الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/03/03

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الأدلة المحرزة/الدليل الشرعي/الدليل الشرعي اللفظي/دلالة الدليل/المفاهيم/مفهوم الشرط/تنبيهات مفهوم الشرط/التنبيه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حيث تداخل الأسباب والمسببات

كان الكلام في أن مقتضى القاعدة في باب المسبَّبات هل هو التداخل أو عدم التداخل؟ فذكرنا وجهاً لعدم التداخل ووجهاً للتداخل، وقلنا تارة نتكلم - في الوجه الثاني - عن إمكانه ثبوتاً وأخرى عن مدى صحته إثباتاً. أما الأول فقد قلنا بأن إمكانه متوقف على القول بإمكان اجتماع حكمين على عنوانين رغم وحدة المعنون خارجاً، كما يقول به بعض الأصوليين القائلين بإمكان اجتماع الأمر والنهي. وأما الثاني فيكون ممتنعاً ومستحيلاً وذلك بناء على القول باستحالة اجتماع الأمر والنهي، لنكتة أن تعدد العنوان لوحده لا يكفي لدفع محذور اجتماع الحكمين المتضادين، فلا يمكن اجتماع وجوبين متماثلين بمجرد تعدد العنوان (فإن الموجود في المقام هو المثلان والموجود في الأمر والنهي هو الضدان).

اللهم إلا أن يُلتزم بما ذكره النائيني ره في بحث اجتماع الأمر والنهي من التضاد بين النهي (الشمولي عن جميع أفراد العمل الخارجي الذي هو تصرف في مال الغير) من جهة والترخيص في التطبيق - المستَفَادِ من الأمر - من جهة أخرى (فالمستفاد من الأمر بالصلاة هو سماح المولى للمكلف أن يقيم الصلاة في أي فرد من أفراد الصلاة المتصورة مثل الصلاة في المكان المغصوب والبيت والمسجد وبثوب كذا)، لا أن يكون المحذور التضاد بين نفس الحكمين. فالمحذور هو تضاد بين ذاك النهي وبين هذا الترخيص.

فإن كان المحذور هذا (=محذور التضاد بين النهي وبين الترخيص في التطبيق) فهو غير موجود في المقام؛ إذ لا يوجد نهي في المقام، بل لدينا وجوبان، تعلق أحدهما بعنوان رفع الحالة النفسانية الحاصلة بسبب النوم وتعلق الآخر بعنوان رفع الحالة النفسانية الحاصلة بسبب البول. فلا مانع من وجود ترخيص في تطبيق كلا الوجوبين. الوجوب الأول يرخصني في أن أطبّق «رفعَ الحالة الحاصلة بسبب النوم» على هذا الوضوء، وكذلك الوجوب الثاني يرخصني في أن أطبّق «رفعَ الحالة الحاصلة بسبب البول» على هذا الوضوء. فلا مانع من اجتماع هذين الحكمين ولا مانع من أن يتداخلا في مقام الامتثال بحيث يكون وضوء واحد تطبيقاً وامتثالاً لكلا الوجوبين. فيتم الوجه الثاني ثبوتاً وعقلاً، بناء على أن المحذور عندنا هو المحذور المرزائي.

أما بحسب عالم الإثبات فالوجه الأول (وهو تقييد إطلاق مادة الجزاء) مرجَّحٌ ونلتزم به؛ وذلك لأن الوجه الثاني وإن كان يمتاز عن الوجه الأول بعدم الالتزام بالتقييد لإطلاق مادة الجزاء - كما قلنا بالأمس - لكنه خلاف الظاهر في نفسه، فإن ظاهر قوله «فتوضأ» هو أن الوجوب متعلق بنفس عنوان «الوضوء»، بينما الوجه الثاني يفترض أن الوجوب ليس متعلقاً بعنوان «الوضوء»، بل هو متعلق بعنوان «رفع الحالة النفسانية الحاصلة بسبب النوم»، لأنه ظاهر «فتوضأ» هو الوضوء، بينما الوجه الثاني يفترض أن «فتوضأ» ليس هو متعلق الوجوب، بل «الوضوء» مصداقٌ لمتعلق الوجوب، ومتعلق الوجوب شيء آخر هو «رفع الحالة النفسانية الحاصلة بسبب النوم». وهذا خلاف لظاهر الكلام في أن متعلق الوجوب هو نفس عنوان «الوضوء»، فإن مقتضى أصالة التطابق بين عالم الإثبات وعالم الثبوت هو أن ما هو مذكور في عالم الإثبات والكلام هو المراد الجدي في عالم الثبوت والواقع، والمولى ذكر عنوان الوضوء ولم يذكر عنوان رفع الحالة النفسانية الحاصلة بسبب النوم. فمقتضى التطابق بين العالمين هو الوجه الأول الذي لا يخالف هذا الظهور.

ففي الحقيقة يقع التعارض في المقام بين هذا الظهور المقتضي لتعلق الوجوب بنفس عنوان «الوضوء» وبين ظهور المادة في الإطلاق؛ لأنه إما أن الوجوبين متعلقان بنفس عنوان الوضوء (عنوان واحد) وهذا ما يقتضيه هذا الظهور الذي ذكرناه، إذن لابد من أن نلتزم بالتقييد ونرفع اليد عن إطلاق المادة؛ لأن الوضوء من دون قيد يعني شيء واحد، والشيء الواحد لا يجتمع عليه وجوبان. فلطالما افترضنا شيئاً واحداً فلابد من أن نقيّد هذا العنوان بقيد (الآخر). وكذلك العكس، الوجوب الذي يحدث بسبب البول يتعلق بالوضوء غير الوضوء الذي يمتثل به الوجوب الأول.

وإما أن متعلق الوجوبين مطلق لاقتضاء إطلاق المادة، فلا بد من أن نلتزم بوجود عنوانين غير عنوان «الوضوء»، كما افترضه الوجه الثاني. عنوان تعلق به الوجوب الأول، وعنوان تعلق به الوجوب الثاني، وهذا معناه رفع اليد عن ظاهر الكلام في أن الوجوب متعلق بنفس عنوان «الوضوء». فالظهوران متعارضان ولابد من رفع اليد عن أحدهما.

قد يقال بأنهما متساويان لأن كليهما مستفَادَين من أصالة التطابق. أما الظهور الأول (ظهور الكلام في أن الوجوب متعلق بنفس عنوان الوضوء لا بعنوان آخر، يكون الوضوء مصداق له) فبما أن المولى ذكر عنوان الوضوء في الكلام فمقتضى التطابق أن مراده واقعاً هو الوضوء أيضاً، وليس مراده ذاك الشيء الذي ذكره صاحب الوجه الثاني من رفع الحالة النفسانية الحاصلة بسبب النوم. وأما الظهور الثاني فمستفاد من أصالة التطابق أيضاً (وهو ظهور مادة الجزاء في الإطلاق، فإن الإطلاق فرع من فروع أصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت. فعندما نقول: (أحل الله البيع)[1] نجري - في الواقع - أصالةَ التطابق بين العالَمَين الإثبات والثبوت، بأن المولى لطالما لم يذكر قيداً في عالم الإثبات، فلم يرد قيداً معيناً في عالم الثبوت). فكلا الظهورين على حد سواء.

إلا أن الصحيح هو تقدم الظهور الأول على الثاني رغم استفادة من أصالة التطابق بين عالمي الإثبات والثبوت؛ لأن الظهور الأول مستفاد من أصالة التطابق بين الإثبات والثبوت بمعنى أن ما هو موجود في عالم الإثبات ومذكور في الكلام، موجودٌ في عالم الثبوت، أي: مرادٌ للمولى جداً، أي: تطابق الوجود الإثباتي مع الوجود الثبوتي. أي: ما قاله أراده. وأما الظهور الثاني فمستفاد من أصالة التطابق بمعنى تطابق عدم الإثبات مع عدم الثبوت؛ لأن الظهور الثاني إطلاق وهو مستفاد دائماً من التطابق بين العالَمَين. أي: عدم ذكر القيد مطابق إثباتاً مع عدم الإرادة الجدية ثبوتاً.

بعبارة أخرى: الظهور الأول مستفاد من أصالة (أن ما قاله أراده) والظهور الثاني مستفاد من أصالة (ما لم يقله لم يرده). وحينئذ يقال بأن الأصل الأول (أصالة تطابق الوجود الإثباتي مع الوجود الثبوتي) أقوى من الأصل الثاني (أصالة تطابق العدم الإثباتي مع العدم الثبوتي) عرفاً كما أنه أقوى لدى الفقهاء أيضاً.

والشاهد على هذه الأقوائية أننا نرى أن العرف والعقلاء عموماً وكذلك الفقهاء والخواص خصوصاً، يقدمون المقيِّد على المطلق. فلا يقولون بالتعارض ثم التساقط، ولا يقدمون المطلق على المقيد بل يقدمون المقيد على المطلق[2] ، وهذا معنى الجمع العرفي.

فإننا نواجه تطابقين في باب المطلق (=أكرم العالم) والمقيد (=لا تكرم العالم الفاسق): 1- المطلق: ظهوره مستفاد من أصالة التطابق في الإثبات مع الثبوت في الوجود 2- المقيد: ظهوره مستفاد من أصالة التطابق في العدم. فالمقيد يقتضي أن ما ذكره في عالم الإثبات يريده في عالم الثبوت، بينما مقتضى المطلق هو تطابق الإثبات مع الثبوت في جانب العدم، أي: لم يذكر قيد العدالة في عالم الكلام فلم يرده في عالم الثبوت. والعقلاء يقدمون المقيد على المطلق. فتكون النتيجة هي عدم تداخل المسببات لأن هذا هو ما يقتضيه الظهور الأول الذي قدمناه على الظهور الثاني.

هذا تمام الكلام في المقام الثاني (مقام تداخل المسببات وعدم تداخلها) وقد عرفنا أن مقتضى القاعدة - بمعزل عن الدليل الخاص - هو عدم تداخل المسببات.

[1] - سورة البقرة (2): الآية 275.

[2] - ولا يمكن ذكر العام والخاص كضد لهذا الشاهد؛ لأن العام والخاص دلالتيهما على العموم والخصوص وضعية ونحن في المقام نتحدث عن الدلالة الحكمية ومقدمات الحكمة.