الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/03/05

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الأدلة المحرزة/الدليل الشرعي/الدليل الشرعي اللفظي/دلالة الدليل/المفاهيم/مفهوم الشرط/تنبيهات مفهوم الشرط/التنبيه الثامن: حجية المفهوم في غير مورد التقييد

كان الكلام في أن المفهوم إذا قيد بمقيد خارجي فهل يسقط عن الحجية نهائياً فلا يؤخذ به في غير مورد التقييد أم أنه يبقى على حجيته في غير مورد التقييد. فقلنا إن جوابه يختلف باختلاف المسالك في إثبات مفهوم الشرط.

فعلى مسلك مثل مسلكنا الذي يرى أن إثبات مفهوم الشرط بحاجة إلى إجراء الإطلاق في الجزاء، لإثبات أن الجزاءَ المعلَّق على الشرط هو مطلقُ الحكم، فالصحيح هو أن المفهوم لا يسقط عن الحجية نهائياً فيما نحن فيه.

ولو بنينا على المسلك الذي يغنينا عن الإطلاق في الجزاء[1] فلا يسقط المفهوم عن الحجية نهائياً، أو بينينا على المسلك الذي يجعلنا بحاجة إلى إثبات أن المعلق على الشرط مطلقُ الحكم بالوضع، لا بالإطلاق (أي: القضية الشرطية تدل وضعاً على أن مطلق الحكم وكل حصص وجوب إكرام زيد متوقف ومعلق على مجيئه)، فبناء على هذين المبنيين لابد من معرفة الدال على أن الشرط علة منحصرة للجزاء؛ لأن من المعلوم - وقد تقدم سابقاً مفصلاً - أن المشهور لإثبات مفهوم الشرط جعلوا الضابط عبارة عن ركنين: 1- أن يكون الشرط علة منحصرة للجزاء. 2- إثبات أن المعلق على الشرط مطلق الحكم (الإطلاق في الجزاء).

فنحن انتهينا من إثبات الضابط الثاني بشكل وآخر (بلا حاجة إلى الإطلاق)، ويبقى الضابط الأول وهو أن الشرط علة منحصرة للجزاء، فما هو الدال عليه؟

فإن قلنا: إن الدال على العلية الانحصارية عبارة عن ظهور واحد بسيط (أي: ظهور إذا سقط لا يقوم مقامه ظهور آخر يدل على العلية الانحصارية)، كما هو الحال على المبنى الذي كان يقول بأن العلية الانحصارية نستفيدها من الوضع، والدال على العلية الانحصارية عبارة عن القضية الشرطية بالدلالة الوضعية، والقضية الشرطية وضعت للدلالة على أن الشرط علة منحصرة للجزاء.

فإذا قيد المفهوم بقيد - بناء على هذا المبنى - يسقط عن الحجية نهائياً ولا يبقى للقضية الشرطية مفهوم، حتى في غير مورد التقييد؛ لأن المفروض أن المفهوم إنما يثبت فيما إذا كان الكلام دالاً على العلية الانحصارية، والعلية الانحصارية يدل عليها الكلام بالوضع، وقد تبين أن هذا الشرط ليس علة منحصرة للجزاء؛ لأننا علمنا من الخارج بأنه حتى لو لم يجئ زيد وكان مريضاً يجب إكرامه، فتبين أن السبب الوحيد لإكرامه ليس هو المجيء بل هناك علة أخرى وهي المرض مثلاً، فسقطت العلية الانحصارية.

ولا ظهور آخر يقوم مقامه (ليدل على العليّة الانحصارية)، فلا يبقى لدينا في هذه الجملة ما يكون حجة لإثبات المفهوم.

وكذلك الحال لو بنينا على أن الدال على العلية الانحصارية ظهورٌ واحدٌ بسيط لا يقوم مقامه لا ما يدل على العلية الانحصارية كما فرضنا في الفرض السابق ولا ما يدل على ما يستلزم العلية الانحصارية؛ فقد كان بعض المباني (وقد تقدمت مناقشتها أيضاً) يقول بإمكانية إثبات المفهوم (من خلال ظهور آخر يدل على أن الشرط يستلزم العلية الانحصارية، وإن لم يكن هو علة منحصرة) حتى لو لم يكن للكلام ظهور في أن الشرط علة منحصرة للجزاء، من قبيل ظهور القضية في أن الشرط بعنوانه دخيل في الحكم، لا بوصفه مصداقاً لعنوان آخر جامع وأعم.

وعليه يسقط المفهوم عن الحجية نهائياً ولا يمكن الأخذ به حتى في غير مورد التقييد؛ لأنه بحسب هذا المقيد الخارجي سقط ظهور الكلام الدال على أن المجيء علة منحصرة للجزاء، ولم يَخْلِفْه ظهور آخر يدل على ما يستلزم العلية الانحصارية، (أي: لم يخلفه ظهور يدل على أن المجيء بعنوانه هو العلة والدخيل للحكم)؛ لأن هذا الظهور (ظهور الكلام في أن المجيء بعنوانه دخيل في الحكم) سقط عن الحجية وعلمنا من المقيد الخارجي أن الحكم يثبت من دون المجيء أيضاً). ولا يكون حجة في إثبات أن الشرط علّة منحصرة للجزاء ولا ما يكون حجة في إثبات ما يستلزم العلية الانحصارية. فسقط الركن الأول (الانحصارية) من ركني المفهوم، فيسقط المفهوم نهائياً بسقوط ركن من ركنيه.

أما لو قلنا إن الدال على العلية الانحصارية ليس ظهوراً واحداً بسيطاً بل هو عبارة عن ظهورات عديدة مجتمعة ومتراكمة، كل واحد منها في مقابل كل واحد مما يحتمل كونه بديلاً للشرط.

مثلاً في نفس مثالنا: «إن جاء زيد فأكرمه» نحتمل أن تكون هناك بدائل عديدة للمجيء، مثل المرض والفقر والعلم و... فيوجد ظهور في مقابل كل واحد من هذه البدائل، بأنه ليس المرض ولا الفقر ولا... علّة وجوب إكرامه. فالدال على العلية الانحصارية ظهورات عديدة مجتمعة كل واحد منها ظهور في مقابل بديل من بدائل الشرط المحتملة.

نظير ما نقوله في مقدمات الحكمة التي هي مقدمتان (أن يكون المتكلم في مقام البيان وأن لا يذكر القيد) ولكننا نقول مقدمات الحكمة.

فإن الله تعالى حينما يقول: أحل الله البيع، فيحتمل غير الإطلاق أن يكون أحل الله البيع بالصيغة العربية، البيع من البالغ، البيع من القاصر، فبمقدار هذه القيود توجد بدائل محتملة، بأن هذا القيد ليس هو المراد، وأن شرط الإسلام ليس مقصوداً، وأن شرط البلوغ ليس مراداً، وهكذا.

فبناء على هذا المبنى فالنتيجة أنه إذا ورد تقييد على المفهوم فلا يسقط المفهوم عن الحجية نهائياً وإنما يسقط عن الحجية في مورد التقييد فحسب.

وكذلك الحال إن قلنا: إن الدال على العلية الانحصارية ظهور واحد وليس ظهورات عديدة، لكن بعد سقوط هذا الظهور الواحد وانتفائه يقوم مقامه ظهور آخر بالنسبة إلى باقي البدائل المحتملة (هذا الكلام أيضاً كان موجوداً ضمن المباني التي سبق ذكرها - قبل فترة ليست طويلة - لإثبات مفهوم الشرط من خلال القول بأن القضية الشرطية تدل على أن الشرط أكمل أفراد العلة، وأكمل أفراد العلية هو العلة المنحصرة، فهنا الدال على العلية الانحصارية ظهور واحد، لكن هذا الظهور الواحد عبارة عن ظهور الكلام وانصراف الكلام إلى أكمل أفراده. حينئذ لو قال صاحب هذا المبنى: إن للكلام ظهور في الأكمل فالأكمل - مثل ما يقال في باب التقليد من الأعلم فالأعلم -، وقلنا هذا الظهور إذا سقط يخلفه ظهور آخر في الأكملية في الدرجة الثانية. أي: المجيء أكمل الأفراد بالدرجة الأولى (أي: علّة منحصرة)، لكن إذا سقط هذا الظهور عن الحجية في مورد - كما فيما نحن فيه لأننا علمنا سقوطه من القرينة الخارجية - يخلفه ظهور آخر - طوليّ = المرض في طول المجيء - يقول بالأكمل فالأكمل، يعني: العلّة المنحصرة في هذين هو علّة وجوب الإكرام، ولا علّة أخرى غيرهما. فلم يسقط المفهوم نهائياً بل أخذ به في غير مورد التقييد.

هذا تمام الكلام في التنبيه العاشر من تنبيهات مفهوم الشرط، فتلك عشرة كاملة. وبذلك نكون قد انتهينا ولله الحمد عن البحث الثامن عشر من بحوث دلالات الدليل الشرعي اللفظي وهو بحث مفهوم الشرط، وبعد ذلك يتلوه بعون الله البحث التاسع عشر وهو بحث دلالة الوصف على المفهوم وهذا ما سوف نقوم به إن شاء الله تعالى في يوم الاثنين.

[1] - حيث كان يقول بعدم جريان الإطلاق في الجزاء لتدل القضية الشرطية على أن المعلق على الشرط شخص هذا الحكم المذكور في الكلام، لا مطلق الحكم وطبيعيه؛ لأنه لو كان هناك وجوب آخر للإكرام بسبب آخر غير المجيء مثل المرض، فهذا معناه صدور الواحد بالنوع (=وجوب الإكرام) من الكثير بالنوع (=المجيء والمرض) وهو محال بناء على استحالة صدور الواحد بالنوع من الكثير بالنوع (فقد سبق كلام من هذا القبيل). فلا يبقى لا شخص هذا الإكرام (لأنه قد علّق على المجيء) ولا نوعه (أي: إكرام آخر) وهذا هو المفهوم؛ فإن المفهوم هو أنه إذا لم يجئ زيد ينتفي طبيعي الإكرام (انتفاء كل إكرام لزيد).