الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/03/10

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الأدلة المحرزة/الدليل الشرعي/الدليل الشرعي اللفظي/دلالة الدليل/المفاهيم/مفهوم الوصف

البحث التاسع عشر

مفهوم الوصف

البحث التاسع عشر من بحوث دلالات الدليل الشرعي اللفظي هو البحث عن مفهوم الوصف، أي: البحث عن أن القضية المشتملة على الوصف هل تدل على المفهوم، على انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء الوصف، أم لا تدل؟

إذا كانت الجملة مشتملة على وصف سواء كان هذا الوصف وصفاً لمتعلق الحكم (كما إذا قال مثلاً: «أكرم زيداً بإطعامه» فالإطعام هنا وصف للإكرام والإكرام متعلق الحكم)، أم كان وصفاً لموضوع الحكم (كما إذا قال: «أكرم الفقير العادل» لتكون العدالة وصفاً للفقير الذي هو موضوع الحكم ومتعلق المتعلق وليس متعلق الحكم). فهل يدل هذا الكلام على المفهوم (أي: أنه إذا لم يكن الفقير عادلاً فلا يجب إكرامه).

قبل البدء بالبحث لابد من بيان المراد من كل من الوصف والمفهوم في البحث الأصولي. أما الوصف فليس المراد منه هنا خصوص الوصف عند النحاة (أي: النعت الذي هو من التوابع)، فهو وصف يدخل في بحثنا لكن بحثنا أعمّ من النعت النحوي ومن غيره.

فمثلاً بحثنا الأصولي هنا يشمل الحال النحوي (كما إذا قال: «أكرم الفقير عادلاً»، فـ«عادلاً» حال وليس نعتاً نحوياً لكنه يعتبر وصفاً) و الجار والمجرور (مثل «صل في المسجد»، فإن «في المسجد» جار ومجرور وليس نعتاً ولا وصفاً نحوياً لكنه وصف أصولي) وكلَّ ما هو قيد لمتعلق الحكم أو لموضوع الحكم، غير القيود التي تُذكر في بحث المفاهيم بالخصوص من قبيل «اللقب» و«العدد» و«الاستثناء» و«الحصر» التي سوف نبحث عنها مستقلاً.

فالبحث عام يشمل الأسماء المشتقة الجارية على الذوات (مثل «اسم الفاعل» و«اسم المفعول» و«الصفة المشبهة» و«الصيغة المبالغة» و«اسم الزمان والمكان» و«اسم الآلة») والأسماء المنسوبة (مثل «حجازي» في «أكرم الفقير الحجازي») والأسماء الجامدة الجارية على الذوات بلحاظ اتّصاف الذوات إما بعَرَض أو بعَرَضي (مثل «الأبيض» و«الأسود» و«الأحمر» و«الأصفر»، التي تجري على الذوات باعتبار أن الذّات متصف بهذا العَرَض. واتصاف الذّات بالعَرَضي من قبيل الزوج)، كما أن بحثنا يشمل الوصفَ الضمني الذي قد يُعبَّر عنه بالوصف المقدَّر أو الوصف غير الصريح، وهو ما يكون كناية عن الوصف (كالنبوي - صلى الله عليه وآله وسلم - المعروف: «لئن يمتلأ بطن الرجل قيحاً خير من أن يمتلأ شعراً»، فإن معنى امتلاء البطن من الشعر كناية عن الشعر الكثيف وعن كثرة الشعر، فكأنه قال: «الشعر الكثير مذموم» ولكن وصف الكثرة مقدَّر ومكنى، فلو قلنا بالمفهوم فيدل هذا الحديث على أن المذموم شرعاً هو الشعر الكثيف دون الشعر القليل).

الحاصل: أن مراد الأصوليين من كلمة الوصف هو كل هذه الدائرة الواسعة العريضة الشاملة، وكل قيد غير القيود المذكورة بالخصوص في بحث المفاهيم.

أما ماذا يُقصد بالمفهوم؟

المراد بالمفهوم - كما تعلمون - هو انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء الوصف. فعندما نقول: الشرط له مفهوم أو لا؟ يعني: هل يدل الشرط على أن طبيعي الجزاء ينتفي إذا انتفى الشرط أو لا؟ وكذلك المقصود من المفهوم في الوصف هو انتفاء طبيعي الحكم وكل حصص وجوب إكرام الفقير الفاسق عند انتفاء الوصف (مثلاً لو قال: «أكرم الفقير العادل»، فمقصودنا بالمفهوم هو انتفاء طبيعي وجوب إكرام الفقير عند انتفاء العدالة، بحيث الفقير غير العادل لا يجب إكرامُه أبداً بأي وجوب، سواء هذا الوجوب المذكور في هذا الخطاب أو أي وجوب آخر للإكرام. فهل يدل الكلام على عدم وجوب إكرام الفقير غير العادل، بحيث لو قلنا بدلالته على ذلك، فسوف يدل الكلام على مطلبين: أولاً في المنطوق: يجب إكرام الفقير العادل. وثانياً في المفهوم: لا يجب إكرام الفقير غير العادل. إذن، فلو قال دليل آخر إن هذا الفقير لا يجب إكرامه، فيعتبر ذاك الدليل مخصصاً لهذا المفهوم)، وإلا فانتفاء شخص هذا الحكم عند انتفاء العدالة يثبت بقاعدة احترازية القيود[1]

[2] .

وبالجملة لا إشكال في دلالة القضية الوصفية على انتفاء شخص الحكم عند انتفاء الوصف؛ وذلك لأصالة التطابق بين عالم الإثبات (عالم المدلول التصوري للكلام) وعالم الثبوت (عالم المدلول التصديقي الجدي للمتكلم).

وبعبارة أخرى: كما أن الخطاب مقيَّد بالعدالة ولا إطلاق فيه بغير العادل، كذلك الجعل ثبوتاً (الجعل الذي أُبرز بهذا الخطاب) مقيَّد بالعدالة. فهذا الكلام بمقتضى هذا الأصل العقلائي (أصالة التطابق) يدل على أن هذا الجعل الواحد، قد أخذ فيه قيد العدالة بلا إشكال. أما انتفاء جعل آخر لوجوب إكرام الفقير الفاسق بملاك آخر غير ملاك العدالة فهو محل البحث والكلام. فالقائل بمفهوم الوصف يقول بانتفاء كل وجوبات الإكرام عند انتفاء الوصف.

فلا إشكال في دلالة القضية الوصفية على انتفاء شخص الحكم بانتفاء الوصف، إلا أنه لا ينفع لإثبات المفهوم. إلا إذا علمنا من الخارج بوحدة الجعل ثبوتاً، فحينئذ يكون انتفاءُ شخص الحكم بانتفاء الوصف ملازماً لانتفاء طبيعي الحكم. لا من باب أن الوصف أصبح له مفهوم، بل من باب أننا أحرزنا أن الحكم واحد، ومن الواضح أن الحكم الواحد لا يمكن أن يكون له موضوعان مختلفان متغايران.

وعلى هذا الأساس يُحمل المطلقُ على المقيد (كما إذا قال: «اعتق رقبة»، وجاء في دليل أخر: «اعتق رقبة مؤمنة». أي: لا يجب عتق الرقبة غير المؤمنة. أي: انتفاء الوجوب عن عتق الرقبة عند انتفاء الإيمان، ولكن ليس لأن لقيد الإيمان ووصفه مفهومٌ - فإنهم ينكرون الوصف - بل لأنهم أحرزوا أن الحكم واحد، أي: لم يجعل من قبل المولى وجوبان للعتق، أحدهما موضوعه الرقبة، والآخر موضوعه: الرقبة المؤمنة.

ومن هنا لا يمكن أن نجعل تسالم الأصحاب على حمل المطلق على المقيد نقضاً على من ينكر مفهوم الوصف، كما قد يتوهم في بعض الكلمات.

[1] - فالأصل في جميع القيود الاحترازية، فإنه حينما يذكر قيد العدالة لابد وأنه يريد أن يحترز به عن غير العادل ويثبت أن هذا الوجوب يخص العادل، فينتفي هذا الوجوب بانتفاء العدالة، وهذا واضح لا يحتاج إلى المفهوم.

[2] بعبارة أخرى يوجد لدينا أمران: 1- قاعدة احترازية القيود: وهي تقتضي أن كل ما ذُكر في الكلام يكون احترازياً إلا إذا قامت قرينة على أن القيد توضيحي. وأساس هذه القاعدة عبارة عن أصل عقلائي هو «ما قاله أراده» (وقد تقدم في ضابط المفهوم). وهو قد ذكر العدالة فهو يريدها، والقدر المتيقن أن العدالة مأخوذة في شخص هذا الوجوب، وهذا معنى احترازية القيود، ولا دخل له بالمفهوم الأصولي فهو مسلَّم به حتى لدى المنكرين للمفهوم. 2- المفاهيم.