبين» غايةٌ للأرجل، والأرجل معنىً اسمي)، وإما هو المتعلّق مثل «أتموا الصيام إلى الليل» (= في القسم الثَّاني) وإما هو الوجوب ولكن الوجوب مبين بالمعنى الاسمي، مثل: «الصيام واجب إلى الليل»، فإن «واجب» غاية لـ«إلى الليل» وهو معنى اسمي (في القسم الثالث).

 فحيث أن الغاية في كل هذه الأقسام الثلاثة غايةٌ للمعنى الاسمي فالغايةُ تُحَصِّصُ هذا المعنى الاسمي، أي: حصّة من هذا المفهوم الاسمي (أي: يجب مسح حصّة من الأرجل وهي الأرجل إلى الكعبين، وتجب حصّة من الوجوب للصيام وهي الصيام إلى الليل)، فلا يدلّ الكلام على أكثر من حكمٍ تعلّق بحصةٍ معينةٍ، وهذا لا مفهوم له (فإذا تعلّق الحكم بحِصَّةٍ معينة فلا يعني أن بانتفاء الحِصَّة ينتفي مطلق الحكم)([3] ).

 أما السيد الأستاذ الخوئي ره فقد جعل الميزان في ثبوت المفهوم في باب الغاية أن تكون الغايةُ غايةً للحكم نفسه، سواء كان الحكمُ مبيَّناً بالمعنى الحرفي كالقسم الرابع أو مبيَّناً بالمعنى الاسمي كالقسم الثالث، فإن المهم أن تكون الغايةُ غايةً للحكم ذاتِهِ ليثبت المفهومُ، أمّا إذا كانت الغاية غاية لموضوع الحكم (كما في القسم الأوّل) أو لمتعلق الحكم (كما في القسم الثَّاني) فلا يثبت المفهوم([4] ).

 إذن، هناك خلاف على ما هو الظاهر بين الأستاذ (= النائيني) وتلميذه (= السيد الأستاذ الخوئي ره) بالنسبة للقسم الثالث، حيث لا مفهوم له عند المرزا بينما له مفهوم عند السيد الخوئي ره، وذلك بعد اتفاقهما على أن المفهوم إنّما يثبت إذا كانت الغاية غاية لنفس الحكم، ولا يثبت إذا لم تكن الغاية غايةً للحكم نفسه.

 فلا بُدّ لنا من قراءة دليل المرزا ومدرسته على هذا المُدَّعى وهذا ما يأتي غداً إن شاء الله. (إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه).

[1] - راجع الدرس الثاني والخمسين (الثلاثاء 18/03/1432).

[2] - راجع هذه المناقشة في الدرس الثالث والخمسين (الأربعاء 19/03/1432).

[3] - راجع «أجود التقريرات»: ج1، ص436 وما بعدها و«دراسات في علم الأصول»: ج2، 223-225.

[4] - المصدران.