الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/03/23

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الأدلة المحرزة/الدليل الشرعي/الدليل الشرعي اللفظي/دلالة الدليل/المفاهيم/مفهوم الوصف

 كان الكلام في الوجه الثاني من الوجوه التي ذكرها الأصحاب لإثبات أن الوصف لا مفهوم له، وكان هذا الوجه الثاني عبارة عن ما أفاده المحقّق النائيني ره، وقلنا بالأمس إن كلامه يستفاد منه مطلبان، ذكرنا المطلب الأول وناقشناه. وذكرنا أيضاً المطلب الثاني وكان حاصله هو أن الوصف إذا كان علّة للحكم فيثبت له المفهوم؛ لأن المفهوم ينتفي بانتفاء العلّة. ثم يقول هو ره إن الجملة الوصفية لا ظهور لها عرفاً في أن الوصف علّة للحكم. فإن الوصف مشعِر بالعلية وليس ظاهراً في العليّة إلا بقرينة. -إعداد وتقرير الشيخ محسن الطهراني عفي عنه- وهذا بيان آخر له ره، وكما تقدّم بالأمس لا يذكر ره مسألة الانحصار ولا يقول: يجب أن يكون الوصف علّة منحصرة حتى يثبت المفهوم، بل يذكر العليّة فقط، بينما هو في مفهوم الشرط وكذلك في الضابط العام للمفهوم ذهب إلى ما ذهب إليه المشهور القائلين بأن ضابط المفهوم هو أن يكون مثلاً الشرط في الجملة الشرطية علّة منحصرة للجزاء، ولكنه لم يذكر الانحصار في الجملة الوصفية، ولذلك قلنا إن السيد الخوئي ره علّق على كلام أستاذه في الهامش بأن العليّة لوحدها لا تكفي ما لم يثبت أن الوصف علّة منحصرة للجزاء.

وهذا البيان أيضاً غير تامّ كسابقه حتى مع أخذ الاستدراك الذي ذكره السيد الأستاذ الخوئي ره بعين الاعتبار، فلا كلام الأستاذ تام ولا كلام تلميذه رهما وقبل أن نذكر تعليقنا على هذا البيان ومستدركه لا بأس بالتعليق على ما أفاده ره من أن الوصف وإن كان مشعراً بالعلية إلا أنه لا ظهور له فيها إلا بقرينة؛ -إعداد وتقرير الشيخ محسن الطهراني عفي عنه- فإن هذا الكلام غير صحيح؛ لأن الوصف ظاهر في العليّة في باب الأحكام الشرعية بالمعنى المقصود من العليّة في هذا الباب وهذا بخلاف باب الإخبار؛ فإن الوصف في الجملة الخبرية يشعر بالعلية وليس ظاهراً فيها.

 فلو قال: «أكرمتُ الفقير العادل» لم يكن لكلامه ظهور في أن علّة الإكرام هي العدالة. نعم، كلامه مشعر بذلك لا أكثر.

وأما في باب الأحكام والقضايا الشرعية فحيث أن العليّة لا تعني معناها الحقيقي (أي: التأثير والإيجاد)؛ لأن المؤثِّر والموجِد للحكم الشرعي هو المولى الحاكم والجاعل لا الموضوع وقيوده وأوصافه، فعلّيّة الوصف للحكم ليس المقصود منها تأثيره وإيجاده للحكم كما هو واضح، بل العليّة هنا تعني الموضوعية وكون شيء موضوعاً للحكم.

 ومن الواضح أن الوصف ظاهر في العليّة بهذا المعنى، أي: هو ظاهر في كونه جزء الموضوع ودخيلاً في الحكم، لا أنه مشعِر بذلك.

 وكيف كان فتعليقنا على بيان المحقّق النائيني ره ومستدركه الذي أفاده السيد الأستاذ الخوئي ره هو أن مجرّد إثبات كون الوصف علّة منحصرة للحكم لا يكفي وحده لاقتناص المفهوم ما لم يثبت أن المعلول هو طبيعي الحكم وسنخه، كي ينتفي بانتفاء علته ويثبت المفهوم.

 وقد قلنا مراراً أن إثبات ذلك متوقف على إجراء مقدمات الحكمة في مفاد الهيئة الذي هو عبارة عن النسبة الإرسالية - أي: هيئة «أكرم» مثلاً في قولنا: «أكرم الفقير العادل» - وقد عرفت أن إجراءها فيها متعذر؛ لأن هذه النسبة متقوّمة بطرفين:

أحدهما: مادّة الفعل، أي: الإكرام في المثال، الذي هو المرسَل إليه.

وثانيهما: فاعل الفعل، وهو المخاطب المرسَل، والمادّة متحصّصة بالمفعول الذي هو أيضاً متحصّص بدوره بالوصف.

 وعليه فهذه النسبة - إذن - بحسب تكوّنها الذاتي متقيّدة ومتحصّصة، لتقيّد أحد طرفيها، ومعه يستحيل إجراء مقدمات الحكمة فيها لإثبات الإطلاق كما شرحنا لك فيما مضى.

 وعليه فلا مفهوم للوصف حتى ولو كان الوصف علّة منحصرةً للحكم؛ لأن الوصف حيث أنه وصف للموضوع فهو يحصّص الموضوع، والموضوع بدوره يحصّص الحكم، فلا تدل الجملة الوصفية على أكثر من حصّة خاصّة من الحكم، فبانتفاء الوصف تنتفي هذه الحصة الخاصّة، ويبقى احتمال ثبوت حصة أخرى من الحكم رغم انتفاء الوصف، فلا يثبت المفهوم كما هو واضح.

 إذن، فهذا البيان أيضاً غير تام لإثبات عدم دلالة الوصف على المفهوم.

البيان الثالث: ما جاء في كلمات المحقّق الإصفهاني ره في المقام التي لا تخلو أيضاً عن قلق، إلا أن بإمكاننا عَرَض كلامه وتوضيح نظره ومرامه من خلال بيانين:

الأول: دعوى أنه كلما أمكن استفادة كون الوصف علّة للحكم من الجملة الوصفية ولو بمساعدة قرينة خاصّة، أمكن حينئذٍ استفادة انحصارها بنحو يُفيد المفهوم؛ وذلك لأن فرض عدم الانحصار معناه فرض وجود علّة أخرى للحكم أيضاً غير الوصف.

 ففي مثالنا المتقدم «أكرم الفقير العادل» يكون فرض عدم الانحصار مساوقاً لفرض وجود علّة أخرى لوجوب إكرام الفقير غير العدالة من قبيل كونه هاشمياً مثلاً.

 وهذا يلزم منه إما محذور ثبوتي أو محذور إثباتي؛ لأنه إما أن يُفترض حينئذٍ أن الجامع بين «الوصف» (أي: العدالة مثلاً) و«تلك العلّة الأخرى» أي: كونه هاشمياً مثلاً هو علّة الحكم، وإما أن يُفترض أن كلاً من «الوصف» و«العلّة الأخرى» بخصوصه وبعنوانه علّة للحكم.

 والأول يلزم منه محذور إثباتي؛ لأنه خلاف ظهور الجملة الوصفية في كون «الوصف» بخصوصه وبعنوانه دخيلاً في الحكم، لا بما هو فرد من الجامع.

فالشق الأول خلاف أصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت؛ فإن الوصف بعنوانه مذكور إثباتاً، فهو بعنوانه دخيل ثبوتاً.

وأما الشق الثاني فيلزم منه محذور ثبوتي، وهو صدور الواحد بالنوع - أي: طبيعي الحكم والوجوب في المثال - من الكثير بالنوع - أي: «الوصف» و«العلّة الأخرى»؛ فإن العدالة والهاشمية نوعان، وهو مستحيل.

 ثم نبَّه ره على عدم موافقته على تعميم قاعدة «الواحد لا يصدر من الكثير» للواحد بالنوع[1] .

 إذن، بيانه الأول مركب من أمرين:

أحدهما: أن الوصف علّة لطبيعي الحكم.

وثانيهما: أنه لا توجد علّة أخرى.

 والأمر الأول يُفترض قيام قرينة عليه في الجملة الوصفية، والأمر الثاني يثبت بدليل عام يدل على أن وجود علّة أخرى يستلزم المحذور.

 فأما الأمر الأول فلا معنى لمناقشته؛ إذ يُفترض قيام قرينة خاصّة عليه في الجملة الوصفية، فيبقى الأمر الثاني، فنقول في مناقشته: إن الدليل الذي ذكره ره لإثباته - وهو أن وجود علّة أخرى لطبيعي الحكم يستلزم محذوراً إثباتياً أو ثبوتياً - غير تامّ، وقد سبقت مناقشة ذلك في بحث مفهوم الشرط - في التقريب الرابع لإثبات مفهوم الشرط - وها نحن نكرّر تلك المناقشة هنا ونقول:

 إن بالإمكان اختيار الشق الثاني وهو أن يكون كل من «الوصف» و«العلّة الأخرى» علةً لطبيعي الحكم، من دون أن يلزم من ذلك أي محذور ثبوتي حتى على القول بعموم قاعدة «الواحد لا يصدر من الكثير» للواحد والكثير بالنوع، وذلك لعدم صحَّة تطبيق هذه القاعدة على ما نحن فيه، سواء أريد تطبيقها على ذات الحكم، أم أريد تطبيقها على روح الحكم ومبدئه، أي: الملاك؛ وذلك لأن هذه القاعدة إنما تقول بأن الوجود الفلسفي الحقيقي الواحد لا يمكن أن يكون معلولاً لوجودات فلسفية حقيقية متعدّدة.

 انتهى وقتنا وستأتي تتمة الكلام غداً إن شاء الله تعالى.

[1] - نهاية الدراية: ج2، ص175.